الجزء الأول هنا
مع مرور الأيام بدأت الدموع تجف تدريجيا و أضطر الزوار في ذلك الممر لتمضية وقت الانتظار في التعارف..و لكن ذلك ذلك التعارف تسبب في ظهور أزمة زادت الأمور تعقيدا من ناحية و خففتها من ناحية أخرى.. فعندما تسأل من بجوارك عن حالة مريضه فيجيبك "فيروس مجهول من الطواريء.. أصاب الكلى" و تسأل الآخر فيجيب"فيروس مجهول" أصبح الأمر مخيفا ..أول ما يتبادر إلى ذهنك استرجاع مشاهد شاهدتها في بعض الأفلام الأمريكية التي تحمل قصص مشابهة..الأمر مثير للشكوك ..خاصة أن هذا المستشفى يعمل به الكثير من غير المسلمين ..و سواء كنت إنسان محدود التفكير أم متفتح العقل ..لا يمكنك تجاهل بعض الاحتمالات الشاذة.
مؤخرا عرفنا أن هذا الفيروس قد اصاب بعض الملوك و الرؤساء ..فالمرض لا يفرق بين البشر..و لكن لم لا يتعامل الأطباء مع المريض بشفافية ووضوح؟ يبدو أن الوعي انتشر فجأة في مجتمعنا و لا زال بعض أطباؤنا يعتقد أنه يتفرد بالعلم و الوعي متجاهلا المستوى الثقافي للمريض و أهله.
في العناية المركزة و في في تلك الفترة كان أحد المرضى مسؤول كبير جدا ..VIP..يرقد على سرير مختلف و لكن لم يكن هناك فرق شاسع في التعامل معه و مع غيره إنسانيا و طبيا و هذا يحسب لهذه المستشفى
و بصراحة ..لا يمكنك تجاهل مستوى الخدمات الراقية..و جودة الآلات الطبية..و اهتمام الأطباء السعوديين..و تفاني الممرضين الأجانب و غير المسلمين و حرصهم على مصلحة المريض و اللذي يبدو أكثر من اهتمام الأهل أنفسهم..كلمة الحق تقال بالرغم من أن القدر يوقعك أحيانا بين يدي من لا ضمير له و لكن لا للتعميم.
الجميل أن بالمستشفى قسم للرقية الشرعية لمعالجة المرضى بلا مقابل..شي يجعلك تشعر بالعز و الافتخار كونك مواطن سعودي تحظى بكل هذا الاهتمام لمجرد كونك إنسان.
و أمام عجز العلم عن الوقوف أمام ما اتفقنا على تسميته "جرثومة خبيثة" فقد عجز الأطباء في التعرف عليها في البداية لأنها أسلوبها باختصار و بدون دخول في تفاصيل علمية"خبيث".
أمام هذا العجز سلم الجميع الأمر لله تعالى..و هو له سبحانه أولا و أخيرا..و لكن حال البشر ..لا يتذكروا إلا في مراحل متأخرة.
لم يكن يسمح للزوار إلا بدقائق معدودة و لكن زوجة مريضنا قدمت طلب لإدارة المستشفى بأن يسمح لها بساعتين في الصباح و مثلها في المساء لقراءة سورة البقرة يوميا..و الحق يقال أنهم لم يقصروا و سمحوا بذلك رغم أنه ليس من حقها و لم يكن يسمح لها لو كانت في أي مستشفى في دولة أخرى.
اضطرت لتقديم الطلب للإدارة بعد فشل محاولاتها في اقناع ذلك السكيورتي المتحاذق الذي لم يسمح لها إلا بساعة فقط ..ووفق هواه..أحيانا تشعر في بعض مرافقنا أن الفراش أو رجل الأمن يملك الكثير من الصلاحيات التي تجعل ثقته بنفسه تتحول إلى غرور..حتى عندما جاء مسؤول كبير و سمح لأبناء المريض الدخول ..رفض السكيوريتي و قال:" حتى هذا المسؤول لن يدخل إلا بإذني"..
و بعد أن أعطي السكيوريتي من النفخ و الكلام المعسول سمح ببضع دقائق إضافية حتى جاء الإذن من الإدارة.
استمرت الزوجة و الأبناء في القراءة فليس أفضل من قراءة أصحاب الحاجة..و كل ما مرت الأيام تسمع بانتقال أحد المرضى إلى رحمة الله..حرب نفسية مع المرض الذي يشعر الإنسان بضعفه في هذا الكون العظيم الخاضع لإرادة إله عظيم..سبحانه.
و بجانب القراءة..كانت زوجته تكلمه و ترجوه أن يعود..لم يبتسم..لم يحرك حاجباه كما تشاهد في الأفلام و لكن لا يأس مع الحياة.. أكثر التوقعات تفاؤلا كانت أن يعود للحياة
(نعم يعود فحالتة لم يبق فيها ما يمكن تسميته حياة) توقع الكل أن يعود مع استخدام جهاز التنفس الصناعي يعني يعود بلا حركة بلا كلام..ليته يفعلها.. فحسه في الدنيا من أعظم النعم.
7 " مع مرور الأيام بدأت الدموع تجف تدريجيا و أضطر الزوار في ذلك الممر لتمضية وقت الانتظار في التعارف..و لكن ذلك ذلك التعارف تسبب في ظهور أزمة زادت الأمور تعقيدا من ناحية و خففتها من ناحية أخرى.. فعندما تسأل من بجوارك عن حالة مريضه فيجيبك "فيروس مجهول من الطواريء.. أصاب الكلى" و تسأل الآخر فيجيب"فيروس مجهول" أصبح الأمر مخيفا ..أول ما يتبادر إلى ذهنك استرجاع مشاهد شاهدتها في بعض الأفلام الأمريكية التي تحمل قصص مشابهة..الأمر مثير للشكوك ..خاصة أن هذا المستشفى يعمل به الكثير من غير المسلمين ..و سواء كنت إنسان محدود التفكير أم متفتح العقل ..لا يمكنك تجاهل بعض الاحتمالات الشاذة.
مؤخرا عرفنا أن هذا الفيروس قد اصاب بعض الملوك و الرؤساء ..فالمرض لا يفرق بين البشر..و لكن لم لا يتعامل الأطباء مع المريض بشفافية ووضوح؟ يبدو أن الوعي انتشر فجأة في مجتمعنا و لا زال بعض أطباؤنا يعتقد أنه يتفرد بالعلم و الوعي متجاهلا المستوى الثقافي للمريض و أهله.
في العناية المركزة و في في تلك الفترة كان أحد المرضى مسؤول كبير جدا ..VIP..يرقد على سرير مختلف و لكن لم يكن هناك فرق شاسع في التعامل معه و مع غيره إنسانيا و طبيا و هذا يحسب لهذه المستشفى
و بصراحة ..لا يمكنك تجاهل مستوى الخدمات الراقية..و جودة الآلات الطبية..و اهتمام الأطباء السعوديين..و تفاني الممرضين الأجانب و غير المسلمين و حرصهم على مصلحة المريض و اللذي يبدو أكثر من اهتمام الأهل أنفسهم..كلمة الحق تقال بالرغم من أن القدر يوقعك أحيانا بين يدي من لا ضمير له و لكن لا للتعميم.
الجميل أن بالمستشفى قسم للرقية الشرعية لمعالجة المرضى بلا مقابل..شي يجعلك تشعر بالعز و الافتخار كونك مواطن سعودي تحظى بكل هذا الاهتمام لمجرد كونك إنسان.
و أمام عجز العلم عن الوقوف أمام ما اتفقنا على تسميته "جرثومة خبيثة" فقد عجز الأطباء في التعرف عليها في البداية لأنها أسلوبها باختصار و بدون دخول في تفاصيل علمية"خبيث".
أمام هذا العجز سلم الجميع الأمر لله تعالى..و هو له سبحانه أولا و أخيرا..و لكن حال البشر ..لا يتذكروا إلا في مراحل متأخرة.
لم يكن يسمح للزوار إلا بدقائق معدودة و لكن زوجة مريضنا قدمت طلب لإدارة المستشفى بأن يسمح لها بساعتين في الصباح و مثلها في المساء لقراءة سورة البقرة يوميا..و الحق يقال أنهم لم يقصروا و سمحوا بذلك رغم أنه ليس من حقها و لم يكن يسمح لها لو كانت في أي مستشفى في دولة أخرى.
اضطرت لتقديم الطلب للإدارة بعد فشل محاولاتها في اقناع ذلك السكيورتي المتحاذق الذي لم يسمح لها إلا بساعة فقط ..ووفق هواه..أحيانا تشعر في بعض مرافقنا أن الفراش أو رجل الأمن يملك الكثير من الصلاحيات التي تجعل ثقته بنفسه تتحول إلى غرور..حتى عندما جاء مسؤول كبير و سمح لأبناء المريض الدخول ..رفض السكيوريتي و قال:" حتى هذا المسؤول لن يدخل إلا بإذني"..
و بعد أن أعطي السكيوريتي من النفخ و الكلام المعسول سمح ببضع دقائق إضافية حتى جاء الإذن من الإدارة.
استمرت الزوجة و الأبناء في القراءة فليس أفضل من قراءة أصحاب الحاجة..و كل ما مرت الأيام تسمع بانتقال أحد المرضى إلى رحمة الله..حرب نفسية مع المرض الذي يشعر الإنسان بضعفه في هذا الكون العظيم الخاضع لإرادة إله عظيم..سبحانه.
و بجانب القراءة..كانت زوجته تكلمه و ترجوه أن يعود..لم يبتسم..لم يحرك حاجباه كما تشاهد في الأفلام و لكن لا يأس مع الحياة.. أكثر التوقعات تفاؤلا كانت أن يعود للحياة
(نعم يعود فحالتة لم يبق فيها ما يمكن تسميته حياة) توقع الكل أن يعود مع استخدام جهاز التنفس الصناعي يعني يعود بلا حركة بلا كلام..ليته يفعلها.. فحسه في الدنيا من أعظم النعم.
March 3rd, 2007, 06:32 AM
من هنا أحببت إيصال القصة.
ذلك الرجل الستيني .. مواطن سعودي بسيط ..متوسط الدخل..عصامي ..لا يحب الشهرة و الأضواء و لفت النظر
يجد متعته في اسعاد من حوله ..من عائلته ..و حتى النجار و الكهربائي و السباك و بائع الفاكهة.
يستمتع بالنقاش الفكري معه زملاؤه من ذوي المناصب و الشهادات العليا في حفلاتهم الفارهة التي تعقد بشكل دوري و حتى العمال الأجانب البسطاء و هم يجالسونه عند باب الدار..يسعد بصحبته في صالات تداول الأسهم الشباب قبل الشيبان.
تبدو على سيماه السعادة و الرضا..و لكن يبدو أن تلك الملامح كانت تتقن اخفاء آلام أكبر من أن يتحملها ذلك القلب الذي أثقله حمل هموم الغير إلى جانب همومه أتقن إخفاءها ببراعة حتى لا يتسبب بلحظة ألم لمن حوله.
ملامح الطبيب لا تحمل أخبارا سارة..أخذ يسأل زوجته ..هل هو مدخن؟ أدركت فورا أن الأمر خطير..خاصة أنه لم يضع سيجارة في فمه طيلة حياته..و لا حتى من حوله حتى نقول تدخين سلبي..و لكن..نعم تذكرت ..رددت زوجته "ربما من مجالسة المدخنين في صالات التداول" و لكن ما الأمر..أجاب الطبيب استسقاء في الرئة..التي أصبحت تعمل بأقل من ثلث وظيفتها..و ماذا أيضا؟ لم يجب الطبيب.
نظرت الزوجة أوراق التشخيص خلسة و لكن رغم إجادتها للغة إلا أن المصطلحات الطبية عصية أحيانا..حفظت الكلمات و ترجمتها فور عودتها إلى المنزل..و خلال ثواني أصبحت عيناها بلون الدم..لا يظهر من بياضها إلا القليل..فالأمر وصل للقلب ..ذلك القلب الذي طالما حلمت بأن تتربه على عرشه بغرور..القلب الطيب.
إنها العين..أول ما تبادر إلى ذهن هذه المرأة الشرقية المؤمنة..و العين حق ..لطالما سمعت الناس يصفونه بذو القلب الكبير..و هاهو الآن مصاب بتقلص في عضلة القلب تقولها بضحكة تخفي خلفها آلام حارقة.
تغير نمط معيشة ذلك الرجل فقد أصبح غذاؤه تحت المراقبة و كلما تسلل أحد أبناؤه إلى المطبخ ليأتي له بقطعة حلوى تعرض اضطر لسماع تلك الكلمات المزعجة" أبوكم مريض..لا تقتلوه..ناموا جنبه ليلة و اسمعوا نفسه كيف يتقطع و يقطع قلبي معاه"..كأن الموت يحوم حوله.. كلمات تضطر كل من في المنزل لعمل ريجيم إجباري.
اقترح الطبيب زراعة منظم ضربات القلب(pace maker) لم يكن المريض مقتنعا بأن يعيش بقلب آلي كالروبوت..هذا ما تصوره ..تردد كثيرا..فهذه فرصة مجانية لمنحه جهاز بحوالي ربع ملون ريال على حساب الدولة ..لمجرد أنه إنسان..و فرصة للاستفادة من أحدث التقنيات الطبية التي صنعها الغرب لخدمة الإنسان ..لمجرد أنه إنسان .
و أمام التأثيرات تمت زراعة الجهاز الذي صدم بعد تركيبه بكبر حجمه ..فبالامكان تحسسه فوق عظام الصدر و لكن الخيرة فيما اختار الله.
و مع مرور السنوات اعتاد على وجود تلك القطعة الغريبة في أحشاؤه و النظام الغذائي و الأنظمة الصارمة و مراجعة المستشفى بشكل دوري و الحبوب و الادوية من كل صنف و لون ..فالسن له دور.
و في إحدى زيارته للمستشفى بسب عارض بسيط .. طالب الطبيب بتنويمه في المستشفى لأسباب مجهولة..لم يمنع عنه الطبيب الزيارة و كان بكامل وعيه بدا الأمر بسيطا إلا على ابنته التي بدا لها أن مناعته ضعيفة و الأمر ليس بسيطا..و لكن كيف لم يمنع الطبيب زيارته؟
في اليوم التالي فقد الوعي و تم ادخاله للعناية المركزة..ما السبب؟ عبثا حاول الجميع الحصول على إجابة بلا فائدة ..و أمام اصرار زوجته لم تجد إلا إجابات متناقضة ..فهذا الطبيب يقول بكتريا و آخر فيروس و كأن المواطن لا يعرف التفريق بين البكتريا و الفيروس و الجرثومة.. و أما محاولات الزوجة استطاعت الحصول على إجابة مقنعة..زوجها مصاب بنوع من البكتريا بالاسم الفلاني ..التقطها من قسم الطواريء.
إحدى الإجابات على ذلك السؤال الصعب (نعم إجابة مريض عن تشخيص حالته تكون صعبة على البعض) كانت تقول بأنه مصاب بجرثومة أصابت القلب و الرئة و الكلي.."يكفي يكفي لا أريد سماع المزيد" صوت داخل الزوجة لا تسمعه هي و لكن سمعه كل من حولها..ماذا بقي ..لعلكم تريدون قول أنه توفي بطريقة لطيفة؟
و على كثر ما تشاهد من دموع الرجال و أنين النساء الصادر من خلف أغطية وجوههن..إلا أن من أعجب المشاهد انهيار أحد أصدقاء ذلك الرجل الذي دخل من باب العناية المركزة و خرج قبل إتمام دقائقة المحددة و هو لا يرى الدرب أمامه يركض للخروج من المستشفى بلا سلام و لا كلام يبكي كطفل صغير و دموعه تركض وراءه و تتسابق للاختفاء تحت شماغه في موقف لم يتعرض له حتى أبناء ذلك المريض. موقف يجعلك تتسائل هل الصداقة هي أسمى و أقوى العلاقات الإنسانية فعلا؟
للقصة تتمة.....