مذكرات مبتعث (2) أول يوم دراسي ..

October 2nd, 2010, 12:10 PM

أول يوم دراسي ..

بعد يوم حافل .. وبعد رحلة طويلة تسمع فيها أزيز المفاصل .. وتشعر بآلام الرقبة .. ووخزات متفرقة في ظهر .. أحسست بذات الوخزات عندما كنت على كرسي بحث الماجستير أشاهد البرامج التنصيرية ساعات طويلة أنسى فيها نفسي لأظفر بدقائق معدودة أدونها في دراستي .. يزداد ألم هذه الوخزات عندما أستوي على سريري في وسط غرفة واسعة ..تتحكم برائحتها وأنوارها .. أما الآن أخفف آلام طعنات الظهر على سرير صغير في الجانب الأيسر من الغرفة.. وفي يمينها طاولة وكرسي وإنارة صغيرة للقراءة .. إذا أردت شحن جوالي لا أتكلف الانتقال من سريري .. أمد يدي قليلاً بجوار الطاولة ليبدأ الشاحن بالعمل .. كل شيء جديد وغريب في هذه الغرفة الطولية .. نسيت معها هموم الرياض ومن تركتهم.. اسمع بداية زخات مطر من الشباك الذي عندي قدمي .. نظري شاخص إلى السقف الأبيض .. أفكر في دراستي غداً .. بشيء من الحماس والقلق.. ماذا سأواجه ؟ هل سيمر اليوم الأول على خير؟ كيف سأستوعب الدرس بلغة إنجليزية؟ زخات المطر تدق طبول الحرب في نفسي .. تذكرت أول يوم دراسي في الابتدائي كيف كان متعباً وقاسياً؟ نفس الشعور وربما أشد- الآن- بدأ يغزو تفكيري ..

"بقة" تطير في فوق رأسي .. الله .. أيها "البقة" تبعتيني إلى فانكوفر .. أوووه هذه بقة الرياض .. هل أتت معي في الشنط؟ أم قبيلة "البق" ممتدة في كل مكان فلا تشعر بالغربة مثلي .. أتذكر "البقة" التي رسمت خرائط على وجه ابني خالد عندما كان رضيعاً .. وجدنا الغزوة نجحت .. وآثار المعركة في احمرار وانتفاخ على وجهه البريء ..وعادة البقة لقواعدها سالمة .. أشعر أن للمطر نغمة جديدة .. تشعرني بالحنين للرياض .. كأنها موال عراقي على فراق بغداد .. أشعر بشيء غريب ! اسمع لحناً جديداً لمنشد واحد لكن إيقاعاته متنوعة .. روح المطر! .. هل هي نظرية اخترعتها في أول ليلة هنا ؟ .. المطر له روح لا يشعر به إلا من فقد شيئاً يحن إليه ..

رنين الساعة يقطع أحلامي .. اطمأننت على الوقت .. لبست الملابس بعناية تامة كما يفعل" المستجد" دوماً .. من زمان لم أحمل شنطة سوداء صغيرة على ظهري .. وقبعتي البنية فوق رأسي .. خرجت ونغمات المطر ترحب بقدومي .. فلم أشترِ مظلة بعد حتى أرد التحية لها .. انتظرت في موقف الباص .. والناس هنا عادة يذهبون إلى أعمالهم بوسائل المواصلات الجماعية .. التي نحلم فيها في بلادنا! .. توقف الباص وأنا واقف في صف عمودي .. يدخل الركاب الواحد تلو الآخر .. ركبت ولأول مرة أستخدم كرت الركوب .. وهو كرت صغير أصفر فيه خط أسود طولي .. استعنت بالسائق حتى يضعه على جنبه الصحيح .. لم أجد مكاناً للجلوس .. تمسكت بأحد الأعمدة بصعوبة .. الناس الوقوف راسخة أقدامهم ولا يتحركون .. أما أنا فأتمايل يمنة ويسرة ..إن توقف خبطت بمن أمامي .. وإن تحرك ضايقت من خلفي .. التمسك بالأعمدة لها إستراتيجية خاصة .. عرفتها بعد عناء ..

وصلت لمحطة القطار السريع (السكاي ترين) المزدحم في وقت الذروة .. تفاجأت من سرعته .. ودقة مواعيده .. وأكبر مفاجأة لم أصدقها أنه يسير بلا سائق! .. لك أن تتخيل عشرات القطارات تسير في وقت واحد وفي أماكن متفرقة بلا سائق! .. يتوقف في محطة تلو الأخرى .. حتى توقفت في محطة " قرانفل" .. صعدت إلى الأعلى عن طريق السلم الكهربائي .. توقفت إلى اليسار .. وأنا متحفز للدراسة ومسترسل التفكير في الناس من حولي .. السلم عادة يستوعب شخصين يقفان على نفس الدرجة .. استغربت أن العمود على يميني ممتلئ من الأعلى إلى الأسفل .. أما العمود الذي أقف فيه لا يوجد أحد أمامي والناس وقوفاً خلفي .. لم أتمهل قليلا حتى سمعت صوتاً من الخلف .. لو سمحت .. لو سمحت .. تمتم بكلام لم أفهمه .. عرفت بعد ذلك أنه لا يحق لي الوقوف في العمود الأيسر .. ومن أراد الوقوف عليه أن يقف في الأيمن .. وإلا أخرت المستعجلين في الصعود .. خرجت للشارع .. رأيت حراكاً كبيراً .. رجال .. نساء .. كبار .. صغار .. يمشون بسرعة إلى أعمالهم ..

لفت نظري أشكال غريبة رثة الملابس .. تجلس على الأرصفة .. أمامهم كرتون خشبي مكتوب عليه بقلم خط عريض أشياء لم أفهمها .. عرفت أن هؤلاء "هوملس" يسكنون الشوارع ويلتحفون السماء .. مشردون ..لا مال .. لا عائلة .. لا سكن .. ولا أكل .. وتعجبت لما رأيت هوملس مسلم يصلي معنا .. بعد الصلاة طلب مالاً .. أعطيته شيئاً قليلاً .. وبعد دقائق أوقفني في الشارع يقول: أعطني دولاراً حق البيبسي .. أُخبرت أن هذا الرجل صاحب سهرات وبارات وفي عقله "لحسة" بسيطة .. أتاني في يوم آخر قلت له: سأشتري لك وجبة من محل البيتزا هذا .. قال: أنا أحتاج فلوس .. قلت له: "إذا تبي وجبة أو بمشي" .. قال: إذا أنت ملزِّم على الوجبة خلينا نروح لمطعم " أبو علي" ونشتري منه .. طبعا هذا هوملس ذكي .. الوجبة عند " أبو علي" غالية نوعاً ما.. ويريد أن يحلب مزيدا من المال .. قلت: "تبي بتيزا وإلا مع السلامة" .. غضب وأخذ يصرخ : "العرب جرب .. العرب جرب" ..

وقفت عند باب معهد (إي إل اس) .. قابلت أخي تركي الشهري- زميلي في قناة المجد- كان له دور كبير ومشكور في قدومي إلى فانكوفر.. ذهبت بعدها إلى الإدارة .. قابلتهم وأنا لا أحسن إلا "نعم" و " لا" واسمي ودولتي ومعلومات قليلة جداً .. بعد تحديد المستوى ذهبت إلى القاعة ..صدمة! .. وجدت معلمة .. طلاب .. طالبات .. شيء جديد في حياتي .. وكانت أول صدمة كبيرة تلقيتها في كندا! ..
تشرح المدرسة وأنا مستنكر نفسي بينهم .. طالب يسأل .. طالبة تذهب إلى السبورة وتكتب جملة .. وأنا لا أرى .. لا أسمع .. لا أتكلم .. لم أستطع التعامل مع القاعة إلا بعد أسابيع ..

في الأيام الأولى .. إذا ضحكوا ضحكت .. وإن سكتوا سكت .. "وإن نهشوا لحمي وفرت لحومهم" .. القاعدة عندي: خليك بالجو.. وأصعب شيء عندما تتحدث معي المعلمة فلا أعلم هل هي تخبرني معلومة .. أم تسأل وتنتظر الإجابة؟! .. إن تأخرت الإجابة انتهى الموقف بابتسامة محرجة ..

جاء وقت صلاة الظهر .. ذهبت إلى دورة مياه للوضوء .. تفاجأت أن أمامي مجموعة من النساء فقط .. رجعت مرتبكاً .. ربما في عقلي الباطن أن الأمور هناك سبهللا! .. معلمة في وجهي .. كأنها تقول: " وش جايبك هنا يا ولد" .. فهمت فيما بعد أن النساء لا يرحبن في الرجال في الدورات لأسباب مقنعه على الأقل بالنسبة لي .. لأن الرجل لا يعتني بنظافة المكان!! .. ذهبت إلى دورة مياه الرجال .. نفس حماماتنا إلا أن "ماء عند الضرورة" غير موجود .. كان كابوساً كبيراً قبل أن آتي إلى كندا .. كيف نتصرف في أوقات الراحة؟ .. لم أجد جوابا يشفي الغليل ويريح الضمير! ..

بعد الصلاة على حصير أصفر اشتراه بعض الطلاب.. احترت هل أذهب إلى مطعم "نجاة" العراقي .. أم أذهب لمحل البيتزا لأرجع للمعهد بسرعة؟! .. لم أغير الاتجاه لأن المحلين متجاوران .. بعد تفكير يسير وجدت ميولاً داخلية للبيتزا " مالها داعي تتأخر في أول أيامك" .. دخلت المحل .. تفحصت البيتزا بسرعة .. ماذا أختار؟" واش الزين يا ولد"؟ وأي الأشكال أجمل ؟ وقع اختياري على بيتزا عليها خضار ومطرزة بزيتون أسود .. منظرها يسيل له اللعاب .. قلت للبائع: أريد هذه ؟ نظر إلي نظرة تعجب! .. قال كلمة! لم أفهمها .. لكني أحسست أنها بصيغة سؤال كالعادة.. جاوبت "بنعم" أريدها .. قال كلمة أخرى وهو في غاااية التعجب!! لم أفهمها أيضاً .. قلت "نعم" نفسي ارتاحت لهذه القطعة الجميلة .. ثم قال بنبرة متعجبة! .. "هل أنت مسلم؟!" .. أحسست بصفعة "خطافية" .. وركلة جانبية .. يبدو أن شيئاً خطأ يحدث على خط التماس.. قلت "نعم أنا مسلم!" .. قال هذه القطعة فيها "لحم خنزير" .. فهمت عليه الآن لما أتى بمفردة " هام" .. صعقت حقيقة .. كدت أن أتلذذ ببيتزا مخنزرة! ..

السبت القادم إن شاء الله .. أول إجازة أسبوعية " الويكند" وقصتي مع السكارى ..

• نشر عبر تويتر
• نشر عبر فيسبوك
• نشر عبر جوجل