الأعضاء الإشتراك و التسجيل

الملتقيات
ADs

رحلتي إلى النور..

رحلتي إلى النور..


NOTICE

تنبيه: هذا الموضوع قديم. تم طرحه قبل 5086 يوم مضى, قد يكون هناك ردود جديدة هي من سببت رفع الموضوع!

قائمة الأعضاء الموسومين في هذا الموضوع

  1. الصورة الرمزية الحـــاج مـــوسى
    الحـــاج مـــوسى

    مبتعث مجتهد Senior Member

    الحـــاج مـــوسى المملكة المتحدة

    الحـــاج مـــوسى , ذكر. مبتعث مجتهد Senior Member. من السعودية , مبتعث فى المملكة المتحدة , تخصصى Chrome , بجامعة Google
    • Google
    • Chrome
    • ذكر
    • London, England
    • السعودية
    • Nov 2008
    المزيدl

    May 18th, 2010, 09:18 PM

    بين أيديكم الكريمة...أعضاء مبتعث..

    أقدم لكم أحد القصص المشهورة والتي ذاع صيتها على شبكة الإنترنت..

    راويها...قريبي... المعروف بـ مالك الرحبي.. محمد بن أحمد بن منسي الغامدي...عليه رحمة الله

    كان قد كتبها على شكل حلقات متتاليه...في أحد المنتديات...

    وأنا هنا...أطرحها كاملة...فقط...لمن لم يقرأها قبل الآن...

    وهي على بضعة وستون حلقة...

    لن أطيل في التقديم لها...فقد قدم لها رحمه الله...مايغني عن تدخلي..

    فهاهي بين يديكم..




    رحلتي الى النور
    بسم الله الرحمن الرحيم
    هذه فصول قصة حقيقية ...
    أسردها سردا كما هي ...
    قد مر على فصولها أكثر من خمسة عشر عاما..
    ومع ذلك فمشاهدها وحكاياتها ما زالت راسخة في الفؤاد..
    قد نقشت فيه كما ينقش في الصخر لا يزول إلا بأمر الله..
    أطلب من القارئ الكريم أن يتمهل ولا يستعجل..في الحكم على القصة..
    حتى تستكمل فصولها وينتهي رقمها ..
    فهي في النهاية تحكي مواقف عن رجل فذ قد طوته اللحود..
    هذا الرجل هو شامة في جبين التاريخ في عصرنا..
    وأنا في موقفي هذا معه ما أنا إلا حاك وناقل لموقف واحد فقط من مواقفه ..
    وحسنة واحدة من حسناته ..
    أحكي لكم عن هذا الرجل وأقسم على كل حرف فيه ..
    أرويه كما حصل بلا زيادة ونقصان..
    وأما حصر أفعال هذا الرجل ، ورصد جمائله على الناس والأمة
    فهذا مما تعجز عنه طاقة الناس ...
    فمنذا يقدر حصر أفعاله ليجمع أفعال غيره!!
    فأمره إلى الله ..
    هو حسيبه تعالى ورقيبه لا يخفى عليه من أمره شيء..
    سيجد القارئ الكريم في أول القصة مواقف تعنيني أنا بشخصي..
    وهي في النهاية عن شخص مغمور ..
    ولكنها في الخاتمة تكشف نبلا عزيزا لإمام جليل .. قد آن الأوان أن تعرف قصته..
    وقد حكيت بعضا من تلك القصة على أحبابي وأترابي..
    فكلهم أقسم علي إلا أن أكتبها وأنشرها .. فهي واجبة من الواجبات..
    وحق لهذا الإمام علي كأقل جميل له علي أرده..
    خاصة وأنني مقبل على أمر جلل.. لا أدري ما خاتمته..
    فلتكن إذا صدقة من الصدقات وذخرا لي عند الباري سبحانه وتعالى ..
    لعل الله أن يعفو عن الزلات ويتجاوز عني في الصالحين..
    اللهم اغفر لي ولشيخنا وأستاذنا ولوالدي واجعلني معهم في فردوسك الأعلى يا أرحم
    الراحمين.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..




  2. كود:
    الحلقة الأولى في عام 1409 للهجرة .. كنت أدرس في الصف الثاني المتوسط بمدرسة حطين في مدينة الطائف.. وكنت حينها فتى كأترابي ... لاهم لي في الحياة سوى مدرستي واللعب مع أصحابي بعد انتهاء الدراسة.. لم يكن لدي أي ميول نحو التدين والاستقامة والالتزام بشعائر الدين .. بل كنت حينها لا اعرف معنى للدين .. فقد ربينا للأسف من الصغر.. على الاهتمام بدروسنا ومدرستنا ولم يكن لجانب الدين أي شيء يذكر من الأهمية.. ويقتصر ذلك في الغالب على صلاة الجمعة .. أو الأعياد.. كان أول شخص متدين ومستقيم أتأثر به وأحبه هو أستاذي في مادة التربية الدينية في تلك السنة واسمه عمير القرشي.. إن ابتسامة وطيبة الأستاذ عمير ونصائحه وتوجيهاته.. كل ذلك ما زال في الذاكرة محتبسا .. وكلماته ... ما زالت ترن في أذني حتى هذه الساعة وأنا أكتب هذه المذكرات.. لقد كان مربيا فذا ورجلا ساحرا بعباراته الصادقة .. كان حينما يفسر آيات القرءان الكريم ويصف مشاهد يوم القيامة والحشر والجنة والنار كانت كلماته وعباراته تلج القلوب كالسهام.. كان يسير في الصف وبين الطاولات فكنت أطارده بنظري أينما توجه .. أريد أن ألتهم ما يقوله التهاما .. كانت العبارات تخرج من فمه كأنها مدافع تدوي تدك كل حظوظ الشيطان في القلوب.. أحسبه رجلا مخلصا والله حسيبه.. كنا أحيانا ونحن في تلك السنون ما زلنا في حكم الطفولة..!!! كنا والله يبلغ بنا التأثر بحديثه حتى نبكي..!! ولكن للأسف فجأة وبلا مقدمات حرمنا من هذا الأستاذ الجليل.. لينقل في التوجيه في إدارة التعليم في المنطقة..!!! لقد كان خطئا فادحا أن يحرم الطلاب من هذا المعلم ذو الطراز النادر لينقل لعمل إداري ولكن الله تعالى خلف علينا خيرا في أستاذ آخر .. كان له فضل علي بشكل خاص.. لا أنساه له أبدا .. إنه الأستاذ طلال المشعبي.. قال لنا الأستاذ طلال : أنا تلميذ للأستاذ عمير القرشي .. فهو أستاذي وشيخي وأستاذكم لذا سنحاول أن نكمل المسيرة على نفس المنوال.. لن أطيل الحديث في مواقف الأستاذ طلال بارك الله فيه.. ولكن سأذكر موقفا له غير مجرى حياتي للخير إن شاء الله تعالى.. أبدى الأستاذ طلال بي اهتماما خاصا .. ولقد كنت بحمد الله في فصلي من النابهين.. أحببته حبا يتجاوز حدود الاحترام للطالب مع أستاذه ... لتصبح العلاقة علاقة شبيهة بود الابن مع والده .. سجلت في برامج التوعية في وقت الفسحة.. وكنت استمع مع الآخرين لتوجيهات الأستاذ طلال.. وذات مرة كنت ألعب أمام منزلنا القريب من الجامع فلاحظت سيارة شبيهة بسيارة الأستاذ طلال .. انتظرت ولم أصل !!! حتى يخرج صاحبها بعد الصلاة.. وفعلا خرج الأستاذ طلال .. كان للمعلم حينها مهابة هائلة في قلوب الطلاب خلاف ما أسمعه اليوم!! توجهت إليه وسلمت عليه... فسألني بصرامة : هل صليت؟؟ مسحت قفاي وأرخيت رأسي وقلت لا !! قال ليش؟؟ استحييت ولم أجب فهل سأقول أنا لا أصلي أصلا!!! فهم الحال ، ولم أنتظر أن يعاتبني توجهت لدورات المياه وتوضأت للصلاة.. ثم دخلت المسجد فركعت أربع ركعات للعشاء.. خرجت من المسجد فلم أرى أحدا .. بعد عدة أيام رأيت سيارة الأستاذ طلال مرة أخرى أمام المسجد .. وهذه المرة سابقت الريح لأصلي مع الجماعة.. وبعد الصلاة تعمدت أن أظهر للأستاذ خروجي من المسجد.. ابتسم أستاذي وناداني .. اقتربت منه وقال لي أين منزلكم.. أشرت له لمنزلنا المستأجر حيث قد باع الوالد بيتنا القديم وهو يبني بيتا جديدا في مخطط السحيلي شرق الطائف .. دعوته لزيارتنا فقال الآن لا يصلح ولا أستطيع ولكن ممكن أزوركم غدا !!! رحبت به وواعدته غدا بعد صلاة المغرب..!! ذهبت لوالدي وبلغته بالحال.. استغرب الوالد من الزيارة .. فليس من العادة أن يزور معلم تلميذا في بيته .. وليس أيضا من العادة أن يدعوا فتى صغير رجلا كبيرا بغير إذن أهله.. رضخ الوالد للأمر الواقع وقال أهلا به .. في اليوم التالي زارنا الأستاذ طلال في بيتنا وتعرف على الوالد .. وكان والدي حينها مديرا لإحدى مدارس الطائف.. كان اللقاء رسميا .. ووالدي من طبعه رحمه الله التكلف مع الضيف.. فيشعر ذلك الضيف بالحرج فتنقلب المسألة مجاملات في مجاملات.. والسؤال لماذا الزيارة؟ وما هدفها؟ وهل كان الأستاذ طلال متعمدا لكل ما سبق ؟؟ ذكر الأستاذ طلال للوالد أن هناك مخيما للشباب في فترة الإجازة النصف سنوية.. ومدة المخيم أسبوع وتنظمه إدارة التعليم في الطائف.. وقد حث والدي على أن أشارك في هذا المخيم!!! قال الوالد لا بأس بذلك !! فرحت بذلك وسررت بالفكرة فقد كان ذلك بمثابة حلم لي أن أشارك في عمل كهذا .. انتهت أيام الامتحانات .. وفي صباح يوم من أيام الربيع الجميلة حملني والدي برفقة أخيه الصغير ( عمي) في سيارته إلى موقع تجمع المشاركين في المخيم... وذلك خلف فناء إدارة التعليم في الطائف.. وضع والدي في جيبي ثلاثين ريالا وكذلك في جيب أخيه .. أظن هذا اكبر مبلغ حصلت عليه في حياتي منذ ولدت حتى ذلك التاريخ!!! حينما وصلنا لمنطقة التجمع هالني الجمع الغفير من الفتيان ممن هم في سني أو قريبا مني .. أذكر أن الساحة امتلأت بالحقائب وأكياس النايلون الكبيرة المحشوة بالملابس وبعضهم أحضر معه وسائد وطرا ريح والحفة مطوية بحبال !!! أما أنا فجئت بثوبي الذي علي وكيس صغير فيه ملابس قليلة للتبديل..!! غادر الوالد بعد أن تأكد من المشرفين عن أن كل شيء على ما يرام.. طلعت الشمس وما زالت الجموع تزيد حتى غصت بهم الساحة .. في حوالي الساعة الثامنة نادى مشرفوا المخيم على أسماء الطلاب المسجلين في المخيم.. وركبت في الباص المحدد لمجموعتي .. كانت وجهتنا لمنطقة الشرائع قريبا من مكة المكرمة شرفها الله.. في الباص وقف شخص عليه لحية حمراء وثيابه نظيفة .. وساعته في اليمين..!!! كان على وجهه نور الطاعة .. وقف ليذكرنا بدعاء السفر وسأل: من يعرف دعاء السفر؟؟ أول مرة في حياتي أسمع بدعاء السفر والله..!! رددناه جميعا خلفه .. حتى حفظته عن ظهر قلب منذ ذلك الوقت.. طوال الرحلة كان يتبادل المذكور مع زميل له.. قراءة مسابقات ورواية قصص وطرائف ونحو ذلك مما يفيد ويمتع.. كانت أول رحلة مفيدة وأول مرة أدرك كيف يمكن استغلال الوقت .. في مثل هذه الرحلات المليئة بالفائدة والإرشاد.. وصلنا لمنطقة المخيم.. وهي على يمين الداخل إلى مكة قبل أن تصل لنقطة التفتيش.. كانت أكوام الخيام ملقاة على أرض المخيم.. وطلبوا من كل مجموعة أن تتولى تركيب خيامها.. استمتعنا بذلك أيما استمتاع فهذا أول عمل جاد ومتقن أقوم به بشكل جماعي..!! وفي وقت صلاة الظهر اجتمعنا تحت خيمة واحدة ضخمة للصلاة.. ودخل علينا رجل في عمر الأربعينات عليه سيما الصلاح ووجه مليء بالجدية والصرامة..!!! وهو الشيخ محمد بن زاهر الشهري بارك الله في عمره ولم أكن اعرفه حينها.. امتلأ قلبي والله حينها من مهابته.. حينما وقف في وسط الخيمة وتكلم في الجموع بتوجيهات عامة وأمر كل شخص منا بالانضباط .. واستغلال هذه الأيام بالنافع المفيد كان الترتيب والنظام والضبط هو السيما البارزة على هذا العمل.. أذكر أن أصحابي أيقظوني للصلاة قبل الفجر .. وحينما ذهبت للوضوء أعطونا كاسات بلاستيكية .. بحيث يتوضأ الشخص بكأس واحدة فقط!!! رأيت المسجد مضاء والنعال تملاء أطرافه..!!! وحينما وصلت إليه شاهدت الناس كأنهم خلية نحل من صوت القرءان.. أمسكت بشخص مر بجواري وسألته : هل أذن الصبح؟؟ قال بقي نصف ساعة على الأذان !!! صلى بنا الفجر شخص رقيق وصوته جميل .. وسمعت أشخاصا تأثروا بالآيات فبكوا !! وبعد الصلاة وقف شخص ليتكلم لمدة عشر دقائق .. بخاطرة ونصيحة.. كان مطلوبا من كل مجموعة أن تختار شخصا يمثلها في الكلمات بعد الصلاة .. ومن ثم يقوم أحد المشرفين بالتعليق على كلمته... وفي الساعة الثامنة يستيقظ كل المخيم لوجبة الإفطار .. ويلزم كل شخص ترتيب مكان نومه.. ولا يتركه مبعثرا.. وهناك مجموعات تفتش الخيام وتعاقب كل من يهمل بالضغط عشر مرات أو الزحف على بطنه.. كانت مشاهد المعاقبين تثير الضحك والسرور بين المشاركين .. كانت البرامج متنوعة وحافلة بالفوائد والنشاط والبهجة.. فهناك البرامج الترفيهية والمسرحيات والمسابقات والبرامج الرياضية.. ومن المناشط تنظيم المحاضرات .. أول مرة احضر محاضرة كانت في ذلك المخيم وكان ضيفنا هو الشيخ عبد الله الجلالي. الداعية المشهور .. وممن زارنا في المخيم لإلقاء المحاضرات.. الشيخ عائض القرني والشيخ سفر الحوالي والشيخ ستر الجعيد والشيخ محمد بن سعيد القحطاني.. وغيرهم.. لن أغرقك أخي القارئ بالتفاصيل عن هذا المخيم .. ولكن يعلم الله تعالى كم كان لتلك المواقف والكلمات والدروس من صدى وتوجيه أحمد الله تعالى عليه أن هيئ لهذه الأمة كهؤلاء الرجال الذين يشرفون على تلك البرامج النافعة المباركة.. كان مشرفوا المجموعات يوقظونا في ساعة متأخرة من الليل.. ويأمرونا بالخروج خارج الخيمة ومن ثم نصف في خط طويل ونخرج برفقة احدهم خارج المخيم.. ومن ثم يقوم المشرف بتذكيرنا ووعظنا بكلمات تناسب الحدث.. كانت تلك الخرجات متعبة في لحظتها ولكن ما يترتب عليها من تأثير على النفس والعقل والفكر شيء يفوق الخيال وصفه.. إن الإخوة القائمين على تلك البرامج حينما يفعلون ما يفعلون إنما قصدهم بذلك هو غرس النظام واستغلال الأوقات وتنمية الخشية والخوف من الله تعالى في قلوبنا.. انتهت أيام المخيم .. وبنهايته يبدأ مشواري الجديد في هذه الحياة... الحلقة الثانية كان لذلك المخيم أبلغ الأثر على حياتي وسلوكي.. ولا عجب إن لاحظتم معاشر القراء الكرام .. تلك الحرب الضروس على تلك البرامج النافعة.. من أذناب الغرب والمدسوسين بيننا .. ممن ينعق صبح ومساء بما لا يعقل .. فكل باب للخير والفضيلة ونشرها سعوا في درسه والقضاء عليه.. فلا شك أن لوطأتها عليهم شأنا لا يستهان به.. فهي تمد الأمة بروافد من العقول المخلصة لهذا الدين والأمة.. سلكت طريق الهداية واستمر هؤلاء الرجال ممن ذكرت وغيرهم.. في غرس الفضائل والمعاني السامية في، وفي آلاف الشباب.. الذين منهم الآن الطبيب والمهندس والمعلم والقاضي والصحفي والداعية والتاجر التزمت بالمشاركة في برامج بالمكتبة في جامع ابن عمار بحي القمرية.. وكان يشرف علينا شخص اسمه خالد بن مسلط البقمي.. كان غاية في النبل والأدب والشهامة .. ولكنه للأسف تغير كثيرا بعد أن انصرف للعمل في التجارة.. وآخر عهدي به إنسان عادي جدا لا تكاد الدعوة والعمل لها يأخذان من اهتمامه شيئا.. من المواقف التي لا تنسى مع أبي سليمان وهذه كنيته التي يحب أن نناديه بها حيث نظم لنا رحلة لمجموعة من طلاب المكتبة.. وكانت الرحلة لأحد الوديان الجميلة في منطقة الشفا جنوب الطائف.. كلفنا الأخ خالد بذبح الخروف وشويه في برميل .. على الطريقة المعروفة في صنع المندي ولكن لتأخر نضج الطبيخ بسبب قلة خبرة الطباخين.. لم يستوي اللحم سوى بعد أذان العصر.. صلينا العصر .. وبطوننا ترتل وتقرقر جوعا وتثيرها رائحة الشواء حولنا.. فالمنطقة مليئة بالمصطافين حينها.. استخرجنا اللحم وعزمنا على أكله حتى ولو لم ينضج جيدا فالجوع أبصر كما يقولون.. حينما وضعنا السفر واستوى اللحم على الرز المعصفر.. هطلت علينا كميات هائلة من الأمطار..!! كأن حبات المطر تصب علينا صبا ..!! لقد استغرق اجتماع السحب وتراكمها دقائق معدودة والله.. لم نشعر بذلك .. واستمررنا في التهام الطعام المبلول..!! وفجأة صرخ الصريخ.. وتردد صداه في كل الوادي : السيل، السيل..!! هجم علينا سيل من فم الوادي .. حينما أبصرنا التيار يهدر نحونا .. ولى الجميع ولم نلوي على شيء.. جرف التيار السيارات والأوادم.. ولكن الله سلم فقد تدارك الناس بعضهم.. أما السيارات فقد امتلأت بالوحل والطين حتى سقوفها .. وأما نحن فقد كنا نراقب تلك المشاهد ونحن نرجف تحت الأشجار نرجف من البرد والجوع!! هذا موقف أذكره جيدا من تلك الرحلات الممتعة..!! تعرفت على شخص بعد ذلك اشتهر بكنيته وهي أبو أسامة.. واسمه عبد الله الغامدي ... وهو صاحب الإنشاد لقصائد الشريط المشهور هادم اللذات.... لمن يعرفه منكم.. وكان جارا لنا ، وهو رجل ذو همة عالية في الدعوة على الله .. وما زال يعمل في الخطابة حتى كتابة هذه السطور.. لازمت هذا الرجل عدة سنوات كظله حتى ظن بعض الناس انه والدي!! وكنت من شغفي به وعلاقتي القوية أحب تقليد صوته ومشيته وحركاته.. وأذكر مرة أن أحد المشائخ لحقني في السوق ظانا أن من يلحقه هو أبو أسامه!! وكنت مقفيا وأسير بخطى سريعة فصار الرجل يناديني بغير اسمي فلا أرد عليه..!! وحينما التفت إليه صدم برؤية شخص آخر غير من يبحث عنه..!!! كنت حينها أبلغ الرابعة عشر من عمري تقريبا... شاركت في البرامج الدورية للمكتبة يوم الأربعاء والخميس.. من كل أسبوع.. حتى ذلك الوقت كانت علاقتي بالوالد على مايرام.. فمستواي الدراسي في المدرسة فوق الجيد جدا .. وللأسف فإن بعض الآباء جعلوا المقياس في نجاح أولادهم.. بمدى تفوقهم في دراستهم دون النظر في تميزهم في الجوانب الأخرى.. حينما التحقت بمدرسة هوازن الثانوية.. وكان النظام فيها النظام الشامل أو ما يسمى المطور.. الذي الغي لاحقا لفشله الذر يع.. كان هذا النظام يعطي حرية في الخيارات للطالب .. في اختيار الجدول المناسب له كيفما يشاء.. وكذلك في اختيار المعلم الذي يرغبه.. لا شك أن هذا النظام والحرية الممنوحة لي كطالب .. ساهم بشكل أو بآخر في تدني مستواي الدراسي.. فبسبب ارتخاء القبضة كما في النظام العادي ، وتدني الرقابة.. بسبب النظام صرت أغيب عن الدروس والمحاضرات في الفصل بمزاعم واهية.. في البداية ظن الوالد أن القضية هي مرحلة صعبة سأتجاوزها.. ولم يقدر الموقف حق قدره .. وليته فعل .. لم يسبق لي أن رسبت في أي سنة .. ولكن حصل أن حرمت في بعض المواد لا بسبب تدني المستوى بل للغياب.. حينما علم الوالد بذلك ظن أن السبب هو الرفقة لانشغالي معهم في برامج جانبية.. غير مهمة .. فالدراسة والمستقبل هي الأساس.. وبذلك صار الوالد يضغط علي للتقليل من روحاتي وخرجاتي.. كنت حينها مراهقا .. فاستمرأت أن يمنعني الوالد عما كنت أمارسه لسنوات..!! فلم أطعه فيما يأمرني به.. الذي حصل أن الوالد بمشورة من قريب لي سامحه الله .. قرر حرماني حرمانا مطلقا من أصحابي.. لقد كان ذلك بالنسبة لي أشبه بمنعي من شرب الماء أو تنفس الهواء.. لقد أعطى ذلك الحضر مفعولا عكسيا فقد تدهورت كثيرا في دراستي ولم اعد أذاكر دروسي ولو فعلت فإن ذلك يكون بالإكراه..!! أذكر أن الوالد خوفا من أن ألتقي بأحد من رفقائي منعني مرة من صلاة الجماعة .. ولم يستمر ذلك بطبيعة الحال .. ولكن كانت تمر علي وجبات دسمة من الحظر كل فترة!!! كنت محبا للعلم وطلبه ... وخاصة العلوم الشرعية.. التزمت بحلقة الشيخ أحمد بن موسى السهلي.. في جامع الأمير أحمد في درس عمدة الحكام .. وكذلك دروس الشيخ صالح الزهراني بجامع الشطبه .. في كتاب زاد المعاد.. لكن المشكلة بالنسبة لي هي وسيلة المواصلات للوصول لهذا الأماكن.. ويعلم الله كم كنت أعاني لحضور تلك الدروس.. فكم مرة مشيت عشرات الكيلوات لأصل للدرس.. وكم مرة توسلت لجار أو صاحب ليوصلني.. لم يكن هناك رفيق لي لديه سيارة وملتزم بالحضور.. لقد كنت شغوفا بالعلم وأحرص أن أكون في أول الصفوف أمام المشائخ.. أذكر مرة أنني مشيت من بيتنا في حي السحيلي وحتى جامع الشطبه.. لكي أصلي الجمعة مع شيخنا!!!.. أما حضور محاضرات المشائخ المشهورين فهذا مالا أصبر عليه.. منعت من ذلك كله دفعة واحدة ... حينها قررت أن أهرب من البيت لألتحق بطلب العلم لدى أحد العلماء.. الحلقة الثالثة.. لم تكن فكرة الهروب من المنزل ومن الواقع الجديد الذي أجبرت عليه.. لم تكن فكرة جاءت على البال فعزمت عليها هكذا!! بل كانت الفكرة تطبخ في رأسي عدة أسابيع حتى هممت بها .. لم أجرؤ في استشارة أحد في الموضوع.. سوى شخص واحد.. إنها زوجة والدي الجديدة.. الخالة كما تسمى في بعض المجتمعات أما نحن فنناديها بالعمة.. هذه المرأة الطيبة تزوجها الوالد قبل عدة سنوات من ذلك الموقف.. وهي امرأة عقيم لم ترزق بالذرية ... وكنت في تلك الفترة قريبا منها جدا وتثق بي وأثق بها.. وكانت تتلطف معي حتى كسبت ودي وتعاطفي معها.. وهي امرأة طيبة ومحبة للخير وتشجعني عليه.. أوغر ذلك صدر الوالدة علي في البداية.. ولكن العمة بفطنتها ونباهتها كسبت رضى أمي.. فسلكت الأمور على خير.. كانت العمة متعاطفة معي في محنتي .. وكنت أطلعها على كل أموري الشخصية تقريبا.. وحينما فاتحتها بالموضوع وأنني عازم على أن أخرج من البيت .. لألتحق بحلقة عالم من علماء الأمة .. وسوف أسحب ملفي الدراسي وأكملها..الخ الكلام.. لقد صورت المسألة لها بنرجسية عجيبة .. هكذا بكل بساطة .. سأنجح وستكون الأمور على ما يرام.. وكانت أمرأه هينة لينة سهلة الإقناع.. فوافقتني..!! بل قامت مشكورة وأعطتني من ذهبها فبعته وصرفت نقوده في سفري وترحلي..!! لم يكن المبلغ كافيا فاستلفت من أحد كبار السن ممن يعرفني في المسجد مبلغا وافرا .. والحمد لله أنه لم يسألني عن مقصدي من هذا المال!! كانت الفترة حينها فترة إجازة صيفية ولكن الوالد سامحه الله أجبرني وبغير رضاي على التسجيل في فصل صيفي .. وهو ما يسمح به النظام المطور.. رجوته وتوسلت إليه أن يعفيني من ذلك ولكن بلا جدوى فقد أراد من ذلك معاقبتي على تقصيري في الفصل الدراسي السابق!! والدي رحمه الله معروف في العائلة بأن لديه حاسة سادسة.. شك من تصرفاتي وهدوئي المريب والذي عرف بفطرته أنه سيسبق عاصفة ما..!! فقد اعتاد أن يراني مهموما غارقا في التفكير في الأسابيع المنصرمة..!! فشك في هدوئي واطمئناني المفاجئ!!! ولذلك أمر الوالدة بالتحفظ علي ومنعي من الخروج خارج المنزل حتى للصلاة.. وأخذ بطاقة الأحوال الشخصية التي لي وصار يحملها في جيبه أينما حل.. حددت يوما معينا للهروب وكان يوم خميس.. ولا أذكر تاريخه بالتحديد.. ولا ادري لما اخترت هذا اليوم لسفري...!!! جهزت حقيبة كبيرة ذات لون أحمر!!! ولملمت فيها بعض ثيابي وملابسي واخترت مجموعة من الكتب.. وأخفيتها عن عيون أهلي لكي لا يكتشفوا الخطة.. كنت أتربص بالوالد حتى آخذ بطاقة أحوالي من جيبه.. ولكن مهابته العظيمة في قلبي جعلتني أتردد في فرص كانت مواتية..!! طلبت من العمة أن تساعدني في ذلك فخافت من العواقب واعتذرت!! صادف أن سافر الوالد مع إخوتي لجدة .. يوم الأربعاء الذي يسبق يوم السفر .. فاغتممت من ذلك .. وخفت من انكشاف أمري وما أنا عازم عليه.. فأنا لا أستطيع السفر بدون بطاقة أحوالي الشخصية.. لذا كان علي الانتظار حتى يقدم أبي من سفره.. سهرت طوال تلك الليلة أنتظر قدوم الوالد.. ووصل للبيت قريبا من الفجر... وصعد مباشرة لبيت العمة .. ونام نوما عميقا.. حينما تأكدت من نومه .. استخرجت حقيبة سفري .. ووضعتها أمام باب المنزل داخل الفناء.. ثم صعدت لبيت العمة.. العائلة كلها كانت تغط في نوم عميق .. كانت الساعة حينها السابعة صباحا تقريبا.. وبهدوء وترقب... دخلت لصالة المنزل فرأيت ثوب الوالد معلقا على الباب..!! وكنت أعلم أن والدي توقظه أدنى حركة في المنزل .. اقتربت من الثوب فسحبته بهدوء ثم فتشته.. فوقعت عيني على بطاقتي.. هممت أن آخذ شيئا من نقوده ولكنني خفت، وخيرا فعلت!! نزلت من درج المنزل.. و حملت حقيبتي على ظهري.. كانت ثقيلة جدا والمسافة التي سأقطعها للشارع العام حوالي الكيلو متر.. كنت أسير وأتعثر لثقل الحقيبة وأنظر خلفي خوفا من الوالد.. لو رآني أحد الجيران وبتلك الحال فلا شك أنه سيرتاب .. وعندها سيحدث مالا تحمد عقباه... وصلت للطريق العام وأنا ألهث من التعب.. أشرت لسيارة أجرة وهي من نوع السوزوكي ونسميه في المنطقة ( الدباب) سألني السائق عن وجهتي فقلت له خذني إلى موقف التكاسي المسمى موقف الجنوب.. وهو الموقف الذي يركب منه المسافرون لجنوب المملكة.. بحثت في الموقف عن الأجرة المتوجهة لمدينة أبها!! كانت أبها حينها تعج بالدعاة والمشائخ المعروفين .. ومنهم الشيخ عائض القرني.. الشيخ عوض القرني.. الشيخ الطحان الشيخ سعيد بن مسفر وغيرهم وغيرهم من الدعاة وطلبة العلم.. لقد توقعت وبغير سؤال ودراية بأن هؤلاء المشائخ يستقبلون طلبة العلم القادمين للطلب .. فجئت مهاجرا إليهم أطلب العلم..!!! لم يستغرق البحث عن سيارة أجرة متجهة لأبها سوى عشر دقائق.. وكنت في عجلة من أمري فما يدريني لعل الوالد تهديه حنكته فيتلني بتلابيبي!!! كان السائق رجلا كبيرا في السن عمره يتجاوز الخمسين سنة.. ووجهة يدل على طيبته وضعف شخصيته.. كانت سيارته من نوع البيجو تحمل ثمانية ركاب.. كانت رفقتي مجموعة من الشباب .. وهم من البادية وعلى ملامحهم الطيش والشر .. وعرفت من احدهم أنهم ذاهبون للالتحاق بعملهم الجديد في الجيش في خميس مشيط وحينما رأيت هؤلاء الشباب وتصرفاتهم الرعناء.. تذكرت ما حدثني به أخي الذي يعمل في نفس القطاع.. عن اللواء (وذكر رقمه ) في خميس مشيط.. وهو لواء سيء الذكر قد انتشرت بين شبابه المخدرات والتصرفات المشينة..!! وحينما انطلقنا في مسيرنا الطويل لأبها.. ارتحت كثيرا وتنفست الصعداء.. غير أن سروري لم يدم طويلا فهؤلاء الشباب لن يسلم هذا المطوع الصغير من شرهم.. كانت النظرات من عيونهم تقذف الشرر علي.. فهذا المطوع الصغير لا بد أن يكون سببا للمشاكل في الطريق..!! حاولت أن أكون لطيفا معهم وبعيدا عن الاحتكاك بهم ولكن هيهات!! انشغلت بالحديث مع السائق وكنت محشورا بجواره... وبعد مرور نصف ساعة من الرحلة تقدم أحد الشباب وأشار بشريط كاسيت أغاني وأمر السائق بإدارته!! علمت أن سكوتي ضعف أمام المنكر .. فقلت للسائق وبحماس ظاهر.. لا تشغله لا يجوز.. كان هذا التصرف مني إعلانا للحرب بالنسبة لهؤلاء السفهاء..!! والظاهر أن الحركة كانت متعمدة لإثارتي وقد فعلوا!! كانوا سبعة وأنا واحد والسائق كان يمكنه التصرف ولكنه رجل ضعيف الشخصية قال لي هل لديك شريط قرءان أو محاضرة ..؟؟ قلت لا .. قال إذا خلهم يسمعوا ما يريدوا .. قلت له هذا لا يجوز وحرام.. قال إذا ارجع للخلف ولا تستمع للغناء .. رضخت لهم فقد كان هو وأنا أيضا نخاف من هؤلاء الفتية!! تخطيت القوم ورجعت للمقعد الأخير برفقة أحدهم!! وبدأت مزامير الشر والطرب تصم الآذان.. وكان الشباب يتمايلون ويرقصون طربا وضحكا .. أما استنشاق دخان السجائر فحدث ولا حرج .. لم يشغلني هذا الحال عن التفكير مما سأقدم عليه من أهوال الحلقة الرابعة استمرت رحلة العذاب تلك لأكثر من ثمان ساعات تخللها مواقف مليئة بالتشاحن .. والسباب وتبادل النظرات الحادة!! ولكن على العموم وصلنا لأبها.. بحمد الله سالمين.. ومن محطة الأجرة هناك توجهت لفندق أظن اسمه شمسان!! أردت أن اتصل على البيت لأشرح لهم مقصدي مما فعلت.. وحتى لا يقوموا بالبحث عني فأنا قد خرجت من البيت بطوع أمري!! حينما رن الهاتف كان المتحدث على الطرف الآخر هو الوالد.. كان الغضب قد أخذ منه مأخذا مهولا فقد شكل تصرفي خروجا صارخا على التقاليد والعادات الاجتماعية.. وقام الوالد بتوعدي وتهديدي بكل ما يخطر على البال.. وأنا لا ألومه رحمه الله في ردة فعله فقد كان تصرفي غير مقبول.. إنني أحكي تلك المواقف دون محاولة تبريرها أو الدفاع عن نفسي فقد انقضت وولت تلك الأيام بحلوها ومرها .. والله الهادي.. حينما وضعت متاعي في الفندق وارتحت قليلا.. حاولت أن أتصل بعدد من أصدقائي وأصحابي .. ولكنني لم أجرؤ أن أشرح لهم أين أنا وما هو وضعي.. فقد خفت أن يضعفوا أمام والدي وإلحاحه فيدلوه على مكاني.. أذكر أنني اتصلت على احدهم وخنقتني العبرة حينما سمعت صوته.. أغلقت السماعة دون أن أكمل حديثي معه.. كانت مشاعري متضاربة بين الخوف والرهبة والشعور بالضياع واليأس.. حاولت أن أنام في تلك الليلة ولكن بلا جدوى .. كنت ممددا على السرير وانظر في السقف وتصيبني موجات من البكاء.. كانت تدور في مخيلتي عشرات الأفكار ولكن مع توارد الخواطر أصطدم بالواقع المرير الذي أنا فيه.. ذهبت في اليوم التالي لجامع الشيخ عائض القرني.. حضرت درسه وكان في صحيح البخاري.. كان الحضور متواضعا للغاية.. هممت أن اطلب من الشيخ عائض جلسة خاصة لأشرح له وضعي.. ولكنني استحييت وجبنت..!! سبحان الله أقطع مئات الأميال لأجله ثم حينما أقف أمامه أعجز عن حديثه.. لقد كان انفصاما في الشخصية وعجزا غير مبرر.. ولكن يظهر لي أن خوفي وارتباكي سبب لي صدمة تجعلني أفتقر للتعقل في القرارات !! زرت المركز الصيفي في معهد أبها العلمي.. كان أغلب المشاركين في المركز ذوو أسنان تقل عني بكثير .. كان استقبال المشرفين لي ومقابلتهم معي باردة للغاية.. لقد كنت ابحث عن شخص يؤويني من الضياع.. لقد كنت أريد شخصا عاقلا رشيدا.. أجلس بين يديه فأحدثه بما يعتلج في صدري من آلام وهموم جلبتها لنفسي بيدي!! ولكن مشيئة الله تعالى وقدره جعلت هذا اللقاء متأخرا جدا ومع شخصية فذة!! حينما شعرت أنني غير مرحب بي غادرت المركز ولم اعد إليه أبدا.. مكثت أياما أهيم في الأسواق وأتمشى في أماكن النزهة لأقضي الوقت.. تساءلت مرارا : هل هذا ما جئت من أجله؟؟ ألم أحضر لطلب العلم.. فكرت في النفقة فهي لا شك يوما ستنضب وبعدها ماذا سأفعل؟؟ لم أحاول الاتصال بالعائلة طوال تلك الفترة.. رأيت أن بقائي في أبها مضيعة للوقت والمال.. سمعت من قبل بأن الرياض هي مأوى أفئدة طلاب العلم.. من طلاب الجامعات والمعاهد فهي المركز الأول للصحوة الإسلامية.. وفيها من الدعاة والعلماء ما يعجز حصره.. ولا شك فهي أرجى من أبها في البحث عما جئت لأجله.. ويكفي هذه المدينة العريقة شرفا في ذلك الوقت .. وجود سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله فيها وهكذا تغيرت الوجهة ولتكن من أقصى الجنوب إلى وسط المملكة.. توجهت لمكتب الخطوط واشتريت التذكرة إلى الرياض.. في جواري في الطائرة كان شخص ملتح عليه سيما الخير.. عرف نفسه باسم علي السلطان وهو من سكان القصيم.. تحدثت مع الأستاذ علي عن أمور كثيرة .. وعرفت منه أنه من سكان عنيزة وهو معلم في المعهد العلمي .. وهو أحد الطلاب في حلقة الشيخ ابن عثيمين رحمة الله عليه العامرة بالطلاب والدارسين من كل بقاع العالم..!! كان الحديث عابرا ولكنه أعطاني فكرة شاملة عن المنطقة.. وصلت للرياض .. لقد كانت الرياض بالنسبة لي وأنا ابن المدينة الصغيرة كانت ذا شأن كبير في النفس.. فمبانيها الكبيرة وشوارعها الفسيحة ومساحتها الشاسعة تأخذ بالألباب.. نزلت في فندق البطحا وهو مكان أعرفه من قبل فقد رافقت الوالد له مرارا.. كان سعر الإقامة معقولا وبالجملة فقد كنت مقلالا في نفقتي.. مكثت عندهم في الفندق حوالي الشهر.. وما زال الاتصال حتى ذلك الحين مع العائلة مقطوعا .. ومرة أخرى أعجز عن أن أتصرف تصرفا راشدا.. فأنا جئت من الأصل من أجل طلب العلم !! ولكن يظهر أن حياة الدعة والراحة التي كنت فيها جعلتني انصرف ولو لفترة عن المقصود!! لم يكن هناك شخص أو لم أبحث عن شخص يرشدني .. كنت أقضي وقتي كله في الغرفة في الفندق أو في صالون الرياضة والمسبح.. لقد كنت صيدا يسيرا للضياع والمفسدين ولكن المولى جلت قدرته حماني.. ذات مرة كنت أمارس السباحة في المسبح.. فجاءني شاب نحيل من أهل البادية.. قال هل الماء عميق ؟؟ قلت لا .. وحسبته يعرف السباحة..!! قفز من فوره في وسط الماء.. انغمس فيه ثم صعد.. ولكنه صرخ واستنجد بي لكي أخرجه فهو لا يعرف السباحة!! التفت حولي لأنادي موظفي المسبح ولكن لا أحد.. أخذ الرجل يضرب في الماء ويخفق فيه ويشرب منه.. حتى كاد أن يهلك.. كنت مبتدئا في السباحة ولكن أين المفر.. ما إن اقتربت منه حتى تلني بشدة وسحبني ولطمني على وجهي!! ثم غمسني بشدة في الماء وتخطاني ووضع قدمه على رأسي حتى خرج من الماء.. أما أنا فقد كدت أهلك حينها!! ولم أحاول أن أنقذ غريقا بعدها أبدا... لم يكن ذلك هو الموقف السيئ الوحيد.. ذات مرة حضر للمسبح شاب عليه سيما الخير .. وكان برفقته عدد من الشباب الصغار.. لا اذكر مالذي حصل بيني وبينه لكن يبدو أن الرجل مريض مرضا نفسيا.. وتصيبه حالات من الهيجان فيضرب من حوله دون شعور.. وهذا ما حدث معي فقد هاج علي كالثور وضربني على وجهي ضربات كادت تقتلني.. وتركت بصمات على وجهي بقيت حتى حين... لم يكن أحد ليجرأ على الدفاع عني فقد كان رجلا مفتولا والله حسيبه.. رجعت يومها لغرفتي في الفندق وهذه المرة موسوم بعلامات بارزة..!! اتصل علي موظف الفندق وطلب مني الحساب.. نزلت إليه وسددت له مصاريف الأيام الماضية.. بقي في محفظة نقودي فقط مائة وخمسون ريالا... وهو ما يغطي مصاريف يوم أو يومين!!! الحلقة الخامسة حينما يكون الإنسان في عافية.. لا يشعر بالزمن وهو يمر عليه.. وهذا يكون من جهة نعمة ويكون نقمة عليه من جهة أخرى.. حينما نضب مالدي من نفقة .. .. أدركت أنني وقعت في خطأ قاتل .. فأنا أمام خيارين إما أن أعود للبيت وهذا مالم يكن واردا على الإطلاق حينها.. أو أن أحاول تدارك نفسي بأي وسيلة ممكنة!! ولكن كيف ومع من...؟؟ مرت علي تلك الليلة كدهر فقد استغرقت في التفكير والبحث عن مخرج.. أعيتني الحيل وضاقت علي السبل.. توجهت للخالق سبحانه بكل صدق وإخلاص.. سألته سؤال المضطر .. لم يكن في مخيلتي أي سبيل أو أي منفذ.. ولكن ثقتي به تعالى هي سبيلي الوحيد.. في اليوم التالي توجهت للنادي الرياضي فقد شعرت بالاختناق من بقائي في الغرفة كان النادي شبه خال على غير العادة.. وكانت الساعة الواحدة بعد الظهر تقريبا.. رأيت في حوض السباحة شخصا يحاول العوم بمشقة ظاهرة.. حينما رآني ابتسم ابتسامة عريضة.. وقال لي: هل تعرف السباحة ؟؟ قلت له قليلا وأحذرك من التقدم إلى الماء العميق..!! ابتسم وتهلل وجهه وقال إن غرقت ستنقذني أنت!! ضحكت وقلت له ابحث عن غيري.. وحكيت له الموقف الذي مر علي قبل فترة من الزمن مع صاحبنا الأعرابي!! سألني عن الكدمات التي على وجهي .. فقد كانت ظاهرة وعميقة!! لم أرد أن استرسل في تفاصيلها .. فقلت له سقطت !! عرفني باسمه وصافحني وقال أنا أخوك سعود المعاشي من منطقة حائل وأنا من قبيلة شمر.... هل سمعت بحائل وأجا وسلمى؟؟ عرفته باسمي .. سألني عن عملي .. قلت له أنا لا اعمل .. قال لي أين تقيم ..؟ قلت له هنا في الفندق!! قال ألست من سكان الرياض؟؟ قلت لا أنا من سكان الطائف!! قال لي ماذا تفعل هنا في مدينة الرياض إذا ؟؟ هل تدرس ؟ قلت له أنا جئت لطلب العلم ..!! قال وعند من تدرس من العلماء .؟ لم اجبه فأنا لم أبحث عن شيخ حتى تلك اللحظة.. لا أدري لماذا استرسل الأخ سعود معي في الحديث ولكنه أصر علي أن أرافقه للغداء سويا.. شكرته وتعذرت منه ولكنه ألح بشكل كبير حتى رضيت.. قال لي ونحن نمشي .. أنا أملك تسجيلات إسلامية في حائل .. واعرف عددا من المشائخ في الرياض فإن كنت ترغب في أن أعرفك عليهم فعلت..!! صمت ولم أجبه..!! ونحن قعود ننتظر الغداء قال لي سعود: أسمع أخي أنت لك قصة وأكيد لديك مشكلة وأنا اقرأ ذلك في وجهك!! ولو ترغب في ذكرها لي ولا يحرجك الأمر فأرجو أن تخبرني بها .. فما يدريك لعلي أستطيع مساعدتك ..!! خجلت والله من كرمه وسماحة نفسه.. إن الأخ سعود حينما يقول لي هذا الكلام فهو رجل صادق غير متكلف أو متصنع.. ولقد اكتشفت بعد مخالطتي للأخ سعود أن معدن هذا الرجل معدن أصيل كالذهب .. لقد كان الأخ سعود رحمة ساقها الله لي فإن مجرد إنصاته وسماعه لقصتي هو أمر يشكر عليه بارك الله فيه.. حدثته بمشكلتي وأنصت إلي لأكثر من ساعة حتى برد الطعام ولم يأكل منه شيء!! لم يقاطعني طوال حديثي.. وحينما استكملت قصتي .. صمت قليلا ثم قال لي.. أسمعني جيدا .. أنا رحلتي بعد قليل على حائل وسوف ترافقني للمنطقة وستكون في ضيافتي.. ومن هناك سوف نتدبر حلا لمشكلتك... ما رأيك؟؟ بالنسبة لي أنا لا أعرف الخ سعود ولكني كالغريق يبحث عن أي شيء ينقذه.. قلت له ثم ماذا ؟؟ قال ثق تماما سنجد حلا لمشكلتك موضوعك بسيط وسأجد له حلا.. أرجوك اصعد لغرفتك ووضب أمتعتك وانتظرني عند الاستقبال.. لم يعطني الفرصة- وقد تعمد هذا – حتى أفكر في الموضوع.. وحينما صعدت لغرفتي أخذت تجول بخاطري الأفكار: ياترى هل الرجل صادق ؟؟ ماذا لو كان .؟؟؟ ولكن سيماه الخير !! أسئلة تتردد ولكن لا خيار لي !! لم اخبر الأخ سعود بوضعي المادي.. ولكن كرمه غير المصطنع.. جعله يحاسب الفندق دون مشاورتي..!!! طلب سعود من سائق التاكسي أن يسرع .. فقد كان يعلم أنه ليس لدي حجز لمقعد في الطائرة.. وبعد قليل التفت إلي وقال : إن سألك أحد من تكون فقل لهم أنك أحد أقربائي وتقيم في الطائف.. قلت له ولكن لقب العائلة ؟؟ قال لهم أنت فلان الشمري!! قصد الأخ سعود من ذلك حمايتي من ألسنة الناس وتحقيقاتهم.. ولكن لقد دفعت أنا ثمن تلك الغلطة الشرعة والاجتماعية ثمنا غاليا..!! وصلنا للمطار واجتهد الأخ سعود حتى حصل لي على مقعد في الطائرة.. كان الأخ سعود يلتفت إلي كل فترة ويطمنني بقوله: لا تقلق سوف تحل المشكلة.. لقد كنت متأكدا أن سعود ليس لديه عصى سحرية لحل وضعي.. ولكن طيبته وسماحته ورطته في هذا المقلب .. وصلنا لمدينة حائل وكان منظر جبالها وهضابها يسحر الناظر.. يابعد حيي كلمة تسمعها عشرات المرات يوميا.. أهل حائل كرماء وأسخياء بشكل عجيب.. والطبيعة البدوية والفطر السليمة هي الغالب على الناس.. توجهنا فورا من المطار لمكان عمل الأخ سعود .. لأخذ بعض أوراقه.. اكتشفت أنه ضابط صف في المرور.. سلمت على أصحابه وعرفني لهم بأنني فلان الشمري!! خجلت من ذلك أيما خجل فأنا لم اعتد على ذلك اللقب.. لقد كان ذكاء الناس الفطري وأسئلتهم البسيطة تكشف بسهولة بطلان هذا الانتساب ..بالإضافة للكنة الحجازية فقد كان الأمر برمته مفبركا !! لم تعجبني الحال فلم اعتد الكذب ولكن إرضاء لمضيفي تغاضيت.. وصبرت لاحظت أن في المنطقة أمنا عجيبا فالناس ينامون في بيوتهم.. ومفتاح السيارة على المقود.. هذا ما رأيته بنفسي في عدة مواقف.. تعرفت على إخوة سعود في منزله في حي المطار .. كانا شابين نسيت أسماءهما ولكن طيبة هذه العائلة والمواقف الجميلة التي عشتها في بيتهم هي ذكريات عطرة تبقى معي أينما حللت.. الحلقة السادسة لقد قضيت في حائل حوالي العشرين يوما أعتبرها من أجمل أيام حياتي.. الكرم الحاتمي .. والسماحة وعلوم الرجال كما يقولون.. أشياء متجذرة في هذا المجتمع النبيل.. لقد سرني والله أن أنتسب لهم وليتني كنت غصنا من أغصانهم.. ولكن الحقيقة تبقى هي الفيصل وهي قدر الإنسان الذي كتبه الخالق جل في علاه عليه.. لن استرسل في تفصيل يومياتي في حائل وفي ضيافة الشهم النبيل سعود المعاشي..وإخوته. لا أنسى رحلات الصيد في وديان حائل في شمالها وشرقها.. وفي منطقة جبه وحيه وبقعا وغيرها... أذكر أننا زرنا بيوتا قديمة يقول مرافقنا أنها منازل حاتم الطائي العربي الكريم المشهور يوجد في المنطقة مسجد قديم للغاية لم يبق منه سوى بعض أسواره وله محرابان !! أحدهما متجه لبيت المقدس والآخر متجه للكعبة.. ويزعم أهل المنطقة أنه كان كنيسة وحول لمسجد ..منذ مئات السنين.. ولا أدري عن صحة هذا الكلام... لكن الصلاة في هذا المسجد وتذكر الأجداد قبل مئات السنين الذين قد صلوا وركعوا في هذا المسجد إن تلك الذكرى تثير في النفس السكون والخشوع .. ولقد سجدنا عدة ركعات فيه وكان بعض الإخوة يبكي تأثرا بالروحانية فيه.. أذكر زيارتنا لمنطقة أسمها حية وكان برفقتنا شخص نسيت اسمه و يظهر أن لديه خلفية أدبية وشعرية وتاريخية لا بأس بها.. استغرقت الرحلة للمنطقة حوالي الساعتين .. والطريق إليها جلد و غير معبد.. ونحن نسير في الطريق صدنا عددا من طيور الحبش أو ما يسمى الحجل.. وكانت هي غداءنا في تلك الرحلة.. حينما وصلنا للمنطقة أشار لنا دليلنا لجهة الوادي وقال هناك تقع حية!! لم نشاهد سوى صخور ضخمة قد تساقطت من سفوح الجبال بفعل السيول والأمطار..؟؟ أوقفنا سيارتنا وترجلنا وصعدنا على الصخور.. مشينا حوالي ربع كيلو بين الصخور والأنقاض.. وكنا كلما تعمقنا في الوادي تزداد المنطقة بهاء واخضرارا!! حينما وصلنا لحية سحرنا بتلك الطبيعة الخلابة المحشورة بين الجبال.. هي واحة خضراء مليئة بالأعشاب والحشائش.. وفي وسطها برك ماء وجداول صغيرة تصب من أعلى الوادي.. أخذ محدثنا يروي لنا أشعارا وقصائد لامرئ القيس حينما كان سيد هذا الوادي ويغازل الفتيات اللاتي يأتين لسقي البهائم من تلك البرك.. لقد ترسخت صورة حية كجنة وبساتين في ذاكرتي وأتمنى لو أعود لها وأصور للناس تلك المشاهد.. كنا ننطلق كل يومين أو ثلاثة برفقة سعود وأصحابه للنزهة والصيد وزيارة الآثار.. فقد وافق وجودي معهم وقت عطل وإجازات.. أهل حائل فخورون جدا بأرضهم وطبائعهم ويعتزون بذلك أيما اعتزاز.. وحينما يقدم عليهم ضيف يشبعوه كرما وأنسا حتى يتمنى أن لا يفارقهم.. أما السمر والحديث في البراري والنوم أحيانا فتلك متعة لا يمكن وصفها.. لقد تناسيت كل ما أنا فيه من إشكالات وانغمرت في تلك الرحلة الانتقالية!! سميتها انتقالية لأنها والله أعلم كانت تهيئة لي لأيام ووجوه ومنطقة أخرى تختلف اختلافا جذريا عما أنا فيه وعما كنت قبل فترة بسيطة عليه!! كيف تغيرت بي الأحوال كنت قبل أيام قليلة أعيش كالمشرد .. وهاأنذا أستمتع برفقة يضن الزمان بمثلهم..!! سمها مراحل أو قفزات من أوضاع سيئة إلى وضع جديد يصعب على المرء توقعه أو تخيله ولذلك يقول تعالى ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب).. الإنسان بطبعه عجول وطماع ويريد أن تسير أوضاعه على هواه ورغباته.. ولكن القدر بحكمة إلهية يقود الإنسان إلى الأفضل والأحسن لحاله .. حتى ولو كرهها وجهل عاقبتها.. ولذلك يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لو كشف الله لخلقه ستر القدر لما وجدوا خيرا لهم مما قدره الخالق عليهم سبحانه.. كاشفني الخ سعود برغبته في أن يتصل على والدي لكي يطلب أن يصلح بيننا.. لم تناسبني الفكرة وطلبت منه أن يتأنى قليلا.. فأنا ما زلت أبحث عن قاعدة صلبة اتكئ عليها .. فأنا ابحث على استقرار وليس من المعقول أن يستمر حالي هكذا.. احترم رغبتي ولم يحاول أن يضغط علي لكي لا يجعلني أظن أنه تململ مني.. كنت أنام في ملحق منفصل برفقة إخوة سعود الذين هم في سن قريبة مني.. وكان لدي حرية واسعة في الخروج بالسيارة التي وضعت تحت تصرفي.. لم اتصل حينها بأي مخلوق .. من قريب أو بعيد.. حضرت دروس الشيخ حمد الغاوي في شرح بلوغ المرام وأعجبني أسلوبه الميسر في التدريس .. قال لي أحد طلابه هذا أسلوب تعلمه عن شيخه ابن عثيمين.. عرض علي الأخ سعود أن نسافر لمنطقة القصيم .. وذلك برفقة احد أصحابه الذي لديه عمل هناك ليوم واحد .. فرحت بذلك أيما فرح فالمتعة في اكتشاف مكان جديد هي مما فطر عليه الناس.. الحلقة السابعة توجهنا لمنطقة القصيم ... وكانت وجهتنا مدينة بريده.. كانت بريدة في تلك الأيام مركز التعليم الشرعي في المملكة .. ويسميها منافقو بلادنا مركز تفريخ الإرهاب!! وكان حينها الشيخ سلمان العودة هو جديلها المحكك .. في الطريق آنسنا صاحبنا أبو آدم الذي كنا برفقته بسواليفه والقصص الذي يرويها.. ومن رواياته ما قصه من مواقف مرت عليه خلال ابتعاثه للدراسة في لندن.. مما أذكره ... يقول : كنت ذات مرة أتجول في مكتبة الجامعة التي ادرس فيها وابحث عن كتاب وكان حينها رجلا وسيما تملأ الرجولة والفحولة عين ناظره منه!!! كانت تراقبه فتاة انجليزية ذات عيون زرقاء وأهداب سحرية.. وهو يتصفح الكتب وينسخ في الأوراق التي بين يديه .. ولم يلاحظ هو تلك العيون المتوهجة ولا تلك القطة المتوحشة التي تراقبه!!! يبدوا أنها امتلاءت منه فقررت أن تملك فؤاده.. لحقته إلى مطعم الجامعة واحتالت أن تتعرف عليه؟؟ وبعد قصة طويلة وظريفة لا يصلح ذكرها هنا وقع الرجل في النهاية في حبائلها!! أغرم الفتى بها و أ غرمت به.. فتزوجا وعاشا معا طوال فترة الدراسة.. ولكن ....!! كانت أم الفتاة نصرانية متعصبة لدينها .. فضغطت على ابنتها وحولت حياتها لجحيم ، حتى تفرقا ولم يلتقيا بعدها أبدا.. تألم كثيرا لفراقها ولكنه لم يكن لديه خيار .. التفت صاحبنا لولده الصغير وكان معنا!! وقال له: انتبه تعلم أمك!!! أضحكنا وآنسنا بطرافته المفرطة وسعة صدره .. حينما وصلنا لبريده كنت أتأمل وجوه الناس..!! كنت أتصور بريدة في مخيلتي مليئة بل قل كل أهلها متدينون !! لا شك أن الدين هو الغالب في الناس ولكن لا تسلم أي مدينة من مظاهر السفور والفساد أو الرجال غير المتمسكين بالهدي الظاهر الواجب!!! الملاحظ كثرة العمالة الآسيوية هناك.. فالشوارع منهم غاصة حتى يخيل إليك انك في بومباي أو نيودلهي!! كنت أتصور بريدة قبل أن أراها كأنها مثل الجامعة تعج بطلبة العلم الذين يحملون كتبهم وقراطيسهم.. و أسواق المدينة مهجورة سوى من السوقية أو كبار السن والأشياخ... حينما قطعنا طريق بريده الرئيسي والذي يشق المدينة لشقين.. لم ألاحظ أي فرق يذكر عن مدن المملكة الأخرى.. أسواق ومحلات مليئة بل غاصة ودخان وشباب طائش .. الملاحظ هو قلة أو انعدام السفور وقلة الجهر بالمعاصي .. وهذا ترسخ لدي بالإقامة الطويلة في القصيم لاحقا.. توجهنا فورا لشغل الرجل وانقضى سريعا.. فقال سعود ما رأيكم لو نذهب لمسجد الشيخ فلان وذكر اسمه ونسيته.. هذا المسجد مبني على الطراز القديم وما زال أهله يعيشون حياة الأولين!! لم نتردد في الذهاب فهذا شيء لم نسمع به من قبل!! دخلنا للحي ... الحي حديث وبيوته مبنية من الخراسان وعلى أجمل واحدث طراز.. !! وفي وسط الحي مسجد قديم متهالك البناء وأظن أصل بناءه من الطين ولكنه صبغ حديثا.. وكان وقت صلاة العصر .. أذن المؤذن ولم نسمعه لأن الآذان بلا ميكرفون.. المسجد مفروش بالرمل والناس تصلي على الرمل .. غالب من في المسجد هم من الشيوخ وكبار السن وفيهم مجموعة من متوسطي الأعمار والصغار تسننا وجلسنا لانتظار الإمام ... توقعت أن يدخل علينا شيخ معمم كعمائم السلف وعليه قلنسوة قد أرخي طرفاها ومشدود وسطه بمشد ويتدلى منه سيفه!! فهذا ما نعرفه عن السلف ولا يخلو الأمر من مبالغة طبعا!! دخل شيخ نحيل لحيته مصبوغة بالكتم الأسود.. ومشيته عليها السكينة والتواضع والخضوع لله تعالى.. ووجهه أبيض مضيء بنور الطاعة.... وعليه عباءة سوداء وشماغ احمر.. طلب من المؤذن أن يقيم.. قام شيخ كبير محني الظهر لا يكاد أن يرى وأقام للصلاة.. و صلى بنا الإمام صلاة مريحة لم تكن بالطويلة أو العجلة.. وحينما سلم التف حوله مجموعة من الصبية بأيديهم كتب صغيرة .. وقعدوا خاضعين كأن على رؤوسهم الطير ينتظرون من الشيخ إشارة البدء سحب الإمام مهفة من القصب كانت بجواره وقال لأحدهم سم.. بدأ الفتية كل واحد منهم على حده. بقراءة فصول قصيرة من مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.. من كشف الشبهات ومن الأصول الثلاثة وقرأ أكبرهم من كتاب التوحيد.. كانوا يقرؤون بصوت خافت وخاشع ملحن وجماعة المسجد مطرقون بإنصات ولا تسمع لهم همسا لم يعلق الشيخ سوى بتصحيح النطق والعبارات.. استغرقت القراءة حوالي عشرين دقيقة .. وبعدها انصرف الجميع وقام الإمام من محرابه.. تقدم أصحابي إليه وصافحوه .. وبقيت أنا أراقب الموقف.. أحببت القصيم من يومها وأحببت أهلها فأهلها أهل دين وصلابة في الحق والتزامهم بالإسلام خير التزام.. عدنا لحائل وفي الطريق عرض علي سعود عرضا كان هو الباب الذي منه ولجت للسعادة والنور إن شاء الله تعالى الحلقة الثامنة سمعت عن الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أول مرة عن طريق جارنا في الحي القديم في الطائف الأخ صالح الأسمري.. والذي أصبح الآن من أنشط الدعاة ونشرا للعلم وتعليمه.. حينما هداني الله تعالى خصني الشيخ صالح وكان حينها في المرحلة الأخيرة من الثانوية خصني بعناية واهتمام فكنت أصحبه دوما للمسجد.. حيث أن باب بيتنا يجاور باب منزله مباشرة.. وكان يحدثني عن الشيخ بن عثيمين وعن دروسه في الحرم في العشر الأواخر.. وبعد انتقالنا للحي الجديد.. في ذلك العام 1410 للهجرة نزلت برفقة شباب المكتبة للبقاء بجوار بيت الله الحرام طوال فترة العشر الأواخر... وحضرت في سطح الحرم درس الشيخ العلامة ابن عثيمين عليه سحائب الرحمة والغفران.. كانت تلك أول مرة أرى بها هذا العلم الجليل.. في اليوم التالي أخذتني الحماسة فاقتربت من كرسي الشيخ فدفعت ثمن اقترابي غاليا.. فلقد أوقفني الشيخ كعادته في دروسه وسألني سؤالا عما كان يتحدث عنه ؟؟ وكنت حينها شارد الذهن ..!! فما استطعت أن أجيبه.. !! فأمرني بالجلوس فشعرت بالخجل والخيبة حيث فشلت في أول امتحان معه!! وما عدت لذلك المكان مرة أخرى.. بل بقيت خلف ظهره أو في صفوف بعيدة.. وفي إحدى رحلاتنا لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. حضرت درس الشيخ أبي بكر الجزائري ... وبكرت بالحضور لأكون قريبا من الشيخ فكنت في الصف الثاني أمامه مباشرة.. سمعت الطلبة يتهامسون بين بعضهم.. فسمعت احدهم يذكر اسم ابن عثيمين..؟؟ وبعد دقائق جاء شيخ مسن قصير ورقيق البنية لحيته بيضاء وشعره ابيض ووجهه أبيض.. وثوبه ابيض عليه غترة بيضاء..!! وجبهته ناصعة عليها أثر السجود.. وحاجباه عريضان ومليئان بالشعر الأبيض يجر عباءته خلفه .. ويشق الصفوف نحو المقعد المخصص للشيخ أبي بكر الجزائري..!! إنه الشيخ ابن عثيمين!! هممت أن أقوم ولكن كيف ؟؟ فعندما رفعت رأسي ونظرت خلفي .. رأيت ارتالا من البشر تحدق في الشيخ ابن عثيمين والذي أصبح خلفي مباشرة..!! عندما استوى الشيخ على المقعد أشار إلي بعنف وسخط وقال : أجلس فقد آذيت إخوانك..!! جلست مطرقا .. ثم بدأ الشيخ حديثه بالحمد والصلاة .. فأنصت لكل حرف وكلمة يقولها.. فما يدريني لعله سيفعلها مرة أخرى ويسألني..؟؟ ولقد فعلها والله مرتين .. في ذلك الدرس!! فأجبته وأنا أتتعتع وأرتجف خوفا منه .. ولكن أجبته بما يريد.. فكافأني بكلمة واحده قال لي : أحسنت..!! هذا الرجل تحبه من النظرة الأولى.. أحبته ملايين المسلمين في كل مكان.. وسمعت من الناس ما زاد حبي له.. من زهده في معاشه وهيئته ومسكنه.. فلقد سمعت حينها أنه يعيش في بيت من طين..!! ولقد زاره الملك في عنيزة فاستقبله في هذا البيت من الطين .. وجلسا سويا على الأرض!! وأنه يأكل مما يحرثه ويزرعه بنفسه!! كانت تلك الصور في الذهن إن صحت أو لم تصح... تثير الإعجاب والمحبة للشيخ مع ما وهبه الخالق سبحانه من علم راسخ وفقه وفهم للشريعة قل نظيره في زماننا.. كانت فصاحة الشيخ وقوة حجته تبهر مستمعيه.. مع ما يثيره الشيخ من دعابة ومزاح مع من يسألهم .. في تلك الجلسة في المدينة سأل الشيخ سؤالا .. ثم نظر حوله بنظرة تذكرك بالصقر حينما يلتفت بحثا عن فريسة!! وأخذت نبضات قلبي تزيد فقد ظننته سيلتفت إلي ويسألني.. فأشار للشخص الذي بجواري.. وكان رجلا بدينا فيه سمرة ويلبس المرآة على عينيه.. أشار له الشيخ وقال له: قم..؟؟ بقي الرجل فاغرا فاه ينظر للشيخ كالأبله!! فكرر الشيخ كلامه وقال :أنت قم ،وطقطق بأصبعيه وأشار بسبابته إليه!! فقال له أنا؟؟ وأشار لنفسه!! قال: نعم أنت!! تزحزح الرجل وحاول القيام بتثاقل حتى دفع من بجواره !!! وحينما علا لم يستطع أن يرفع رأسه وبقي في هيئة كالراكع!! كان مشهد جاري ذلك يثير الضحك والشفقة معا!! فالظاهر انه لم يعتد الوقوف أمام الجموع وبين يدي إمام من أئمة السنة كابن عثيمين!! أغلق الشيخ الميكرفون وناداه ليقترب منه .. فدنا الرجل من الشيخ وهو منحني!! فاقترب الشيخ من أذنه فهمس فيها بكلمات لم نسمعها!! فكان الشيخ يهمس في أذنه والرجل يهز رأسه ويضحك..!! ثم أمره الشيخ بالرجوع والجلوس في مكانه واستأنف درسه.. إن ذلك الموقف والتواضع والسماحة من رجل في مكانة الشيخ يجعل محبته تسري للقلب كما تسري النار في الهشيم..
    7 "

  3. كود:
    الحلقة التاسعة حينما التفت إلي سعود قال لي.. ما رأيك في الالتحاق بحلقة الشيخ ابن عثيمين!! ظننت الرجل يسخر مني !! ثم أكمل حديثه وقال.. أنا اعرف شخصا مقربا من الشيخ محمد ويمكنه أن يتصل به مباشرة ليشفع لك!! قلت له: أنا سمعت أن شروط قبول الطلاب عند الشيخ قاسية للغاية!! فلا بد أن يكون حافظا للقرءان ولصحيح البخاري عن ظهر قلب!! بلع سعود ريقه ثم صمت!! وصلنا لحائل... ولم أنم تلك الليلة.. لقد كان ثني الركب بين يدي هذا العالم الجليل أمنية كل طالب علم.. لقد اشغل سعود تفكيري بتلك العبارة.... بعد صلاة الفجر قلت ياسعود.. وين رفيقك اللي يعرف الشيخ.. قال الليلة فيه عرس وسيحضر الرجل وبعرفك عليه.. انتظرت بفارغ الصبر ذلك اللقاء ولكن الرجل غاب ولم يحضر العرس.. في اليوم التالي صلينا العصر في مسجد ذلك الرجل .. نسيت اسمه ولكنه رجل وقور وهادئ الطبع .. درس عند الشيخ لأربع سنوات وكان محل ثقة الشيخ فعينه مشرفا على سكن الطلبة.. دخلنا منزله وجلسنا في مجلس الضيوف.. لم يكن يعلم الرجل عن الموضوع.. قال له سعود .. هذا الأخ فلان الشمري!! يا الله ما أثقل تلك العبارة على قلبي ولكنه قالها سامحه الله.. قال : يرغب في الدراسة عند الشيخ محمد ونريدك تشفع له عند الشيخ.. رحب الأخ بذلك وتهللت أساريره وقال :بكل سرور.. وسأكتب له توصية عند الشيخ .. سألته هل من شروط القبول حفظ القرءان أو صحيح البخاري كما سمعت؟؟ قال : أبدا هذا ليس بصحيح ويمكنك الدراسة عند الشيخ بدون شيء.. أما إذا أردت الالتحاق بالسكن فلا بد من توصيه.. وسوف اكتبها لك..متى ستذهب؟؟ التفت لسعود فأنا ضيفه ، ومعنى ذلك هو أنني سأغادر حائل وأهل حائل.. ويعلم الله تعالى صعوبة ذلك على نفسي.. ولكن لابد من عمل شيء.. فوالداي لا بد أنهما قلقان علي فلو علما أنني لدى عالم ادرس والدراسة على الأبواب فلا بد أن أكمل دراستي الثانوية.. لو علما بأن أموري جيده فلا شك أن ذلك سيخفف من وقع المصيبة عليهما.. قال سعود: سوف اذهب في نهاية الأسبوع لتبوك وسوف أصحبك للقصيم.. ومن هناك سأسافر لتبوك.... وفعلا فقد كتب الأخ الكريم تلك التوصية مشكورا .. ولكن ما كدر خاطري أنه نسبني لقبيلة أخرى غير قبيلتي .. لقد كان خطئا فادحا سأدفع ثمنه غاليا من سمعتي لاحقا!!! وضعت التزكية في جيبي وذهبنا للمنزل.. رآني سعود كئيبا فسألني عن سبب ذلك .. أخبرته بأن من أسباب زعلي هو أنني سأفارق أناسا أحببتهم من كل جوارحي.. كما أحب إخوتي بل وأكثر.. سأفارق الأنس والكرم والجود والسماحة واللطف .. ماذا لو لم تصلح أموري هناك.. وما يدريني ماذا ينتظرني في عنيزة والقصيم.. ألم أزل شابا غرا صغيرا لم تصقله الحياة ماذا لو وقعت في يد أناس لا يخافون الله.. لقد كانت حالي استثنائية بكل المعايير وفيها من المغامرة والطيش شيء غير يسير.. دمعت عين سعود وقال لي : والله إن بقاءك يسرني ويسر إخوتي .. وإنني والوالدة والزوجة وجميع الأقارب الذين عرفوك يعدوك كواحد منا.. فلو شئت أن تمكث معنا فهذا يسرنا ويسعدنا ولو مكثت في بيتي عشر سنين.. ولكن إن مصلحتك تهمني ولا بد أن تتصل بعائلتك ووالديك .. فهما مهما غضبا عليك فسيبقيان اهلك واقرب الناس لك.. وأنت شاب ما زلت في مقتبل العمر وتحب العلم والتحصيل فهذه فرصة ثمينة لك.. وثق تماما حتى لو انتقلت للعيش في القصيم فسأبقى قريبا منك تعودني وأعودك وبخصوص تكاليف دراستك وإقامتك فسأتكفل لك بكل فلس تنفقه.. فانظر ماذا ترى والله يقدر لك الصالح.. لا شك أن كلام الأخ سعود هو حق ومع التأمل والتفكير فالمصلحة تقتضي أن أتدارك حل مشكلتي بكل السبل الممكنة.. لقد قدم لي سعود الكثير الكثير.. فيكفي انه آواني وفرج كربتي جزاه الله عني خير الجزاء.. أخذني في اليوم التالي لسوق السيارات.. فرأيته يبحث عن سيارة ليشتريها.. قلت له ياسعود أنت لا تحتاج لسيارة أخرى!! فلديك اثنتان وإخوتك غير محتاجين.. قال أريد أن اشتري لك سيارة.. أقسمت بالله عليه ورفضت رفضا قاطعا وجلست أتجادل معه أكثر من ساعة حتى أقنعته بالعدول عن ذلك.. لم يكن سعود رجلا غنيا فهو متوسط الحال والذي لا اشك فيه أنه سيقترض ذلك المال.. وحتى لو لم يقترضه وكان غنيا فكفاني منه جوده وسخاؤه .. فقد كان كل يوم أو يومين يضع في جيبي مبلغا جزيلا دون أن أطلبه والله.. قال لي مرة لقد زوجت أختي الصغرى قبل أن تأتيني بشهر واحد.. والله لو كنت أعرفك حينها وكنت موجودا معنا لزوجتك إياها!! بارك الله في سعود وفي ماله وولده وكثر الله من أمثاله.. وليس هذا غريبا على أهل تلك المنطقة فمع أن انتشار الجهل بالأحكام الشرعية بين أهل الشمال عموما هو الغالب ..إلا أنك تجد فيهم من الكرم والجود مالا تجده في مناطق أخرى.. حدثني مرة سعود يقول تعطلت سيارتي مرة وأنا على طريق عام .. فتوقف رجل أعرابي معه سيارة وانيت داتسن ذات باب واحد.. .. دون أن أشير له.. ومعه زوجته في داخل السيارة.. فعرف أنه لا يمكن إصلاح السيارة في الحال.. ولا بد من إحضار مهندس .. أمر ذلك الرجل زوجته بالركوب في صندوق السيارة.. قال سعود: أبدا أنا سأركب في الصندوق.. ودع الأهل في مكانهم..!! قال الرجل: هي طالق إن لم تركب أنت في الأمام وهي في الخلف..!! ولقد رأيت من كرمهم وجودهم وافتخارهم بذلك ما يعز نظيره والله.. إن ميزة الكرم لدى الناس هناك أنه جود غير متكلف .. فهذه سليقتهم وهذه طباعهم توارثوها من أجدادهم وما زالت راسخة لديهم.. الحلقة العاشرة. مرت الأيام التالية علي سريعا .. وحرصت أن استمتع بالجلوس فيها بالقرب من سعود..وأولاده وإخوته.. ذهبنا سويا أنا وسعود للمكتبة واشترى لي مجموعة من الكتب.. لقد أراد سعود أن يعدني إعدادا شاملا للدراسة عند هذا الحبر.. لقد كان سعود أشبه بوالد يزف ولده ... ولم أكن اعلم أنا أو سعود ما يخبئه القدر لي.. قبل يوم السفر قدم قريب لسعود وكان قريب عهد بعرس .. تلفظ معي هذا الرجل بكلام فهمت منه أنني غير مرحب بي.. قال لي: أنت لست من شمر وأريدك أن تخرج هويتك من جيبك لتثبت عكس ذلك.. كان متكئا على وسادة ومقابلا لي ..ويشير بيده بكل تيه وغرور.. قام أخو سعود إليه فأراد أن يلطمه على وجهه فدفعته وقلت له دعه ليقل ما يقل.. لم يكن من اللائق بي أن أحرج الأخ سعود في بيته فسكت .. لكن أخا سعود استدعاني للمختصر وقال لي.. دعك من هذا السفيه وأنا أعرف كل شيء عنك وأنت أكرم عندي منه.. خفف ذلك علي كثيرا ففكرة الانتساب تلك مع خطئها الشرعي لم تكن فكرتي و هي شيء مخالف لأعراف الناس وتقاليدهم وفيها ما فيها!!! في اليوم التالي سافرنا صباحا للقصيم.. ودعت إخوة سعود ثم انطلقنا لرحلة الطلب .. لم يكن إخوة سعود على استقامة تامة بالدين مع محافظتهما على الصلاة في المسجد إلا أنهما رجلان شهمان طيبان وفيهما من الخلال الحميدة ما يفوق كثيرا ممن رايتهم من المحافظين على الشعائر الظاهرة.. لقد أتصل علي سعود بعد أربع سنوات من ذلك اللقاء الأخير.. واخبرني بخبر اليم عن أخويه فلقد حدث لهما حادث بالسيارة على الطريق العام في أحد طرق الشمال السيئة .. فتوفيا على الفور رحمهما الله رحمة واسعة.. وخلف على سعود فيهما خيرا في ذريته وأولاده.. مر علي منذ أن خرجت من بيتنا من الطائف حوالي ثلاثة شهور تقريبا.. وهاأنذا أنتقل لمنطقة جديدة والله أعلم مالذي ينتظرني.. كنا وسعود في تلك السفرة صامتين .. فليس في مخيلتي أي كلمات أو حوار دار بيننا.. سعود هذا رجل .. ويكفي أن اسميه رجل.. إن من الناس من هو كمعدن الحديد ومنهم من هو كالفضة ومنهم من هو كالذهب.. سعود في نظري معدنه أثمن من الذهب والله .. أنا لا احكم على الرجل من خلال موقفه هذا معي هذا اتركه للقراء الكرام.. وصدقوني يا معاشر القراء الكرام إن سعود لا يعلم عما أكتبه عنه الآن..شيئا والله.. ولو علم لغضب من ذلك وكرهه.. فهو يرى عمله ذاك شيئا يتقرب به لربه ولا يريد أن يخالطه مدح الناس.. إن سعود لا ينتظر من عمله ذاك أن أكتب عنه أو أن أمجده فهو لم يكن يعلم ولا أنا كنت أعلم أين تسير بنا الأمور وما هي خاتمتها.. إنني أكتب هذا الكلام وهذه المواقف لأسجل لأبنائي ما حل بوالدهم.. لأروي لهم عمن رويت ومن خالطت ليعرفوا قدر الرجال وليعرفوا الدب مع الناس إنني يا أبنائي وأنتم الآن أطفال صغار وستكبرون إن شاء الله.. اقتطع لكم من جسدي قطعا صغيرة مليئة بالمآسي والأحزان والأتراح والعذاب والآهات فأنسجها لكم بهذه العبارات لكي تستمتعوا بها.. وتكون أنيسا لكم في دهاليز وظلمات ومضائق الحياة.. وأسجل للقراء الكرام ما حدث معي حتى يكون للناس فيها عبرة لمن أراد ذلك.. إنني أطلب من إخوتي القراء الكرام أن يشاركوني هذا الدعاء.. اللهم جازي سعود عني خير الجزاء اللهم بارك له في ولده وذريته اللهم واغنه من فضلك واجعله من عبادك الصالحين واختم له بخاتمة صالحة يا ارحم الراحمين .. اللهم اجعله من أهل فردوسك الأعلى ووالديه وإخوانه وذريته يارب العالمين.. وصلت أنا وسعود إلى عنيزة .. تلك المدينة الصغيرة الجميلة الهادئة.. مدينة العلم والعلماء.. دفن فيها من العلماء والصالحين على قرون مالله بهم عليم.. سماها أمين الريحاني باريس نجد.. شوارعها جميلة ونظيفة وأهلها كمجمل أهل القصيم فيهم العلم والدين والأدب الرفيع.. دخلت عنيزة وأنا فقير مشرد احمل معي حقيبة ملابس وكرتون كتب.. وكنت احمل قبل هذا في جعبتي تجارب قاسية وخبرة بسيطة في الحياة وسذاجة وقلة حيلة .. دخلت عنيزة وأنا حائر و رأسي متلبد بغيوم الشك والارتياب والضياع .. لم أكن أعلم وأنا أدخل عنيزة هل سأمكث فيها يوما أو أسبوعا أو شهرا.. فما يدريني فأنا منذ شهور أتنقل في البلاد من مدينة لأخرى .. ومن يد ليد أخرى ولكن رعاية الكريم ورحمته سبحانه هي التي ترعاني دخلت وأنا ابلغ السادسة عشر عاما فقط.. وبقيت في عنيزة أكثر من اثنتي عشرة عاما.. حافلة بالتجارب والمواقف الرائعة مع إمام الدنيا وفقيهها شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين عليه سحائب الرحمة والغفران.. الحلقة الحادية عشره أكتب هذه المقالة وأنا مطرق وصامت.. أضع يدي على رأسي .. لكي أنظم ذاكرتي.. تمر أمام عيني الآن مئات المواقف .. والخواطر.. أشبه بحاسوب أدخلت إليه آلاف البيانات في وقت واحد..!! إنني بهذه المقالة يا إخوتي وأخواتي أندب نفسي ..!! إنني بها أنكأ جرحا غائرا.. قد خيطته بغرز منسوجة من الحديد .. أحكي لكم عن أبي عبد الله !! لكي تستمتعوا وتستأنسوا بعطره الجميل.. وبذكريات لا يعرف تفاصيلها من البشر سواي... أما أنا فإنني أشق جروحا عميقة من جسدي وروحي لأقول لكم خذوا هذه الذكرى الجميلة الموجودة في أعماقي، دونكم الدليل والبرهان..!! عندما وصلنا لعنيزة أنا وسعود كان الوقت ضحى.. اذكر تلك اللحظات جيدا وما زالت في مخيلتي.. أوقفنا سيارتنا أمام الجامع الكبير في عنيزة.. عليه لوحة صغيرة خضراء.. مكتوب عليها جامع الشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي رحمه الله رفعت رأسي لأنظر لتلك المنارة الشاهقة والتي بنيت بجوارها منارتان حديثتان.. كأنهما فتاتان ذواتا قوام جميل ودلال وبهاء.. تنظران بشفقة وتشف لتلك المنارة القديمة البناء المبنية بالطين واللبن.. تغنى أحد أدباء عنيزة بها قائلا..على لسان تلك المنارة.. وهي تخاطب الناس عن الشيخ ابن عثيمين قالت: أنا المئذنة وهو المنارة..!!! نعم والله هي المئذنة وهو المنارة .. هذه المئذنة بناها بناء محترف قبل عشرات السنين وكلف بناؤها عشرون ريالا..!! ولكن أمير عنيزة زاد البناء عشرة ريالات مكافأة له على إتقان صنعته!! وهي حتى هذه الساعة مازالت شامخة تفخر وتشرف على ضرتيها!! وتغني وتقول .. أنا المئذنة وهو المنارة... اقتربت من باب المسجد فشاهدت لوحة صغيرة مكتوب عليها تسجيلات إسلامية.. دخلت للتسجيلات فرأيت رجلا ملتح ابيض وسيم الطلعة قصير وممتلئ على وجهه لحية قد اختلط سوادها ببياضها.. سلمت عليه .. فرد علي بصوت فيه بحة !! قلت له أين أجد الشيخ محمد ؟؟ قال الشيخ الآن في الجامع وعنده درس حتى الساعة العاشرة والنصف.. قلت : وبعد ذلك .. قال : يذهب ماشيا لبيته.. هل أنت طالب جديد أم تريد الفتوى؟؟ قلت : لا، أنا أريد الالتحاق بحلقة الشيخ.. رحب بي .. وقال أهلا بك في عنيزة ... ثم عرفني باسمه ، وقال أنا أخوك عبد الرحمن الخليفي .. قلت له وهل أنت قريب الشيخ الخليفي إمام الحرم..؟ قال هو أحد أقاربنا.. قلت : أريد التحق بسكن الطلاب من أقابل؟؟ قال: قابل الشيخ مباشرة وتحدث معه فهو صاحب الحل والربط!!! منذ ذلك التاريخ أصبحت لي مع أبي صالح علاقة طيبة.. بارك الله فيه خرجت من عنده فسمعت صارخا يصرخ على الميكرفون .. بسم الله ونصلي على رسول الله... عشرة ،عشرة، عشرة !! ظننتها محاضرة !!! ولكن حينما أنصت له عرفت أنه صوت البائع في سوق الخضار المقابل للمسجد...!!! قلت لسعود ماذا ترى؟؟ قال : دعنا لنذهب نفطر وتصلي مع الشيخ صلاة الظهر.. وتقابله.. توجهنا لأطراف عنيزة في المزارع المحيطة بها.. حيث تنتشر البساتين الخضراء والمزروعة بالنخيل على مد البصر.. جلسنا تحت ظلال شجرة واخرج سعود عدة الطبخ .. وصنعنا الشاي.. والإفطار.. كانت آخر جلسة لي مع سعود في مثل هذه الحال.. قلت لسعود : أنت لديك سفر طويل ، فهيا قم وأوصلني للجامع وسوف أتدبر أمري.. وفعلا توجهنا للجامع .. وأوقفني أمامه .. ودخلت أنا وسعود لصرحة المسجد .. حينما فتحنا الباب وجدنا الجامع خال من الطلاب ..والشيخ قد طلع من الدرس!! وضعت متاعي في زاوية المسجد قريبا من رفوف النعال.. ثم خرجت مع سعود.. أردت أن يكون وداعا سريعا!! حتى لا ينفطر فؤادي والله.. حزنا وكمدا.. قبلته بين عينيه ودعوت له وانصرفت وأنا تخنقني العبرة.. دخلت للمسجد فتنهدت وصليت على رسول الله.. تجولت بنظري في الجامع .. لمن لا يعرف الجامع يظن ذلك الجزء هو كل الجامع.. استصغرته في البداية .. ولكن بعد حين عرفت أن ذلك تقسيم متعمد وهو تقسيم معهود في المنطقة كلها.. في وسط المسجد يقع محراب خشبي مقوس ارتفاعه حوالي نصف ذراع .. وبجوارة علبة خشبية صغيرة لوضع النعال!! وفرشت سجادة من الفرش الرخيص .. قد بليت مواضع السجود منها وموضع الركبتين!! وألقيت بجواره مهفة ليروح بها الإمام عن نفسه من الحر.. وقعت عيني على مقعد على يسار الداخل للجامع ارتفاعه ذراع ويتسع لجالس واحد فقط ولا قوائم له، يتكئ من يجلس عليه على جدار المسجد.. وأمام المقعد اسطوانة حدية مدهون مثبت بالأرض بمسامير قوية عرضت عليه خشية طولها نصف متر تقريبا فيها فتحات صغيرة.. لوضع الميكرفونات عليها.. وأمام ذلك المقعد قد ألصقت بالأرض علامات منحنية كقوس لترتيب صفوف الطلاب.. حول شيخهم... عرفت أن ذلك هو موقع الدروس.. صليت تحية المسجد واتكأت على الجدار ووضعت خدي على كف يدي أفكر في حالي.... فتح الباب بشدة ودلف منه شخص كبير في السن!! .. وعليه مرآة عريضة وبشت ثقيل !! حينما رآني نظر لي نظرة حادة .. فصرفت وجهي عنه خوفا من نظراته.. فلم يعرني كثير انتباه!! كأنه يقول واحدة بواحدة..!! وضع نعله خلف موقع الإمام ثم خرج من المسجد!! الحلقة الثانية عشر.. كان ذلك الشيخ الذي دخل للمسجد وخرج هو العم عبد الله بن عمر العمري.. وهو احد أقران الشيخ ابن عثيمين في الدراسة على شيخه ابن سعدي رحمه الله.. بعد برهة وجيزة دخل ذلك الشيخ مرة أخرى .. وتسنن ثم نشر مصحفه وانكب عليه.. بقيت وحيدا أرقب باب المسجد وارقب حقيبتي وكرتوني.. خرجت قليلا من باب المسجد ، و قفت على الدرج الخارجي العريض .. حيث يقابل الخارج من المسجد دكانان أحدهما مكتوب عليه مركز إحياء التراث .. وعلى اليسار لوحة مكتوب عليها مؤسسة الاستقامة.. وكانت مغلقة!! دخلت لإحياء التراث ، وهي عبارة عن مكتب خدمات تصوير .. مليء بمذكرات دروس الشيخ ابن عثيمين ، وغيره من العلماء.. استأذنت البائع بالتصفح فأذن لي.. وسألته : هل هذه من تأليف الشيخ ..؟؟ قال : كلا ، هذه مذكرات مفرغة من دروس الشيخ ... خرجت من عنده ثم توجهت للوضوء والاستعداد للصلاة.. بعد دقائق ... دخل شاب نحيل بهي الطلعة.. وتقدم لدولاب طويل أبيض خلف المحراب ملصق بالجدار.. ففتحه ثم أضاء الميكرفون فأذن.. بصوت عذب وندي أعجز عن وصفه.. لم اسمع في حياتي أذانا جميلا مثل أذان ذلك الشاب .. لا أدري هل ذلك بسبب حبي للجامع وأهله أم أن ذلك حق يوافقني عليه آخرون..؟؟ لكن هذا رأيي الشخصي عن ذلك الصوت ولا شك أن الأذواق تختلف في الحكم ..!! فلا تلوموني إخوتي !!! اسم ذلك الشاب عبد الرحمن الريس بارك الله فيه..فهو جاري في الصف لسنوات !! بعدها تتابع الناس في الدخول للمسجد ولكن بوتيرة بطيئة!! خلاف ما رأيته في المساجد الأخرى.. !! وغالب من جاء للمسجد هم من الشباب المستقيم الملتزم ... تأخر الإمام فسألت من بجواري : هل الشيخ موجود ؟؟ قال : نعم ولكنه يتأخر.. وبعد مرور حوالي خمس وأربعين دقيقة من الأذان دخل الشيخ... هو كما عهدته لم يتغير من شكله شيء .. غير أنني هذه المرة أنا من قدم إليه.. تقدم من الباب ثم خلع نعله وحملها بيده ثم سلم على الجماعة .. وقف المؤذن وفي يده ميكرفون ذو حبل طويل مما يعلق على الصدر..!! أقام الصلاة .. وكان الشيخ يستن بالسواك بيده اليسرى!! التفت للمؤذن ثم تناول منه الميكرفون فعلقه الشيخ على صدره بلمسة إحترافية..!! ثم التفت للناس وأمر الجميع بالاستواء والتراص.. نظرات الشيخ ثاقبة وحاجباه كثيفان مليئان بالشعر الأبيض.. يثيران في النفس الرهبة والمهابة.. كأن نظرته تخترق جسدك اختراقا..!! قدم وأخر في الصفوف كأنه قائد جيش !! حينما اطمأن من تراص الصفوف واستكمال الأول فالأول كبر الشيخ.. أطال الشيخ في الركعة الأولى إطالة لم أعهدها...!! وفي ركوعه وسجوده وسائر الأركان يطيل الشيخ تطويلا بينا.. فمع كبر سنه إلا أن نشاطه وتماسكه يساعدانه على تحمل تلك الصلاة !! ثم إن أغلب من يصلي معه من الشباب النشيط.. سوى العم عبد الله العمري سالف الذكر.. ورجلا آخر له شأن وأي شان... رجل مسن رقيق الجسم لا تكاد أن ترى في جسمه مزعة لحم.. منحني الظهر ثيابه رثة وهيئته كهيئة مخبول أو معتوه !! ولكنه يحمل في صدره علما كالجبال .. إنه الشيخ الزاهد عبد الله الفالح.. حينما رأيته ظننته شحاتا .. ولكن سمعت عنه وجالسته بعد ذلك فوجدت الرجل واسع الإطلاع راسخ العلم .. غير انه زاهد في الدنيا ومتعها حتى إنه لم يتزوج قط..!! ولعل أن تأتي مناسبة للحديث عن هذا الحبر بشكل أوسع .. ختم الشيخ صلاته بالسلام .. ثم استغفر بصوت جهوري .. وضج المسجد خلفه بالتسبيح والتهليل.. ثم استدار الشيخ بفتوة ونشاط كما يستدير الفارس على صهوة فرسه..!! واستمر في تسبيحه وتهليله.. تخطيت الصفوف وجلست بجوار الشيخ فألقيت بين يديه توصية صاحبي.. فأشار لي الشيخ بيده اليسرى وهزها بعنف أن انتظر .. فخجلت وشعرت بحرارة تملئ وجهي حياء من ذلك الموقف.. حينما استكمل الشيخ تسبيحه قال ماذا تريد..؟؟ فقدمت له الورقة.. فقال : ماذا فيها؟؟ قلت: توصية من فلان.. قال أعرفه وماذا تريد ؟؟ قلت أريد أن ألتحق بحلقتك للدراسة لديك... قرأ الورقة بسرعة ثم أعادها وقال..: هذا لا يكفي لا بد من توصيتين .. ابحث عن شخص آخر أعرفه ليوصي بك..!!! ثم فز من مجلسه وتناول نعله وقام..!!! بقيت برهة أنظر حولي واحترت..؟؟؟ هل انتهى كل شيء ؟؟ لم اطل التفكير بل عزمت أن ألحق بالشيخ لأكلمه مرة أخرى..!! خرجت فلحقته فرأيت حشدا من الناس تسير مع الشيخ.. منهم السائل والمستفتي ومنهم صاحب الحاجة .. كنت أراقب المشهد وأنا بحذو الشيخ .. يسير الشيخ من المسجد حتى بيته في كل الصلوات.. صيفا وشتاء .. دونما كلل .. ولقد رأيت فتية نشطاء أقوياء يعجزون عن لحاق الشيخ حينما يسرع الخطى!! بعد تجاوز نصف المسافة .. ورجوع أكثر الناس.. نظر إلي وقال : ايش عندك؟ قلت له : ياشيخ لقد جئتك من مكان بعيد ولا يعرفني أحد سوى فلان الذي أوصى بي.. فماذا أفعل ؟ لا سكن عندي ولا أعرف أحدا هنا في عنيزة؟؟؟ قال : هل أنت شمري من حائل؟؟ أسقط في يدي فالورقة فيها فلان الشمري؟؟ فلو قلت غير ما هو مكتوب فهذا نهاية المطاف ؟؟ وإن كذبت فلا حول ولا قوة إلا بالله !! تماسكت وقلت: نعم أنا شمري؟؟ قال هل يعرفك عبد الله العبيلان رئيس مكتب الدعوة في حائل؟ قلت : لا والله.. قال هل يعرفك فلان رئيس المحكمة؟؟ قلت : لا والله ياشيخ!! قال : ماذا افعل لك تصرف!! قلت : هل ممكن أن أنزل في السكن مع الطلاب حتى أجد من يزكيني؟؟ أدار الشيخ وجهه نحوي.. أخذني الشيخ طولا وعرضا بنظره وتأملني ثم قال : لا بأس أذهب لمحمد البجادي !! وقله أرسلني لك محمد للسكن مؤقتا !! قبلت رأسه ورجعت لمتاعي.. حملته ثم التففت من خلف السكن المقابل للمسجد.. وشاهدت جموعا من الطلبة تصعد وتنزل من باب السكن.. فرأيت لوحة مكتوب عليها : مكتبة عنيزة الوطنية .. أسسها الشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي.. وها أنذا أدخل السكن الذي لن أخرج منه سوى بعد سنوات.. الحلقة الثالثة عشر دخلت لسكن الطلاب وهي عمارة ذات أربع طوابق.. تبرع بها الملك خالد رحمه الله وأوقفها لطلبة العلم في الجامع الكبير.. صعدت للطابق الثاني فوجدت الطلبة مجتمعين على الغداء.. وعن يمين الصالة علقت لوحة مكتوب عليها ( المكتبة) سألت عن محمد بن بجاد.. فقال محدثي : أنا هو..!! وكان واقفا بجوار براد الماء على مدخل صالة الطعام.. قلت له لقد بعثني الشيخ محمد إليك لكي توفر لي سكنا مؤقتا .. قال : لماذا مؤقت؟؟ قلت : لم استكمل التوصيات .. قال : ما اسمك؟؟ هل سأقول لهم اسما غير الذي أنادى به من شهر؟؟؟ أنا فلان الشمري؟؟ قال: ولكن لهجتك؟؟ قلت له: أنا عايش طوال حياتي في الطائف؟؟؟ انتهيت من تحقيق الأخ محمد الظريف ثم قال تفضل استرح في المطبخ!!! دخلت لصالة الطعام .. وهي صالة مفروشة بزل قديم .. كانت أشكال الطلبة مختلفة ومتباينة !! فتسمع اللهجة الحجازية وكذلك لهجة نجد طبعا..وترى الأفغاني والأفريقي.. جاؤا من أصقاع الأرض ليثنوا ركبهم عند ذلك الحبر .. يجلس الطلبة حلقا على سفر الطعام.. كانت رائحة الأكل تثير الشهية فانتظرت الأخ محمد ليدعوني أو غيره من الطلاب ..! فلقد كنت خجلا فأنا غريب بينهم ولا اعرف أحدا منهم.. غربة ما بعدها غربة والله المستعان!! تكرم احد الطلبة بعد أن لمحني أتلمض دجاجة مشوية لا احد حولها.. قال : تفضل كل معنا يا أخي ؟؟ كدت أن أتمنع!! ولكن الجوع أبصر ..!! فانقضضت على طريدتي.. ولم يزاحمني عليها احد.. فظن شرا ولا تسأل عن الخبر!! حينما شبعت وغسلت يدي .. وخلت الصالة بعد أن ذهب جلهم لغرفهم وبعضهم يقيم خارج السكن!! بجوار المطبخ ثلاجة ذات بابين فيها مالذ من شراب وعصير وحلويات!! توجد ولكن بجوارها يجلس رجل أفغاني كأضخم رجل تراه!! وله لحية كثة وسمعت الطلبة يسمونه علاء الدين... قلت له : ياعلاء الدين ؟؟ هل ممكن اشتري من هذه الثلاجة؟؟ ظننته سيقول هذا بالمجان تفضل خذ ما تريد!! قال : ايش تشرب ؟ فطلبت البارد .. فقال : بس واحد ريال!! دفعته طبعا ومن ذا يجرؤ يزعل مثل هذا المخلوق الضخم!! لكن هذه الضخامة والسعة في الجسم تخفي في داخلها قلبا كبيرا .. إن علاء الدين هذا رجل لا كالرجال !! ولا اعرف أحدا في سكن الطلاب قد اشتكى منه طوال إقامتي في السكن.. ويكفي ثقة شيخنا محمد به .. دعونا من علاء الدين الآن .. ولنكمل قصتنا..!! توسدت حقيبتي فنمت ... استيقظت على أذان عبد الرحمن وما أجمله من نداء.. لم يكن في الحقيبة شيء يخاف عليه فتركتها غير عابئ بما يصير لها!! صلى بنا شيخنا صلاة العصر ثم قرأ عليه قارئ من كتاب رياض الصالحين ( أظن) فعلق عليه الشيخ تعليقا مبسطا ميسرا.. والملاحظ كثرة المصلين في صلاة العصر عن صلاة الظهر .. حينما كان الشيخ يتحدث تذكرت رجلا يعمل في هيئة الأمر بالمعروف في حائل وهو من أقرباء سعود وذكر لي أنه من تلاميذ الشيخ محمد القدامى.. اسمه عباس المعاشي( أو الشمري الشك مني).. بعد انتهاء الدرس تحلق حول الشيخ حشد من الناس منهم السائل ومنهم المستفتي وصاحب الحاجة ولقد رايت ما يعانيه الشيخ من صلف الناس وجفاءهم فرحمه الله وعفا عنه لحقت الشيخ وسألته... هل تقبل توصية عباس الشمري....؟؟ قال : أنعم به وأكرم ... كنت احتفظ برقم عباس .. فتوجهت لكابينة الهاتف واتصلت عليه.. رد علي عباس بصوت غير الذي عهدته؟؟ كلمته في الموضوع..!! قال : أنا مريض ولكن سوف اتصل على الشيخ وابلغه بما تريد إن شاء الله.. رجعت للسكن وبحثت عن محمد بن بجاد.. فطلبت منه غرفة بسرير مريح لكي أضع متاعي فيها!! ضحك وقال : تعال اريك غرفتك!! صعدنا للدور الثالث .. ففتح لي الباب .. فرأيت غرفتي المريحة!! غرفة صغيرة ملقى فيها طراحة مهترئة ولحاف بالي ووسادة مهترة!! قد فرشت ببساط أقرب حاله أن أسميه أنه هالك!!! ركز بجدرانها رفوف فارغة لوضع الكتب .. فكانت أشبه بعجوز فاغرة ولا أسنان لها.. قال تفضل هذه غرفتك..!! وقال : أنا لست مشرف السكن!! إن أردت شيء فكلم الأخ محمد زين العابدين !! قلت له: وأين أجد محمد زين العابدين هذا؟؟ قال هو مسافر وسيأتي اليوم من شرورة ..و هو ينزل في غرفة في الدور الثاني .. مع شخص اسمه نافع الشمري!! حينما سمعت كلمة (شمري) جمد الدم في عروقي !! فهاأنذا أجاور شمريا حقيقيا !! ثم انصرف .. وتركني في الغرفة.. وأظنه قال في نفسه : يالهذا الأحمق هل يظن نفسه سينزل في غرفة خمس نجوم!! جلست على طراحتي البالية .. أنظر لجدران الغرفة المتسخة !! سبحان الله .. كيف يرضى الشيخ محمد بهذا الحال؟؟ ولم أكن اعلم إلا بعد حين أن غرفتي تلك هي غرفة الضيافة!! ولكن بعد فترة والشهادة لله فقد تحسنت الأوضاع بشكل ملفت.. وجدد السكن تجديدا يليق بمقام شيخنا رحمه الله رحمة واسعة.. وقفت على نافذة الغرفة حيث تشرف نافذتي على الشارع العام.. أراقب الرائح والجاي كما يقولون!! لمحت نسوة كثرا متلفعات بالسواد .. وجالسات على الرصيف .. وبعد لحظات جاء الباص فحملهن ومكتوب عليه ( مستشفى الملك سعود) إذا ،هن ممرضات!! ومتسترات بهذا الستر؟؟ .. بل وسمعت ان كثيرا منهن غير مسلمات!! فالسفور كما سبق نادر أو معدوم ... تركت الممرضات اللاتي يذكرنني بالمرض والهم فنزلت للمسجد.. سألت عن الدرس في تلك الليلة .. فقالوا لي :الدرس الليلة في كتاب زاد المستنقع .. سألت أحد الطلاب عن مكتبة قريبة.. فأشار لمكتبة مجاورة لجنوب المسجد مكتوب عليها مكتبة الإمام الذهبي.. دخلت للمكتبة وطلبت من البائع أن يعطيني متن الزاد.. فاشتريته ثم توجهت للمسجد.. رأيت مجموعة من الكتب موضوعة للحجز أمام الشيخ .. ولم تكن تلك العادة غريبة علي فقد كنت افعلها في دروس مشائخنا في الطائف.. تقدمت وبكل جرأة وصفاقة !! فالتفت حولي هل يراني من احد !! فأزحت كتابين عن بعضهما وفرقت بينهما في المجالس ووضعت كتابي بينهما..!! ولقد اخترت الصف الأول بل وأمام الشيخ مباشرة!! لقد كانت تلك الجرأة والصفاقة سببا هيئه الله تعالى لي لكي يفتح قلب شيخنا الكبير لشخص مغمور ضائع مثلي... الحلقة الرابعة عشر توافد الطلبة على الجامع زرافات ووحدانا وذلك قبل الأذان.. وحينما أذن المغرب ازدادت وتيرة الحضور حتى غص بهم الجامع.. ولقد تأخر الشيخ كعادته للحضور حتى إنك إن خرجت خارج الجامع سترى في الأسواق المحيطة بالجامع جلبة بعد خروجهم من صلاة المغرب من المساجد الأخرى!! وأخيرا دخل شيخنا بهي الطلعة رحمة الله عليه.. صلى بنا المغرب وكنت أول مرة أسمع تلاوة الشيخ .. تلاوته شبيهة بقراءة الشيخ السبيل إمام الحرم لمن يعرفه !! إلا أن شيخنا يسرع قليلا في القراءة... وفي قراءته نبرة حزن ..... صليت بجوار المؤذن عن يساره منذ ذلك اليوم.. وحينما سلم الشيخ انتظرت قليلا ثم تخطيت الصفوف والأرتال.. وللمسجد ضجة هائلة بالتسبيح والتكبير .. كما هي السنة.. توجهت لمكاني الذي حجزته ورفعت كتابي وجلست .. قدم مجموعة من الطلاب ، وجلسوا حولي وقال أحدهم لي.. هذا مكان فلان .. قم وابحث لك عن مكان آخر!! قلت له : وهل المكان ملك أبيه !! هذا بيت الله والمكان لمن سبق!! أعتدت على ذلك النقاش من قبل في الطائف!! ابتسم محدثي وأطرق يقرأ في كتابه!! كنت غرا ولا أدرك عواقب أفعالي.. استكملت الصفوف وبقي مكاني الذي أنا فيه فرجة صغيرة !! كان كل من حولي يرقبني بنظرة إشفاق كأن عيونهم تقول لي: انتظر قليلا وسترى!!! جاء شاب آدم اللون مستوي البنية ولحيته خفيفة!! وقد خرج من غرفة بجوار مكان الدرس ويظهر أنه من كبار الطلبة!! ويحمل حقيبة صغيرة وضعها على مقعد الشيخ ثم استدار وجاء نحوي..!! اقترب مني .. وقال: هذا مكاني !! قلت له : أهلا بك وزحزحت الذي بجواري حتى حشرته !!! وقلت له: تفضل!! فجلس الرجل وهو غير راض!! تأخر الشيخ حتى يتسنن الراتبه .. ثم تخطى الصفوف ودخل حتى صار أمامنا.. وعلا فوق منصة الدرس المصنوعة من القطيفة المحشوة بالقطن أو ألأسفنج الخشن، لا أدري!! ثم جلس وألقى عباءته خلفه .. واتكئ على الجدار .. نظر إلي فرأى وجها جديدا لم يعهده!! فنظر لمن بجواري وأرخى رموش عينيه ليركز النظر .. وهو يقلب في أوراق منشورة في حجره كأنه يتساءل من هذا؟؟ ثم قال الشيخ: أليس المكان ضيق عليكم؟؟ أما أنا فلم أنطق حرفا واحدا ولم أتحرك كأنني لا أسمع وخيرا فعلت!! وأما جاري فاستوى في جلسته وأصلح من مكانه فصار فسيحا بقدرة قادر!! ثم هز رأسه بعلامة تفيد برضاه !! انتهى الحال على هذا ولكن يظهر أن الشيخ قال في نفسه : ستدفع ثمن جرأتك ...!! فهذا المكان له ثمن!! وأي ثمن!! ابتدأ الشيخ بالحمد والصلاة على رسول الله .. وقال : درسنا في الفصل الماضي .. كذا وكذا .. ثم بدأ بمراجعة الطلبة عما تلقوه في الدرس السابق... كان الطلبة حولي يرفعون أيديهم لكي يجيبوا... أيهم يختار.. أما أنا فليس لي في ذلك النقاش ناقة ولا جمل!! الشيخ محمد سهل وبسيط في كل أموره .. في أخلاقه في سمته ، في لباسه ، في حديثه ، أما حينما يتعلق الأمر بالسؤال والنقاش .. فليحمد الله كل من سلم من ذلك!! يقولون إن علم الرجل يظهر من سؤال الناس له .. حيث يسهل على كل واحد أن يحضر من كتاب فيفرغه كاملا بين يدي الناس!! لكن حينما تتوارد عليه الأسئلة ويحيطه المناقشون الأذكياء.. فحينها يظهر علم العالم من جهله.. وهذا هو منهج الشيخ في السؤال والنقاش .. يعود الطلبة على قوة الحجة وتحمل الجدال دونما خوف أو تردد.. ولذلك يتعمد حشر الطالب بأسئلة صعبة ويورد عليه الإشكالات .. فلا يفلت منها إلا الأذكياء والنبهاء.. أما من يرى في نفسه عدم الأهلية أو يعرف من حاله انشغال فكره بمصالحه وولده فخير له أن ينصرف للصفوف البعيدة وليدس رأسه خلف زاوية أو عمود!! استمرت المناقشة والمراجعة وقت لا بأس به .. ثم ابتدأ الشيخ بالدرس الجديد... شيخنا رحمه الله فنان في التدريس قل نظيره .. أسلوبه يسير لا يشق على المبتديء ولا يحتقره الطالب المجد القديم.. فكل يجد حاجته وكل يخرج وهو راض وفاهم ومستوعب لكلام الشيخ.. الشيخ محمد ليس صاحب كم ولكنه إمام في الكيف!! من الأمثال المشهورة : علمني صنعة ولا تقرضني مالا!! شيخنا يعلمك صنعة العلم بحيث يمرس الطالب على كيفية البحث والمناقشة والاستدلال والتأصيل ، والجدال وكيفية ترتيب الدليل والحجة .. ولذلك يستمر الطالب عند الشيخ سنوات عديدة ولم يكمل كتابا واحدا عنده.. ولكنه يخرج بفهم ثاقب وقدرة هائلة على الطلب والبحث والاستمرار في التحصيل.. الحلقة الخامسة عشر في دروس شيخنا في عنيزة من النادر أن يسال الشيخ الطالب خلال الدرس.. فغالبهم قد جاء له من أماكن بعيده بقصد العلم والتحصيل .. وفيهم من الطاقة والحيوية ما يجعلهم حريصين ومتنبهين لكل فائدة ومسألة. ولكن الوضع ذلك اليوم مختلف ..!! سألني الشيخ في ذلك الدرس ثلاث مرات كأنه يختبرني أو سيقول لي : طس !! وبحمد الله بلعت الطعم ولم أقع في المصيدة!! فقد أجبته بما فتحه الله علي مما حصلته عند مشائخنا في الطائف.. فكان ذلك فأل خير لي بحمد الله تعالى.. انتهى الدرس الأول بعد الأذان .. ثم تقدم شاب من الصف الخلفي وجلس بيني وبين جاري الغاضب مني!! وعلق الميكرفون على صدره .. ثم أخذ يقرأ من نونية ابن القيم.. بصوت جمع بين العذوبة والرقة ، وجمال الأبيات التي نظمها ابن القيم رحمه الله.. لقد كانت تلك المنظومة مع أنها تحوي ردودا علمية رصينة إلا أنها... حوت حكما ومواعظ وطرائف لا يتقن نظم قلائدها سوى مثل ابن القيم وكفى به !! لاحظت رجلا أفغانيا ذو عمامة عريضة ويلبس المرآة يجلس عن يمين الشيخ.. و لاحظت الشيخ يستأنس كثيرا بالحديث معه أو مناقشته .. وكانت أسئلته وركاكة لسانه الأعجمي تثير ضحك الطلاب .. كنا نستأنس ونفرح حينما يسأل هداية الله لأن شيخنا يسر بذلك .. ومع عجمته وصعوبة النطق بالعربية لديه حيث انه لا يتكلم سوى بالفصحى المكسرة..!! إلا أن الرجل قد أتقن علوم الآلة من نحو وأصول وأصول تفسير ، بشكل شبه كامل.. أذكر في درس الفرائض من متن البرهانية المسألة العنقودية والتي لم يستطع حلها سوى هداية الله !! وهي مسألة شائكة ومعقده لا يقدر عليها سوى الراسخين في الحساب والفرائض.. كان هداية الله هذا يسجل دروس الشيخ في مسجل صغير.. ثم يرجع لغرفته فيغلق الباب على نفسه .. فلا ينام حتى ينسخ ذلك الشريط على دفتر خاص ثم يترجمه من فوره للغته الأفغانية!! و هذا ما يفعله كل ليلة طوال ست سنوات جاورته وخبرت حاله..!! انتهى الدرس وتوجهنا للمصلى وكنت وضعت كتابا بجوار المؤذن لكي أصلي مكانه.. صليت خلف شيخنا .. وبعد السلام ..تحلق مجموعة من الناس حول الشيخ .. كما هي العادة في كل صلاة سوى صلاة الفجر والمغرب.. ثم قام الشيخ وخرج من المسجد لحقته مع الناس وذلك بقصد الفضول فقط .. كنت أسير بمحاذاة الشيخ واستمع لأسئلة الطلبة والمستفتين.. ولقد فاجأني الشيخ حينما التفت إلي وقال: يبدوا أنك تريد العلم والتحصيل !! كانت غير متوقعة والله .. ثم قال الشيخ .. هل نزلت في السكن؟ قلت : نعم.. كان الطلبة يراقبون هذا الموقف وقلوب بعضهم تخفق من الغيرة من هذا الحوار الخاص!! والنموذجي!! قال : إذا عجل بالتزكية حتى نسمح لك بالبقاء ..!! قلت له : لقد اتصلت على عباس وهو مريض وقال سيتصل عليك!! قال : خيرا إن شاء الله .. ثم عدت أدراجي للسكن.. استبشرت بهذا النجاح الذي لم ارتب له شيئا بل توفيق الخالق سبحانه وتعالى.. دخلت لغرفتي فوجدت زائرا ينتظرني!! وجدت شخصا جالسا في غرفتي.. سلمت عليه .. فرد وقال : هل أنت تسكن في هذه الغرفة؟؟ قلت : اليوم نزلت فيها.. قال : إذا سنكون سوية هنا .. أنا أخوك بندر الحربي .. تعارفنا .. قليلا ثم نزلنا للعشاء.. وهذه المرة لم أنتظر أحدا يدعوني!! حقيقة أن تنام في غرفة صغيرة وضيقة مع شخص لا تعرفه شيء مزعج..لمن لم يعتد عليه خصوصا انه لم يستأذنني احد في اختيار زميل السكن.. ولكن لا خيار لي فإما مع بندر أو الشارع!! ولكن بندرا هذا رجل ظريف وحلو المعشر .. وبعد حديث طويل معه اكتشفت طيبته .. ومع انه رجل انعزالي ولا يحب مخالطة الناس ونظراته غير محببة ، لعمقها وحدتها!!! إلا أنني حينما عاشرته وخالطته تبين انه رجل طيب وفاضل.. استأمنته على بعض أموري وكنت أستشيره فيصدق المشورة!! كنت أخرج للتنزه مع بندر على سيارته الوانيت في الطعوس المحيطة بعنيزة وما أكثرها!! في اليوم التالي .. حضرت درس الصباح .. والذي يستمر من الساعة الثامنة وحتى العاشرة والنصف.. ويدرس فيه الشيخ خمسة كتب .. والحضور في تلك الدروس ليس بالكثرة التي كانت بالأمس.. حيث أن هذه الدروس فقط في موسم الصيف والعطل الدراسية.. كانت الدروس صعبة علي لمستواها العالي عني.. ومع ذلك فلم انقطع عنها طوال الفترة المتبقية من الصيف والتي لم تطل كثيرا.. بخصوص المكان فقد تمسكت بالمكان الذي جلست فيه بالأمس .. وذلك لسنوات عديدة بفضل الله تعالى.. وذلك على رغم عدم رضى جاري سامحه الله!! والذي ستكون لي معه مواقف ستصطدم كثيرا من قراء هذه الحلقات.. ولست اقصد من روايتها الشماتة به أو النيل منه.. فأنا لن اسميه ولا احد من القراء يعرفه أو يعرفني .. ولا يخلوا ذكر القصة من فائدة وحكم وطرفة !! ومع أن تلك المواقف حصلت قبل سنوات عديدة إلا أنها لن تمر دون اعتبار وتمحيص.. والموعد عند رب العالمين سبحانه وتعالى هو حسبنا ونعم الوكيل.. الحلقة السادسة عشر في اليوم التالي حصل تقريبا ما حصل بالأمس غير أن المفاجأ ة كانت وعلى غير المتوقع حينما مشيت مع الشيخ في عودته لبيته بعد الدرس الصباحي .. ناداني الشيخ وبانزعاج ظاهر وقال لي: لما لم يتصل صاحبك؟؟ قلت له: والله لا أدري ولكن في اتصالي السابق عليه قال هو مريض.. فلعله اتصل على تلفونكم فلم يجبه أحد!! قال الشيخ: هات رقم تلفونه وسوف أتصل عليه أنا!! لم أكن ساعتها أحمل رقم عباس فقلت له: سأحضره لك بعد صلاة الظهر.. وبعد الصلاة ناولت الشيخ ورقة عليها رقم الشيخ عباس .. كنت قلقا للغاية .. فالشيخ محمد لمن خالطه رجل حازم .. ولا أسهل عليه من أن يقول لي ارجع من حيث أتيت!! وكون الشيخ يطلب رقم عباس ليتصل عليه من طرفه إن ذلك الفعل هو نبيل وتواضع من شيخنا جزاه الله خيرا.. ورحمه وأسكنه جنات النعيم.. بعد صلاة العصر وانتهاء درس العامة ..أشار لي الشيخ وكنت أمامه بجوار المؤذن أن الحق بي!! لحقته ومشيت بجواره ولكنه لم يكلمني في شيء..!! انتظر الشيخ حتى انتهى الناس وقضى حوائجهم وبقيت أنا وهو بمفردنا نسير حتى اقتربنا من البيت وكنت منتظرا دون أن استبق منه شيء!! ولكن يعلم الله سبحانه وتعالى أنني قد خفت وظننت الظنون فربما أن أخي سعود أخبر عباس بمشكلتي .. وبدوره أطلع عباس الشيخ على الحاصل !! قال الشيخ: خلاص!! شدهت وظننت أنه خلاص سيخرجني ولكنه استأنف كلامه... أنا كلمت عباس وهو أثنى عليك خيرا!! وسكت!! قلت في نفسي :ما معنى هذا الكلام؟؟؟ ثم أكمل شيخنا وهو يضم يديه ويشير بها للإمام ويزم شفتيه وقال : سنقبلك في السكن!! بشرط أن تجتهد في الطلب.. لو كان بيدي في تلك اللحظة أن اصرخ من الفرح لفعلت!! أي خبر سعيد هذا !! الحمد لله رب العالمين.. ثم قال الشيخ : وأنت يافلان الشمري!!! اغتنم هذه الفرصة ، خاصة أنك ما زلت في مقتبل عمرك .. وفقك الله.. انصرفت بعد أن قبلت رأسه ودعوت له.. ما أجمل أن ترى بصيص الأمل بعد اليأس .. ما أجمل الشعور بالاستقرار وخاصة في كنف ورعاية رجل بوزن الشيخ محمد عليه الرحمة والرضوان.. لم أطمع ولم أحلم بل والله الذي لا إله سواه ولم يخطر في بالي أن أحصل على أي امتيازات مادية أو معنوية من قبل الشيخ محمد .. بل كان يكفيني أن أحصل على ما حصل عليه الآلاف سواي من طلبة العلم الذين يحيطون بشيخنا من كل صوب كل يبحث عن رضاه بعد رضى الخالق سبحانه وتعالى فهو للجميع بمقام الأب الحاني .. ومن ذا لا يبحث عن رضى والده..أو والدته.. وكذلك يكفيني ويشرفني أن أتتلمذ على يديه وأحصل على علم قل منه أو كثر.. انخرطت بعون الله سبحانه في طلب العلم والتحصيل فكان هو شغلي وهمي .. اقتنيت عددا من الكتب ورتبتها على الرفوف في غرفتي الصغيرة.. تعرفت على عدد من الطلاب ولكن لم يكن اهتمامي منصبا على ذلك.. من الطلبة الذين عرفتهم وخالطتهم الأخ نافع الشمري .. وكذلك الخ خالد الشمري .. ومنهم الأخ محمد زين العابدين!! هذا الأخير هو مشرف السكن .. وقد وصل من شرورة لكي يرتب سكنا له ولزوجته التي دخل بها قبل أسابيع!! وبذلك سينتقل من السكن الحالي والذي هو سكن للعزاب فقط ليستأجر بيتا له ولعائلته.. الأخ محمد رجل عاقل وفيه حلم وأناة ولذلك كان اختياره للإشراف على السكن هو اختيار موفق.. كان الأخ محمد هو ملاذ الطلاب عند المحن بعد الله فهو الوسيط بينهم وبين الشيخ .. ولقد كانت مهابة الشيخ محمد رغم تواضعه تمنع كثيرا منهم عن مخاطبته مباشرة.. ولكن يكفي أن يوصل الأخ محمد شكاويهم وطلباتهم ليبت فيه الشيخ .. طلبت عن طريق الأخ محمد أن يوفروا لي كتبا ومراجع فوضعت قائمة كبيرة بالكتب.. سلمتها لمحمد .. فظهرت على وجهه ابتسامة صفراء ماكرة !! وهز رأسه وقال: هل تظن الشيخ يوافق لك على هذه الكتب؟؟ قلت له قدمها له وسنرى.. وفعلا قدم محمد القائمة للشيخ بعد ظهر إحدى الأيام فوضعها الشيخ في جيبه.. بعد يوم أو في ذلك اليوم بعد العصر ناداني محمد وقال : انظر في ورقتك!! فوقعت عيني على شخاميط بالقلم الأحمر وضعت على كل الكتب تقريبا وأضيف عليه للتأكيد علامة X ووافق على كتابين أو ثلاثة وأرفق معها قيمة الكتب نقدا معلقة بالفاتورة!! أخذتها وحمدت الله تعالى واشتريت الكتابين فأضفتها لمكتبتي الصغيرة.. وعلى كل فقد وفر في السكن مكتبة علمية لا بأس بها وتحوي مراجع كثيرة للباحثين ومحبي القراءة .. ومع ذلك فالمكتبة شبه خالية .. والسبب في ذلك أن أغلب الطلاب قد يسر الله لهم مكاتب على حسب تخصصاتهم ومشاربهم في غرفهم.. فترى الطالب المهتم بعلم الحديث والتخريج أكثر كتبه ومراجعه من ذلك.. وينطبق الحال كذلك على طالب الفقه والتفسير وغيرها .. أما أنا فقد كانت مكتبتي صغيرة ولكنها نمت وترعرعت حتى خرجت من سكن الطلاب.. وإنه ليعجز عن حملها الرجال الأشداء أولي القوة لكثرتها وتنوعها والحمد لله..!! الحلقة السابعة عشر كنت وبحمد الله مجدا في الطلب وقد انشغلت بالي وتفكيري تماما عن أي شيء آخر سوى العلم وطلبه قد يلومني أحد على عدم اهتمامي بوالدي وأهلي ذلك الحين، وأنا والله أوافقهم هذا اللوم وأستحقه ولكن ما الحيلة وما المخرج؟؟ لم أكن ذا رأي وهدى إلا أن الله تعالى برحمته لم يترك الأمور هكذا تسير بل بتدبير عجيب منه سبحانه حصلت وقائع هي أصل روايتنا هذه وهي ذروة سنامها ، وسأحكيها في وقتها كما هي ولا بد من التمهيد لها ولو طال ذلك!! حتى تتضح الصورة وتنكشف الأوراق دون النيل من أحد بعينه فليس هذا مقصدي والله فلموتي ودفني مع سري عاجلا أو آجلا أهون على نفسي من كشف ذلك أو البوح به فالله سبحانه يعلم أنني أردت الفائدة لي ولمن سيقرأ هذه الرواية من أهلي وأصحابي الذين رغبوا في معرفة الحقيقة ، ولا اشك إن شاء الله أن كثيرا ممن وقع في نفوسهم شيء علي حينها حينما يطلعوا على ما سأخطه هنا أنه لو كان لديهم إنصاف( وهو عزيز ) فلا بد أن يزيل كثيرا من اللبس والخلط غير المقصود.. كذلك ينبغي العلم أنني حينما أحكي ما يفهم منه الثناء على شخصي لا اقصد والله ذلك بل إنني أروي ما حدث وما مضى عليه حوالي الخمسة عشر سنة خلت ويعلمها كثير من الطلبة ويشهدون عليها ، ولست ادعي أنني أكثر الطلبة أو اقلهم تحصيلا وعلما ولكن هذه هي الحقيقة وهذه الصورة كما وقعت ، لا يأتِّيني أحد غدا يقول لي أنت تمجد شخصك ؟؟ لا والذي بيده علم الساعة ما هذا قصدي بل غايتي من كل ذلك أن أكشف أمرا طالما رغبت في كشفه وفضيلة آن الأوان لبيانها وبالله التوفيق.. لنرجع لروايتنا ... كما ذكرت توجهت للعلم بكل جوارحي وحصلت خيرا عظيما ، والخير هنا لا يقاس بالكثرة كما قد يتبادر لذهن البعض ، العلم أيها الإخوة والأخوات لمن ذاق طعمه حقيقة هو التأصيل المبني على منهج سديد تحت مظلة عالم راسخ العلم.. شيخنا كما سبق بيانه ربانا على الكيف لا على الكم.. إن كثيرا من علماء وطلبة العلم من زماننا بشكل مباشر أو غير مباشر قد تتلمذوا عليه. ولو تأملت حال كثير من نجباء زماننا لرأيت من أول قوائم العلماء الذين تتلمذوا عليهم هو الشيخ ابن عثيمين رحمه الله..سواء مباشرة أم عن طريق الشريط والكتاب.. حدثني أحد طلبة العلم في الأردن أن مجموعة من طلبة العلم هناك يستمعون لأشرطة دروس الشيخ على ميكرفون الجامع فيتحلق عليه الطلبة ويغص المسجد منهم كأنهم بين يديه ويستمعون ويدونون ما يقوله الشيخ من علم وافر..!! كل ذلك من شريط!! كان الشيخ يكلف الطلبة بالبحوث فكنت من المكثرين من ذلك بحمد الله .. كنت أحيانا أجلس أبحث من بعد صلاة الفجر فلا ارفع رأسي عن الكتاب حتى يؤذن الظهر وأنا لا أشعر.. كان تخريج الحديث الواحد على حسب التأصيل العلمي المعروف يستغرق أحيانا ثلاثين ساعة متواصلة بدون نوم !! كل ذلك مني قليل مقارنة بفطاحل الطلبة وجهابذته الذين حصلوا خيرا عظيما لدى شيخنا وليس هذا بمستغرب أو مستكثر على تلاميذه صغروا أم كبروا .. ولو شئت لحدثتكم عن عجائب لا يكاد يصدقها المرء عن مواقف احتفظ فيها عنهم بارك الله فيهم ونفع بهم.. لكن حصل موقف عجيب وغريب سبب تحولا بل عمق العلاقة بيني وبين الشيخ من حيث لا أشعر !!! طلب منا الشيخ أي من جميع طلبته، أن يقوموا ببحث حول الفوائد أو الحكم من جواز أن يباح لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج أكثر من أربع نساء... وكان التكليف بذلك البحث في دروس المساء ...ولا ادري هل كان في التفسير أم في درس البخاري نسيت والله!! رجعت تلك الليلة وكنت حينها في غرفة الأخ نافع الشمري ... حيث أن مراجعه وكتبه كثيرة... قرأت في بعض المراجع مباحث حول هذا الموضوع ولكنها لم ترو الغليل!! قرأت في أبواب النكاح من كتب الفقه والحديث فبالكاد استطعت استخراج فوائد محدودة العدد....دونتها في دفتر عندي ثم خرجت للبلاكون المقابل لمنارة المسجد في الجهة الجنوبية من سكن الطلاب وأضأت النور ثم جلست أتفكر في المسألة .. وكلما طرأت لي حكمة أو فائدة سارعت بتدوينها ورصدها ثم قمت بإضافتها للمبحث.. مر علي الأخ نافع ومحمد زين العابدين وطلبا مني النوم.. قلت سأفعل و سوف أصعد لغرفتي للنوم بعد أن أنهي كتابة بحثي.. وما زلت أدون واكتب وأتفكر حتى أذن علي الصبح ولم أنم دقيقة واحدة بل لم اشعر بالرغبة في النوم أصلا.. ولقد جمعت في تلك الليلة ما مجموعه أربعون فائدة!! حملت ذلك الدفتر ونزلت به لصلاة الفجر ..وبعد الصلاة لحقت الشيخ وسلمته ذلك البحث..ولم أذكر له مراجعي أو ما عانيته من كتابة هذا البحث.. أو أي شيء فقط سلمته ورجعت لغرفتي فاستسلمت لنوم عميق ولم احضر درس الصباح!! لم أكن أقدر ما هي نتائج هذا العمل .. بل كل ما كنت أتوقعه أن يحصل المبحث على تقدير معنوي وتوجيه ونقد لما فيه مما سيصقل موهبة البحث عندي وهذا يكفيني فخرا.. ذهبت لصلاة الظهر كما هي العادة وبعد الصلاة رافقت الشيخ وصحبته لأستفيد أي فائدة خلال مسيره.. ولكن حدث مرة أخرى مالم يكن في الحسبان ... طلب الشيخ من الطلاب العودة للسكن وصرف الناس ثم أمسك الشيخ بيدي.. وقال : من أين دونت هذا البحث؟؟ وماهي مراجعك؟؟ قلت له وأنا مذهول وخائف كأنني أشعر بارتكاب خطأ أو مصيبة: قرأت بعض المباحث البسيطة حول الموضوع ولكن غالب ما دونته استنتجته واستخرجته بنفسي!! قال : هل أنت متأكد ؟؟ قلت: أي والله هذا ما حصل..!! لا أشك لحظة أن الشيخ ارتاب من كلامي ولم يأخذه محمل الجد.. ولكنه لم يرد أن يشعرني بشيء أو يظهر انبهاره مما كتبته رغم حداثة سني وقرب الفترة التي قضيتها لديه.. اتصل الشيخ بغير علمي على الأخ محمد زين العابدين وسأله عني؟؟ ناداني الأخ محمد وحقق معي تحقيقا غير مباشر ..!! سألته ما القصة؟؟ قال : بحثك الذي كتبته هذا يقول الشيخ انه فوق مستواك وأنه كلام عميق ونحو هذا الكلام..!! يقول محمد : ولقد أخبرت الشيخ انك لم تنم تلك الليلة حتى صلاة الصبح .. في درس المساء وبعد أذان العشاء وانتهاء الدرس الأول.. أخرج الشيخ ذلك الدفتر وطلب من أحد طلابه الكبار أن يقرأه عليه علنا لكي ينقح البحث.. ويحكم عليه من قبل الجميع.. ولم يخبر الشيخ الطلاب أو القارئ أنه بحثي.. وكنت جالسا بجوار ذلك القارئ .. أذكر ذلك الموقف والقارئ هو الشيخ خالد المزيني وهو احد أقدم وأقدر الطلاب علما وتحصيلا.. وكان ذو جرأة على الشيخ في إبداء رأيه والشيخ يحترمه ويحترم رأيه... كان خطي (وما يزال) سيئا للغاية ويصعب علي قراءته أنا فما بالك بغيري..!! كان الأخ يقرأ ويتوقف بسبب عدم وضوح كلمات وخربشات لا يفهمها غيري..!! فكنت اقرب نظري له وأصحح العبارات وأساعده في تهجيها !! نظر إلي القارئ بتعجب فقال : هل أنت من كتب هذا البحث ؟ كأنه يقول اصمت فهذا لا يعنيك !! سكت ولم أجب .. ولا أذكر هل أخبرهم الشيخ بأنني أنا كتبت ذلك المبحث في ذلك الدرس أم لاحقا!! ولكنهم في النهاية علموا!! أخذ الشيخ في التعليق على كل فائدة ويصحح العبارات ويقومها ويحذف المكرر حتى بلغ مجموع الفروق البينة بلا تكرار ولا تناقض خمسة وعشرون فائدة..!! لم أستطع تذكر ما حصل في ذلك الدرس ولكن الذي أعرفه أن شيخنا رحمه الله كلما أراد أن يثني علي أمام احد يقول : فلان الشمري !! كتب بحثا ممتازا ويذكره بذاته من مناقبي!! حينما أطلع على ذلك البحث (وهو عندي) الآن لا أشك أن مستواه العلمي بالنظر الثاقبة هو متواضع في ترتيبه وأسلوبه غير أنك حينما تنظر إليه من ناحية عدد الفوائد وصحتها بصرف النظر عن الأسلوب وما فيه من خلل والحكم عليه كمنهجية دقيقة من هذه الناحية لا شك أن ذلك يعتبر وفي سني ذلك إنجازا .. انظروا للطفل الصغير حينما ترونه يفعل شيئا مميزا كأن يلفظ عبارة جديدة لأول مرة أو يقوم بحركة لم يعتد الوالدان على رؤيتها سوف يرون ذلك منه شيئا عجيبا .. وذلك بالنظر لمستواه العقلي والسن ونحو ذلك من مقاييس .. أما لو حدث من غيره ممن يكبره بعدة سنوات مثلا فهو غير مستغرب بتاتا والفكرة واضحة إن شاء الله..
    7 "




  4. كود:
    لا يهم الآن بالنسبة لك أخي الكريم أختي الكريمة الحكم على ما فعلته هل هو إنجاز أم غير إنجاز المهم لكم الآن هو معرفة ما حصل بعد ذلك من طوام ودواهي سأحكيها في الحلقات القادمة بإذن الله تعالى يتبع إن شاء الله.. الحلقة الثامنة عشر من خلال جلوسي الدائم أمام الشيخ وبجوار قدماء الطلبة لا بد أن يؤدي ذلك برغبة أو بغير رغبة إلى نشوء علاقة ما!! لن أتوسع في هذا الأمر وهو غير مهم أبدا لكم غير أن هناك حالة لا بد من ذكرها.. في حلقة مضت ذكرت ذلك الشاب الذي خرج من غرفة مجاورة لموقع الدرس.. كان ذلك الشاب من كبار طلبة الشيخ وأفقههم بل ومن أقرب الناس لشيخنا.. لا ينافسه على ذلك أحد ، ولم يكن يخفى علي ولا على سواي ذلك .. بل أن للقرابة العائلية بينه وبين الشيخ زادت الأمر رسوخا وبيانا.. تعرفت على الرجل وكانت علاقتنا لا بأس بها .. كنت أتصافح معه قبل الدروس ويزداد التعارف بيننا يوما فيوما!! ذكرت في الحلقة الماضية أن الشيخ أعجب ببحثي الذي كتبته.. ورأى أن ذلك علامة نبوغ مني على صغر سني ولكنه حتى ذلك الحين لم يبد الشيخ نحوي شيئا.. وذات مرة تغيبت في سفرة لمدينة حائل لزيارة الأخ سعود وغبت ثلاثة أيام.. لم يفتقدني أحد كما كنت أظن ولم أكن أعلم قوانين السكن حينها وضرورة أخذ الأذن من المشرف... ولقد اشتقت لرؤية سعود بعد أن انقطعت عنه حوالي الشهر وزيادة فرغبت بلقائه.. زرته في حائل ومنها نزلت للرياض بالطائرة ثم للشرقية ثم عدت منها للقصيم.. كانت رحلة استجمام وترويح بعد عناء وانشغال بالطلب .. حينما عدت لعنيزة كانت الأمور على مايرام فيما أظن !! أذكر أنني بعد صلاة عشاء ذلك اليوم وقد وصلت للجامع قبل الصلاة بقليل.. رافقت الحشد الذي يسير مع الشيخ لبيته .. ولم يكن ذلك الحشد كبيرا .. بعد انتهاء الناس تقدمت للشيخ فقبلت رأسه .. قال لي: أين كنت ؟؟ لا حظت أنك تغيبت عن الدروس عدة أيام!! لقد كانت لفتة أبوية وحانية افتقدها والله في تلك الأيام.. ما أجمل أن يشعرك أحد بالاهتمام بك والاطمئنان عليك خاصة لو كنت في ضائقة وكربه.. أما أن تأتي تلك اللفتة من شيخنا فوا لله إن ذلك لشرف لي وأي شرف .. قلت له: لقد سافرت لحائل لزيارة أقربائي ..!! قال لي: ووالديك ؟ شدهت وارتفع حاجباي وعجزت عن الإجابة ولكن تداركت الأمر سريعا وقلت: طبعا والداي نعم!! دار بيننا الحوار التالي: أين يعمل والدك ؟ قلت له :والدي رجل أعمال!! ثم استأنفت كلامي .. بدون حساب للعواقب .. ولكن والدي بيني وبينه خلاف !! قال : كيف؟ قلت : لا يحب والدي أن اطلب العلم بل يريدني أن اهتم بدراستي النظامية فقط..!! وأخذت في فبركة كلام على الوالد مما لا يصلح الحديث عنه هنا والله يعفو عني فيما قلت!! قال لي : وأين يقيم والدك ؟ قلت له : في الطائف !! قال : الم تقل انك ذهبت لرؤية والديك في حائل؟؟ سكت ولم اجبه فعرف الشيخ أن في الأمر شيئا ولكنه لم يبال حينها!! ختم حواره بهذه الجملة : لا أسمح لك مرة أخرى بالسفر حتى تأخذ أذنا مني فأنا في مقام والدك !! ما أجمل وقع تلك الكلمات على نفسي هي والله في نفسي ذلك اليوم .. كماء بارد شربته بعد عطش شديد في صحراء قاحلة وساخنة.. لقد بثت تلك الكلمات في نفسي روحا جديدة وهمة لا يقاومها أي كساد أو تلف .. رحمة الله عليه واسكنه فسيح جناته وجعل ذلك في ميزان حسناته.. رجعت لغرفتي فحكيت لبندر ما حصل بيني وبين الشيخ من حوار.. لم يصدق بندر أن يكون هذا التصرف من الشيخ بهذا الشكل !! فمن أنت حتى تحصل على هذه الميزة وهذا الاهتمام؟؟ .. ولكن والله هذا ما حصل.. أخذت قلمي وفتحت دفتري وأردت أن اعبر عن سعادتي بخاطرة أو شعر أو أي شيء!! كتبت رسالة للشيخ .. قلت له فيها .. أشكرك من أعماق قلبي فوا لله لقد كانت عبارتك تلك كالماء الذي يروي نبتة أوشكت على الذبول والفناء.. كانت عباراتها ركيكة ومعانيها عميقة سطرتها بعبارات امتزجت بالشقاء والعذاب والخوف والضياع واليأس ..وسلمتها للشيخ بعد صلاة الفجر .. لقد وقعت تلك الكلمات في نفس شيخنا موقعا عظيما فدعاني بعد درس المساء للسير معه.. قال لي : لقد تأثرت بكلامك وأرجو منك أن تثق في وتجعلني في مقام أبيك .. وأريد منك أن تستمر في الطلب والتحصيل وأرجو من الله تعالى أن ينفع بك الإسلام والمسلمين... أكدت له مرة أخرى عن مشاكلي مع والدي وأنه لا يريدني أن اطلب العلم .. كنت أريد أن افتح موضوعي كله مع الشيخ وليتني فعلت!! ولكنني جبنت واستحييت أن احكي للشيخ كل شيء.. خوفا من عواقب كلامي!! لقد كانت فرصة سانحة ولكن الله تعالى كان يريد لي شيئا آخر ..!! ذات ليلة دعا مشرف السكن الأخ محمد زين العابدين الطلاب للاجتماع مع الشيخ بعد صلاة العشاء في سطوح السكن ... أجتمع طلاب السكن وجاء الشيخ وجلس على مقعد قديم لا يكاد يستوي عليه لتهالكه!! استمع الشيخ لمشاكل الطلاب وما يعانونه من صعوبات مادية نحو غلاء الكتب.. وأشرطة التسجيل ، وتحدثوا مع الشيخ حول ترميم السكن ورفع قيمة المكافآت وتوسيع المكتبة وزيادة المراجع ونحو ذلك غير انه حصل في تلك الجلسة موقف أحرجني للغاية!! كتبت سؤالا للشيخ باسمي وبلقبي المزيف !! قال الشيخ: أنت مرة تقول انك كذا ومرة تقول إنك شمري وش الصحيح؟؟ وقعت في حرج شديد ولم استطع التعليق ولكن شيخنا تجاوز ذلك وغير الموضوع!! كيف عرف الشيخ بلقبي الحقيقي؟؟ من نظام السكن لا بد أن يكون لك ملف لدى المشرف ومن متطلبات فتح الملف .. إحضار صورة الهوية !! وضعت صورة الهوية في ملفي وسلمتها مع السيرة الذاتية للمشرف.. نظر في وجهي المشرف وقال لي: مكتوب هنا أنت من القبيلة الفلانية؟؟ وأنت شمري ؟؟ كنت قد زورت في نفسي كلاما لأبرر هذا الحال فقلته فقبله في الظاهر غير انه نقله للشيخ بالتأكيد!! لقد كنت بليدا فلو أنني قلت الحقيقة وشرحتها لكان خيرا من الخزي الذي كنت فيه.. ولنجوت من الفضيحة التي سأقدم عليها!! كان الشيخ في ذلك اللقاء يرسخ في أذهان طلبته انه فعلا والد للجميع .. فكل الطلبة بلا استثناء هم فقراء ومعوزون وفيهم السعودي وغير السعودي.. ولكنهم في نظر شيخنا سواء جزاه الله عنا خير الجزاء.. في ذلك اللقاء سأل أحد الطلبة الشيخ عن حضور دروس الشيخ سلمان العودة في بريدة!! قال الشيخ : سلمان هو احد العلماء لكنني أنصحكم بالتقيد بحضور دروس عالم واحد فإذا شعرتم أنكم اكتفيتم مما لديه فلا بأس بالانتقال لعالم آخر .. رجعت برفقة الشيخ لبيته وحينما اقتربنا من البيت بقيت معه أنا والأخ محمد زين العابدين .. أطال الأخ محمد الحديث مع الشيخ حتى تعب !! ثم ابتعد قليلا واقتربت أنا من الشيخ فجلس على درج ملحق بيته وبقيت واقفا!! فأردت أن أجلس مقابله على الأرض لأكمل أسئلتي .. فقال لي الشيخ.. أجلس بجواري ؟؟ جلست بجواره فأكملت أسئلتي ثم انصرفت ... الحلقة التاسعة عشر أنا أكتب هذه الروايات والقصص في الحضر والسفر.. فمرة تجدني مع حاسوبي المحمول جالسا على طاولة طعام وأمامي كوب الشاي البارد!! والناس حولي ينظرون ولعل أحدهم يقول : إيه ...!!! هذا لا بد أنه يعد خطة لعملية إرهابية؟؟؟ أو تجدني على مكتبي حولي معاملات ومستندات تحتاج لتدقيق ومراجعة فأترك كل ذلك.. وانكب على جهازي أسطر لكم المفيد والغث!!! أو تجدني في ساعة سحر والناس حولي يشخرون وأنا منهمك في إضافة عبارة أو مراجعة قاموس أو سرقة نص!! مالذي يكتبه مطوع في هذا الزمان ؟؟ تساؤلات هل هي مشروعة؟؟ هذه للأسف صورة سيئة كادت أن ترسخ في رؤوس الجهال من العوام على كل من سيماه الخير والاستقامة... قاتل الله الإعلام الفاسد والسياسة الملعونة!!! دعونا نرجع لروايتنا .. لقد كان لاحتكاكي بل ومحاولة الاستفادة القصوى من علم الشيخ سبب ذلك شيئا من المودة والقرب منه!! العالم إخوتي الكرام يحب المجد ومن يحسن الإصغاء والاستماع إليه .. لم أكن أسعى لذلك أو أريده فلذلك ضريبة ليست بالهينة .. !! لمن يفهم ما أعنيه!! ولكن العلاقة زادت وتطورت من مجرد طالب مجتهد إلى طالب مميز ومحبوب نوعا ما!! ويعلم الله سبحانه وتعالى أنني كنت ساذجا بحيث أنني لم اشعر بذلك ولم أميز .. أول موقف أذكر ه في مخيلتي الآن أنني في ذات ليلة وبعد درس المساء .. كنت برفقة الشيخ كالعادة حتى وصل البيت .. وكان الأخ محمد زين العابدين مشرف السكن يتعمد أن يلحق الشيخ بسيارته حتى المنزل ليعرض عليه ما لديه ما استجد من نواقص أو معاملات أو طلب مال للسكن أو نحو ذلك .. كان من عادة الشيخ أن يرجع الطلاب حينما يصل لبيته أو قريبا منه .. أما أنا فبقيت أتناقش معه في بعض المسائل العلمية حتى وصل لباب البيت.. فتح الشيخ باب منزله وكان مظلما من الخارج ولا تسمع فيه حركة أو لجة .. قال الشيخ لمحمد وكان قريبا مني : تعش معي أنت وفلان( يقصدني أنا)..!! العائلة ليست موجودة وأنا لوحدي في البيت!! تبادلت أنا ومحمد النظرات استغرابا من هذا العرض المغري!! قبلت أنا ومحمد تلك الدعوة بكل سرور وبلا تردد!! قال لنا : انتظرا حتى افتح لكم باب الملحق.. وهو عبارة عن غرفة مستقلة بطرف المنزل في شماله الغربي.. فتح الشيخ باب الملحق فدلفنا للبيت .. نزع الشيخ عباءته وعلقها على يده ثم قال : سأتسنن وأحضر لكما العشاء !! ثم خرج من الباب الفاصل بين الملحق والبيت والذي يدخل مباشرة للفناء .. في ذلك الملحق كعادة البيوت في نجد ، حيث يمزج بين الطراز القديم و ثوب الحداثة..!! تحتوي الغرفة في صدرها على مشب للنار خلفه مخزن مكشوف للحطب .. وعلى يساره بنيت رفوف رصت عليها دلال القهوة العربية وأباريق الشاي.. وتحته توجد مغسلة لغسل الفناجيل وإعداد القهوة والشاي للضيوف.. الغرفة مفروشة بفرش جميل لونه ازرق .. سألت الأخ محمد .. لقد كنت أظن قبل حضوري لعنيزة أن الشيخ يقيم في بيت طيني؟؟ قال : لقد انتقل الشيخ لهذا المنزل عام 1409 ولم يكن راغبا ترك بيته الطيني!! ولكن أبناءه أصروا عليه أن يبني بيتا حديثا ففعل.. قلت : وأين يقع ذلك البيت .. ؟؟ قال :سأريك إياه بعد أن ننتهي من العشاء .. بعد قليل .. فتح الباب الفاصل .. فبرزت صينية كبيرة قد أحاط الشيخ عليها بذراعيه وتوشك أن تقع .. فقمت فحملتها من يده .. وقلت له : هل ترغب أن أساعدك؟ قال لي : تعال ...!! لحقته حافيا فدخل من باب كبير فانتظرته ظنا أنه سيقدم هو الطعام فأحمله للملحق .. فخرج علي الشيخ وقال : لا يوجد أحد تعال ادخل.. دخلت البيت وكان نور الصالة خافتا .. حتى وصلنا المطبخ على يمين الداخل .. انشغلت بالنظر والفضول .. فأشار الشيخ لي أن تعال واحمل الطعام!! حملت الحافظات والصواني الصغيرة فوضعتها على سفرة الطعام.. كانت تلك أول مرة آكل فيها من طعام بيت الشيخ .. كان الطعام خفيفا وسهل الهضم ولو شئت لذكرته!! بعدها ساعدت الشيخ في حمل المواعين والسفرة .. سألت الشيخ ونحن بمفردنا في المطبخ : أين تقع مكتبتكم؟ أمسك بيدي وقادني للجهة الشرقية من المنزل ومررنا بسيب ضيق ويقع عن يمينه علاقات وضع عليها عباءات الشيخ وعن اليسار درج يقود للقبو. أخرج الشيخ من جيبه الذي على صدره شبكا علقت عليه مفاتيح كثيرة.. ثم أدخل أحد المفاتيح في الباب المغلق الذي أمامنا .. فدلف للغرفة وأضاء المصباح .. أي حظ هذا وأي شرف لي أن أدخل بيت شيخنا بل وأدخل مكتبته .. لقد مر على قدومي لعنيزة منذ ذلك التاريخ وحتى تلك الليلة حوالي الشهرين وزيادة.. سأصف مكتبة الشيخ من الداخل في الحلقة القادمة إن شاء الله .. الحلقة العشرون.. مكتبة الشيخ عامرة وأغلبها نسخ قديمة الطبع... مساحتها حوالي ستة أمتار في أربعة .. والرفوف ملصقة بجميع جدران الغرفة ... يجلس الشيخ بجوار نافذة قريبة من الأرض .. ويستقبل النافذة في الواجهة الجنوبية من الغرفة وأمامه تلفونان .. أحدهما للفتاوى الشرعية والآخر تلفون البيت الخاص.. وليست هناك مقاعد للجلوس أو طاولة للكتابة.. بل يجلس الشيخ على الأرض فوق سجادة صلاة .. ويكتب على لوح تعلق عليه الأوراق .. يراجع الشيخ في مكتبته الكتب أو يجيب على الفتاوى .. أو ينظم المعاملات أ ويقرأ الرسائل.. بخصوص الرسائل في تلك الليلة التي دخلت فيها للمكتبة .. شاهدت بوسط الغرفة كومة ضخمة من الرسائل والأوراق المبعثرة ..!! قال الشيخ وهو يشير لها بأسى: هذه رسائل الأسبوعين الأخيرة ولم أستطع قراءتها ؟؟ تأتي للشيخ رسائل من كل بلاد الدنيا .. أذكر مرة طلب الشيخ محمد مني ومن الشيخ فهد السليمان جامع فتاويه .. أن نجرد رسائل الناس ونرتبها ونبوبها ففتحنا الظروف .. فوجدنا رسائل من البلاد العربية ومن أوروبا وأمريكا وآسيا وأفريقيا ومن كل بلاد الدنيا .. ورسائل فيها شيكات تبرعات ورسائل فيها طلب مؤلفات واستفتاءات.. ورسائل من مراكز إسلامية .. سمعت الشيخ يقول مرة : أكثر الرسائل التي تأتيني هي من الجزائر ..!! ولذلك لا عجب إذا رأيت كثيرا من الطلبة الجزائريين في حلقة الشيخ.. رأيت رسائل من علماء مشهورين يستشيرون الشيخ في بعض المسائل والنوازل . ومنهم وبكثرة الشيخ العلامة بكر أبو زيد .. وممن رأيته كثيرا يحرص على الاستفادة من علم الشيخ سواء بالاستفتاء أو بسماع دروسه على أشرطة الكاسيت سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ مفتي المملكة الحالي.. وليست مكتبة الشيخ هي ما رأيته تلك الليلة فقط .. بل إن لديه في القبو مكتبة أخرى تحتوي على المراجع التي تقل مراجعتها .. و يوجد بها عدد من المخطوطات .. ومنها مخطوطة تفسير الشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي العالم المشهور .. المسمى بتفسير الكريم المنان ... وهذا التفسير قد كتبه الشيخ بخط لا يكاد يقرأ على دفتر الأستاذ والذي يسمى دفتر حسابات (مسك الدفاتر)!! يجلس الشيخ في اغلب أوقاته بالمكتبة وغالبا لا يقيل إلا فيها .. وله في زاويتاها الشمالية فراش صغير وبطانية قديمة يتوسدها ويقيل هناك حتى أذان العصر.. في تلك الليلة عدت أنا والأخ محمد وفي الطريق مررنا بمنزل الشيخ القديم.. وسأتكلم إن شاء الله عن هذا المنزل لاحقا حينما أحكي عن زيارة الأمير ممدوح بن عبد العزيز لعنيزة.. أرجو أن لا يكون الملل قد دخلكم بتفاصيل قد لا يريدها البعض.. ولكن أرجو أن يأتي زمان يأتي فيه من يحتاج لمثل هذه المعلومات.. نرجع لجاري في درس الشيخ .. كان ذلك الطالب المجد يظهر لي الاحترام والتقدير .. كنت أرى ذلك (عن حسن نية ) نبلا منه وطيبة .. فكسبني ذلك الشخص وصرت أخرج معه أحيانا بعد الدرس لبيته أو للمكتبة ونحو ذلك .. أذكر مرة أن الشيخ قال لي : انتبه يافلان من الناس لا تحدثهم بأمورك الخاصة .. ترى الطلبة يحسدون بعض !! ونقل لي أثرا عن ابن عباس أنه قال : يتحاسد طلبة العلم في آخر الزمان كما تتحاسد التيوس في زروبها!!.. ونحو ذلك الكلام.. والظاهر أن صاحبنا بسبب قربه من الشيخ .. شعر أنني سأضايقه في قربي وكثرة لقاءاتي مع الشيخ .. حينها لم أكن أعرف الحسد ولم أمارسه والله في حياتي .. كنت أتحدث مع ذلك الشاب في بعض أموري الخاصة وفي اليوم التالي يستفسر مني الشيخ.. حول ما قيل عن كذا وكذا !! كأنه يلمح لما قلته لذلك الشاب..؟؟؟ غير أنني حينما أقارن ما أشاهده منه من سماحة نفس معي وحسن معشر.. أستبعد أن يكون هو من نقل هذا الكلام للشيخ ويا لغبائي!! كتبت مرة رسالة للشيخ قلت له فيها بما معناه.. أنني أرغب في أن أستفيد من علمكم في حلكم في عنيزة وفي سفركم خارجها!! حيث يشرفني أن أكون خادما لكم كما كان أنس وابن مسعود يخدمان رسول الله صلى الله عليه وسلم .. حينما قرأ الرسالة الشيخ فرح بها وسر خاصة انه رأى مني الحرص على ذلك.. حدثت ذلك الشاب بهذه الرسالة .. فما كان منه إلا أن حذرني من ذلك وقال : لا أنصحك وهذا سوف يغير عليك قلوب الطلبة الآخرين وسوف يقولون : هذا الولد له عند الشيخ ثلاثة شهور .. والآن يريد أن يكون رفيقه في سفره..؟؟ لا ، انتبه وأنا أخوك لا تفعل ... أخذ صاحبنا يهول لي الأمور حتى عزمت على ترك ذلك العمل المتهور!!! وجاء يوم سمعت الشيخ يذكر أنه سيسافر للرياض .. فوقع في نفسي أن أطلب منه أن أرافقه ولكن ما حذرني منه صاحبي جعلني أتردد !! الحلقة الواحدة والعشرون كنت يوما أسير مع الشيخ بعد صلاة العصر .. فجاءه رجل ذو هيئة ومعه مرافق له .. عرف نفسه للشيخ بأنه الأمير فلان .... دعاه الشيخ للتفضل في بيته للقهوة والتعارف .. فرحب بذلك الرجل والظاهر أن هذا هو غايته من الزيارة ... قال لي الشيخ: تفضل معنا ... فدخلت مع الضيف من باب الملحق .. بعد دقائق أحضر الشيخ القهوة والتمر وإبريق الشاي معه... فحملتها من يديه فكنت خادم القوم في تلك الجلسة .. ويعلم الله قدر شعوري بالفخر والشرف أن أخدم شيخنا وضيوفه.. بعد انتهاء الجلسة وانصراف الضيوف .. عرضت على الشيخ أن أرافقه لسفرته في الرياض .. فقال : وما غرضك من ذلك ؟؟ فكررت له ما قلت له في الرسالة .... فقال : أهلا بك وسهلا ولكن سفري ذلك جزء منه زيارة عائلية وسوف أرى.. ثم فاتحني الشيخ بموضوع آخر ... هو موضوع الدراسة النظامية .. قال لي: لما لا تكمل دراستك؟ فقلت له لا مانع عندي ولكن كيف؟؟ ملفي الدراسي ليس لدي !! كنت أتهرب من الموضوع حتى لا تكتشف هويتي الحقيقية!! قال الشيخ: دع الأمر لي وسوف أسجلك في المعهد العلمي... قبلت وأظهرت الفرح والاغتباط وأنا في داخلي أغلي كالمرجل من الخوف!! قلت له ياشيخنا ... هل أنا في حلم ؟؟ أم في علم ؟؟ أن أكون الآن معك في بيتك مع الشيخ ابن عثيمين؟؟ ابتسم ودعا لي وقال : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ... التقيت بصاحبي .. وجاري .. بعد ذلك فحدثته بما كان ... وكان السفر بعد يومين ... كان ذلك بمثابة حراب أغرسها في قلبه دون أن أشعر أو أقصد ذلك والله.. دهشت وربي من حرصه على تثبيطي وتذكيري بالعواقب .. ولكن حتى تلك الساعة لم ينكشف لي ما يدبره ... شجعني بندر على الذهاب ...وقال لا تتردد .. ذات يوم بعد صلاة العصر ألتفت إلي شاب أعرفه جيدا وهو من أصحاب جاري ذاك!! وسألني أسئلة مباشرة فيها وقاحة وصلف ... قال : ايش اسمك؟؟ قلت فلان .. قال : قلي اسمك كاملا .. ؟؟ قلت : فلان بن فلان .. ذكرت اسم الأب فقط..!! قال: وما لقب العائلة؟؟ عرفت خلالها أنه مرسل لتخويفي من شيء ما!! ولم أحب هذا الشخص مطلقا ، فهو رجل سيء الخلق حقود .. بعد يومين استعديت للسفر وحزمت حقيبتي .. وطلبت من جاري ذاك أن يوصلني هو إلى بيت الشيخ ...؟؟؟ بل واقترضت منه مبلغا من المال لمصاريفي!! كنت كمن يطلب الماء من بياع الزيت!! ولقد جاء فعلا في اليوم التالي ،لا ليوصلني بل ليعطيني رسالة واضحة مفادها .. لقد حذرتك وأنذرتك ولكنك لا تسمع كلامي وسوف تندم..!! لقد كانت نظراته والتي أتخيلها الآن أمام عيني تقذف بالشرر المستطير !! ثم انطلق بسيارته مغضبا بعد أن رد باب سيارته في وجهي !! لم اقدر الموقف حق قدره ..ولم أكن أحسب الأمور بمثل حساباته ولم تكن لي معرفة بطبائع البشر الحيوانية نعوذ بالله من ذلك.. أطلقت جرس باب منزل الشيخ فخرج أحد أبناء الشيخ .. وهو يحمل حقيبتين ووضعها في مؤخرة السيارة.. وكانت تظهر على وجهه علامات الغضب وعدم الترحيب بي !! ولم يسلم علي أو يخبرني أين الشيخ أو ماذا سنفعل !! أي حال أنا فيه !! انتظرت في الخارج حوالي النصف ساعة حتى خرج الشيخ فقال : أين كنت ؟؟ أنا أنتظرك؟؟؟ لم أخبره بما حصل .. بل سكت وصافحت أبناءه الآخرين .. يقولون العيون شواهد تكشف ما في القلوب .. منذ أول مرة رأيت فيه أبناء الشيخ عرفت أنني لديهم غير مرضي عني بل أنا مغضوب علي.. وإنني أقسم وأجزم أن ذلك كله من فعل صاحبي الذي ظننته صديقا لي!! فهو أحد أقربائهم والرجل منذ سنوات عديدة قريب منهم ومن الشيخ .. وقد كسب ثقتهم فلا شك أنه ذو مصداقية في خبره عني !! ولقد حاولت مرارا وتكرارا أن اثبت لهم أنني شخص مختلف عما صوره الرجل عني ولكن بدون فائدة .. فالناس للأسف حكمهم في الغالب يترسخ ويتجذر منذ الصدمة الأولى!! خاصة أن الوقائع التي حصلت قد زادت الأمر تعقيدا .. والحمد لله.. ولكن الله سبحانه وتعالى عوضني كثيرا بشيخنا وليغضب كل الناس عني!! إذا كان حبك لي صادق فكل الذي فوق التراب تراب.. توجهنا للمطار برفقة سائق الشيخ.. وهي سيارة كابر يس موديل تسعة وسبعين!! لونها بني مخطط بلون البيج !! يقول السائق لي : أنا أسوق الشيخ منذ خمسة عشر عاما بهذه السيارة.. ولقد باءت كل محاولاتي ومحاولات إدارة جامعة الإمام لتغيير السيارة .. حيث أن الشيخ يراها سيارة ممتازة ولا يهم شكلها أو موديلها المهم أن توصله الحلقة الثانية والعشرون على ذكر سيارة الشيخ ... التابعة لجامعة الإمام ... أذكر مرة أنني رافقت الشيخ من الجامعة وحتى بيته.. وحين وصلنا للمنزل أمرني الشيخ بالنزول من السيارة ..!! فقلت له : خل فلان يوصلني للسكن لو سمحت بذلك ؟؟ فقال : لا؟؟ أنزل هنا وامش على قدميك!! خرجت من السيارة فلما رأى أثر كلامه علي قال لي: هذه السيارة يابني أعطيت لي لاستعمالها في عملي وشغلي... ولا يجوز لي شرعا أن أسمح لأحد آخر باستعمالها سوى بإذن من الجامعة!!! ولا حتى لأبنائي وأهلي !! أذكر من ورع الشيخ الشيء الكثير ولقد ذكر لي احد كبار طلبة سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله أنه حينما ذكر له بعض مواقف الشيخ ابن عثيمين في الورع تعجب من ذلك وقال : من يقدر على هذا؟؟؟ وهو من هو في ورعه وزهده رحمهما الله وعفا عنهما فهما والله نادران في زمانهما نحسبهم كذلك والله عز وجل حسيبنا وحسيبهم.. وصلنا ذلك اليوم لمطار القصيم الإقليمي .. حملت الحقائب ودخلنا سويا لصالة المسافرين .. لمح الشباب العامل في المطار من موظفين وعسكر الشيخ فجاء بعضهم للسلام على الشيخ وهم مبتهجون بذلك !! أما أنا فقد كنت في شبه السكرة من الفرح .. يا الله أين كنت وأين أنا الآن ...؟؟ الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .. لم يكن هناك أي تأخير فقد وصلنا وقت نداء ركوب المسافرين للطائرة .. بعد تجاوزنا لمعاملات السفر جاء مدير المطار للسلام على الشيخ .. وأدخله في مكتب الضابط المناوب .. وقدموا لنا الشاي .. وحينما استكمل ركوب المسافرين توجهنا للطائرة أنا وشيخنا.. كان مقعد الشيخ على الدرجة الأولى وذلك على حساب جامعة الإمام التي ستستضيف الشيخ لمحاضرة للمبتعثين من طلابها خارج المملكة .. وعادة الشيخ إن سافر على حسابه الشخصي أن يركب الدرجة السياحية .. لكن في عدة مواقف شاهدتها يرفض ربان الطائرة حينما يعلم بوجود الشيخ .. إلا أن ينقل في الدرجة الأولى .. إكراما للشيخ وحبا واحتراما له.. في تلك الرحلة كنت أنا بطبيعة الحال في الدرجة السياحية أو ما يسمى الضيافة.. ولكن بعد إقلاع الطائرة ، جاءني الشيخ بنفسه وقد استأذن لي أن أكون برفقته.. فكنت بجواره في الدرجة الأولى... لكم أيها الإخوة والأخوات أن تدركوا تلك المشاعر التي كانت في نفسي تلك اللحظات.. كنت أراقب الشيخ وأحاول أن استفيد من كل تصرفاته فهو قدوة لي في كل شيء.. بعد شرب القهوة جاء مضيف الطائرة للشيخ وقال له: هل ممكن أن ترافقني لغرفة قيادة الطائرة ، الكابتن يدعوك لو تكرمت ؟؟ قام الشيخ من مقعده وتوجه لمضيفه وبقيت لوحدي حتى قرب وصولنا للرياض .. علما أن الرحلة تستغرق حوالي الأربعين دقيقة فقط!! رجع الشيخ وجلس على كرسيه .. وبدأ في تلاوة حزبه من القرءان .. حيث يقرأ يوميا جزأين كاملين من صدره ... وصلنا لمطار الرياض ونزلنا في الصالة العامة واستقبلنا مندوب الجامعة .. توجهنا مباشرة لجامعة الإمام ولمكتب الدكتور عبد الله التركي مدير الجامعة حينها.. سلم الشيخ على الدكتور التركي وسلمت عليه .. وبقيت معهما لدقائق .. ثم خرجت للخارج وانتظرت خروج الشيخ .. بعد ساعة تقريبا ناداني مندوب الجامعة وقال : الشيخ يدعوك للحاق به لموقع المحاضرة.. نزلت مع المندوب حيث يظهر أن هناك مخرج خاص من مكتب الدكتور عبد الله .. سألني مندوب الجامعة .. هل أنت ابن الشيخ ؟ قلت :لا ... أنا أحد تلاميذه ... قال لي : هنيئا لك يا أخي هذا الشرف .. دخلنا لصالة ضخمة جدا وفيها من الفخامة والنظارة ما يبهر العقول ... ولم يكن هناك حضور سوى الصفين الأول والثاني !! وبعض الناس هنا وهناك!! حيث أن المحاضرة خاصة فقط بالمبتعثين وأظن عددهم حوالي المائة وعشرون .. تحدث الشيخ حديثا طويلا حول ما يتعلق بسفرهم من أحكام فقهية ومن تنبيهات وتحذيرات من بعض الأخطار التي قد تواجههم في أمور دينهم .. وبث الشيخ في نفوسهم الحماسة في الاستفادة مما لدى الآخرين والعودة لبلادهم لكي تنتفع الأجيال بهم وحذرهم من الأفكار المسمومة والتي عاد بها بعض أبناءن ونحو ذلك من توجيهات ومعان مفيدة.. ثم فتح الباب للأسئلة والتي أخذت اغلب وقت المحاضرة وكانت أسئلة مفيدة للغاية.. بعد انتهاء المحاضرة ... توجهنا لكلية الدعوة والإعلام وصحب الشيخ للكلية الدكتور سعيد بن زعير ولا أدري هل هو عميد الكلية أم هو أحد دكاترته.. ودخلنا في قاعة أصغر من الأولى وأظنها تابعة للكلية .. وكانت غاصة جدا بالطلبة ، وقد امتلاء الدرج وأمام الأبواب وأطراف المسرح بالحضور.. تحدث الشيخ في كلمة مختصرة ثم استقبل أسئلة الناس .. كانت في تلك الأيام أحداث أشغلت الناس والمجتمع وهي قضية .. مقتل الشيخ جميل الرحمن ودخول مجموعة من قادة المجاهدين الأفغان لولاية كنر.. وكانت تلك الأيام قد اضطربت آراء الناس حول ما يحدث .. ولا أنسى أبدا عشرا ت الوفود التي قدمت على الشيخ في عنيزة من مدن المملكة.. والتي تستفتيه حول هذا الموضوع خصيصا .. سئل الشيخ في تلك القاعة عن موقفنا نحن كمسلمين من تلك الفتنة.. فأجاب بكلام مبني على الدليل من كتاب الله وسنة رسوله .. وقال : الذي أرى أن توقف التبرعات عن المجاهدين هناك جميعا حتى تنتهي الفتنة ولا نعينهم في أن يقتل بعضهم بعضا .. ونحو هذا الكلام.. أثارت تلك الفتوى من الشيخ موجة من الحيرة والترقب في وجوه الدكاترة والمشائخ الموجودين في القاعة .. وبعد انتهاء المحاضرة .. طلب الدكتور سعيد بن زعير من الشيخ أن يزور مكتبهم دخل الشيخ وكنت معه واجتمع حوله عدد من الدكاترة ومدراء الأقسام .. ودار نقاش علمي مع الشيخ حول فتواه ... الحلقة الثالثة والعشرون كان النقاش حول قضية كنر والجهاد فيه شيء من الحدة .. خاصة من طرف المشائخ .. أما الدكتور سعيد الزعير فلم يتكلم بكلمة واحدة ... طوال النقاش.. حينما بلغ النقاش حدا تبعثرت فيه الأوراق وتشوشت فيه الأفكار قال الشيخ: سبحان الله ؟؟ هذا هو رأيي الذي أدين الله به وأنتم قولوا رأيكم، وليتبع الناس ما يرونه حق أما أنا فلن أرسل لشخص فلسا واحدا وأعرف أنه سيستعين به في إيذاء أخيه فما بالك بقتاله أو بقتله !! ولقد رأيت وجه الشيخ محمرا من الغضب والتوتر.. حينها قال الشيخ سعيد بن زعير: ياشيخنا والله نحن نحبك ونقدرك ونرى أن رأيك لا تبتغي به غير وجه الله لكن الإخوان رغبوا في النقاش والحوار حتى تتضح لكم الصورة ، فهذا جهاد قد أنفقت عليه مبالغ طائلة وأرواح كثيرة ودعم من هذا البلد وأهله طوال سنوات طويلة فهمنا الأكبر أن لا تشوه صورته الناصعة .. ثم قام الدكتور سعيد وقبل رأس الشيخ واعتذر منه وانفض المجلس. بعد ذلك توجهنا لمكتب الدكتور عبد الله التركي ومنه خرجنا لصلاة الظهر في الجامع الكبير ..... كنت برفقة الشيخ وكذلك كان معنا الدكتور عبد الله التركي ... حينما رأى الشيخ الجمع الهائل من طلبة الجامعة والذين غص بهم كل المسجد.. فلا ترى فيه موطئ قدم من كثرتهم.. قال الشيخ : ياأخ عبد الله كم يتسع هذا الجامع..؟؟ قال: حوالي الثلاثين ألفا ... ثم قال الشيخ : الله المستعان كم سيخرج لنا عالما من هؤلاء !!! بعد الصلاة ألقى الشيخ كلمة قصيرة في المصلين يحثهم فيها على الحرص على العلم واستغلال الأوقات ونحو ذلك ... ثم خرجنا بالكاد من الجامع بسبب تكاثر المسلمين على الشيخ .. توجه الشيخ برفقة الدكتور عبد الله التركي في سيارته الفارهة .. ولم أكن أعرف وجهتنا فقد كان كل شيء مرتبا مسبقا !! قالوا لي: أركب في هذه السيارة وأشاروا لسيارة فيها شاب أدم .عليه مرايات .. وفي الطريق تعارفنا وعرفت مقصدنا .. كان ذلك الشاب هو ابن الدكتور سعيد بن زعير ونحن متجهون للغداء في منزلهم.. وصلنا لمنزلهم فكان في استقبالنا جمع كبير من الناس .. لم اعرف منهم سوى من ذكرت بالإضافة لشيخ كبير ضعيف البنية .. سألت عنه : فقيل لي: هذا الشيخ عبد الله بن جبرين .. حفظه الله ورعاه .. حينما ترى ذانك الشيخان الجليلان سويا تزداد تلك الجلسة رونقا وبهائا.. كان الشيخ عبد الله وشيخنا يتبادلان الحديث وإجابة الناس حول ما يسألان عنه بكل أدب وسمو يليق بهما .. لا حظت شيخنا مرارا يهمس في أذن الشيخ عبد الله بكلام فيضحك الشيخ منه!! بعد ذلك رافقنا شخصا لا اعرفه حينها .. جسمه وطوله وبنيته اقرب ما يكون من شيخنا ..؟؟؟ سأل الشيخ : ما عرفتنا على الأخ ؟ فقال : هذا فلان أحد تلاميذنا ، ولقد قال لي : إنه يرغب في صحبتي ليستفيد من علمي ويخدمني كما خدم ابن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلم.. شعرت بالخجل ، وتسمرت في مقعدي ولم أتكلم .. وصلنا لمنزل الرجل في حي النسيم بشرق الرياض.. بجوار جامع الهدى القريب من مدرسة سلاح الحدود.. ونحن ننزل أغراضنا سألت الشيخ : من هذا الرجل؟؟ فقال : هذا أخي عبد الرحمن!!! الأستاذ عبد الرحمن رجل فاضل جدا وخلقه وطيبته وسماحة نفسه يشهد عليها جميع من عرفه ، وشيخنا يحبه ويثق فيه وينزل دوما في الرياض في بيته ... وذلك قبل أن يبني شيخنا بيته في الرياض والذي هو ملاصق لمنزل أخيه عبد الرحمن.. حدثني الشيخ عن مرض أخيه عبد الرحمن ..وهو صغير .. حيث أنه بقي طريح الفراش مدة من الزمن حتى يئس الأطباء من علاجه .. فبقي أهله حوله يترقبون ساعة أجله وهم بلا حول له ولا قوة... غير أن جارا لهم أو أحد أصحابهم احضر لهم طبيبا شعبيا .. ففحصه وقلبه يمينا ويسارا وهو كالجثة الهامدة .. قرر ذلك المعالج الشعبي أن يكويه في بعض مواضع جسمه .. فكواه .. ثم انتظروا عدة أيام .. فبدأ عبد الرحمن يستعيد عافيته حتى عاد صحيحا كما كان وأفضل .. والأمور بيد الله سبحانه قبل كل شيء... غير انه للأسف وبعد عدد من السنوات التي كانت فيه علاقتي مع الأخ عبد الرحمن ممتازة لم يتركه صاحبنا حتى أغار صدره علي والله المستعان.. كنت أتوقع أننا سنبقى في منزل الأخ عبد الرحمن طوال فترة بقاءنا في الرياض.. ولقد أحببت الرجل من أول ما رأيته ... وأحببت البقاء في بيته .. ألقى الشيخ محاضرة تلك الليلة في إحدى جوامع الرياض ثم توجهنا لمنزل أبناء عمومة الشيخ حيث حضر جمع لا باس فيه من الأقارب متفاوتي الأعمار .. ومنهم أخو الشيخ الدكتور عبد الله العثيمين الأديب المشهور .. ومنهم ابن الشيخ البكر عبد الله العثيمين.. وغيرهم .. بعد العشاء رافقنا الأخ عبد الله ابن الشيخ لمنزله المستأجر .. حيث أنه يقيم في بشكل مؤقت قبل رجوعه لعنيزة.. كان عبد الله مهذبا جدا وغير متحفظ .. والظاهر أن صاحبنا لم يلحق أن يفسد الأمور مع الجميع جملة واحدة ..!! في اليوم التالي .. توجهنا بعد العصر للمطار وذلك للعودة للقصيم ... حينما جئنا لتفتيش المعادن أخذ جهاز الإنذار يرن حينما مر الشيخ ؟؟ فأمر العسكري الشيخ بالرجوع وإنزال ما لديه من معادن.. ولم يعرف الشيخ.. ابتسم الشيخ ولم يرد إحراج الرجل فبدأ بخلع ساعته المعلقة في جيبه .. فدخل تحت الجهاز فرن مرة أخرى!! فعاد الشيخ وأخرج كومة المفاتيح من جيبه .. وهكذا تكرر ذلك ثلاث مرات.. حينها تقدم شاب من عائلة الشيخ للعسكري وهمس في أذنه فارتفع حاجباه .. واحمر وجهه خجلا وقال : الله المستعان هذا الشيخ ابن عثيمين ؟؟ والله ما عرفتك ياشيخ ؟؟ اللي ما يعرف الصقر يشويه ..!! ثم قبل رأس الشيخ واعتذر منه وأصر أن يصحبه حتى أجلسه عند باب السفر الحلقة الرابعة والعشرون عدنا لعنيزة والعود أحمد ولكن كانت تنتظرني حوادث لم تخطر على البال.. لكن رحمة الله تعالى سبقت تلك المكائد والشرور فجعلت من دون ذلك فتحا قريبا!! وصلنا للمطار استقبلنا نسيب الشيخ الأخ خالد المصلح .. وأنعم بأبي عبد الله علما وخلقا وتفانيا في الدعوة إلى الله .. والشيخ خالد من قبيلة حرب ومن عائلة ثرية ووالداه مقيمان في جده ولقد أحبه شيخنا وقربه وزوجه اكبر بناته فنعم النسيب ونعم الصهر !! وهو متخصص في علوم غير شرعية في الأصل. حيث هو خريج جامعة البترول والمعادن وعمل في التدريس فترة بسيطة ثم فصل .. والتحق بجامعة الإمام ودرس وحصل على أعلى النسب وهو الآن دكتور في نفس الجامعة وأظن تخصصه مادة العقيدة ... قادنا الأخ خالد لعنيزة وفي الطريق توقف بجوار أحد المساجد المتقدمة بأطراف عنيزة.. ودخل الشيخ للمسجد وصلى ركعتين سنة القدوم من السفر.. لم أرى شخصا محافظا على أداء السنن مهما كانت الظروف والأوضاع لم أرى مثل شيخن في ذلك، لا أقول في كثرة العبادة بل الاستمرارية في كل ظرف .. تعبدا لله تعالى.. أذكر مرة موقفا لن أنساه ... جاء أحد الطلبة للشيخ وقال له: ياشيخ أليس من وقع على يده حائل من وصول الماء إلى البشرة من صمغ أو دهان ونحوه فإنه يجب عليه أن يعيد وضوءه وصلاته إن صلى حتى ولو جهل أو نسي أو كان قليلا ...؟؟ قال : بلى... قال: ياشيخ إن على يدك أثر دهان !! وفعلا كان على يد الشيخ دهان فشق ذلك عليه .. وجلس يفكر منذ كم يوم وقع ذلك الدهان على يده؟؟ فقال لي: لقد جاءنا الدهان في اليوم الفلاني وذلك قبل أربعة أيام !! استقبل القبلة وأعاد جميع الصلوات للأربعة أيام الماضية بل بسننها والوتر والضحى .. ولم يعجل في ذلك بل صلى بكل أناة كما هي عادته!! وكان في تلك السنة يبلغ حوالي تسعة وستين عاما رحمه الله.. ختم صلاته ثم أوصلاني للسكن .. ونسيت حقيبتي في سيارة خالد.. لم أخبر أحدا من الطلبة بسفري برفقته سوى من ذكرت .. ولكن الخبر انتشر كما تنتشر النار في الهشيم.. وكنت أشاهد من غالبهم نظرات الغيرة الطبيعية والتي فطرت عليها قلوب الأوادم.. ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتابه الإخلاص .. أن الحسد شيء فطر عليه الخلق فهو من طبائعهم ولكن المذموم منه ما ترتب عليه تعد أو إيذاء بلفظ أو بفعل ... ولكنني لم أحاول إشغال نفسي بردود الأفعال على ذلك وعشت بينهم بكل احترام وسلام.. ولكن مع بعضهم؟؟ أو مع غالبهم؟؟ سوى صاحبنا ومن يدور في فلكه..!! ظننت أن ذلك اليوم يوم عطلة وليس هناك درس للشيخ هكذا ظننت !! وما اكذب الظن!! شيخنا لا يفرط في درسه ولو جاء من سفر بعيد قبله بدقيقة !! أذكر مرة جئت مع الشيخ من الرياض برا .. برفقة تلميذه الأمير عبد الرحمن بن سعود الكبير .. وصلنا على أذان المغرب .. سألت الشيخ : هل الليلة درس ؟؟ قال : نعم .؟ بالتأكيد إن شاء الله اذهب وأحضر كتبك وتوجه للجامع!! يقول لي أحد الطلبة الذين حضروا وفاة والدة الشيخ عليها رحمة الله .. يقول في ذلك اليوم .. توقعنا بل جزمنا أن الشيخ لن يحضر الدرس ؟؟ ولذلك كان الحضور ليس بذاك ومع ذلك حضر شيخنا وألقى درسه .. حفاظا على أمانة التعليم ... وصدق صلى الله عليه وسلم حينما قال : وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع... نسيت أن أقول أن الشيخ أحضر معه موافقة رسمية من مدير الجامعة الدكتور عبد الله التركي بقبولي في المعهد العلمي في عنيزة تحت اسم فلان الشمري!! حيث كتبت معروضا للدكتور فشرح عليه بالموافقة ..مع أن الدراسة قد ابتدأت منذ حوالي الأسبوعين !! الحلقة الخامسة والعشرون حضرت الدرس تلك الليلة وجلست في مكاني المعتاد .. صافحت جاري العزيز !! فبادلني السلام والكلام غير أن القلوب شواهد!! في اليوم التالي توجهت صباحا لبيت الشيخ لكي آخذ حقيبتي .. وكنت واعدت جاري المذكور بناء على طلبه هو !! أن يوصلني لمنزل الشيخ.. حيث قال لي : أريدك في موضوع...!! في اليوم التالي ضحى وفي الطريق لمنزل الشيخ بدأ يسألني أسئلة كثيرة تدور عن أصلي وفصلي وأين كنت أعيش ..؟؟ وأين يقيم والداي ...؟؟ ونحو هذه الأسئلة الكثيرة التي ارتبت فيها!! وارتبت في توقيتها بالذات ؟؟ أوقف سيارته أمام المنزل وتركها مدارة وبقي يسألني بوقاحة وبقصد الإيقاع بي في مصيدة..!! حتى ضجرت وارتفعت أصواتنا بالجدال والنقاش المرير ... جدال بين اثنين .. أحدهما رجل عاقل رشيد عمره فوق الثلاثين قد حصل من العلم والخير والاستقرار والحظ مالله به عليم.. والآخر ضائع مشتت في مقتبل العمر قليل الخبرة والعلم لا أهل له ولا بيت ولا مال سوى الله سبحانه وتعالى ورحمته وفضله .. قلت له : يافلان ... ؟ مالذي تريده من وراء ذلك ؟ عندها كشف أوراقه وقال : أنت كذبت في كل ما قلته !! ولقد عرفت حقيقتك كلها!! أنت رجل خطير .. أنت اسم قبيلتك الحقيقية كذا ووالدك هو كذا وكذا .. ثم أخذ يسرد حقائق ووقائع تدل على أنه قد تقصى عني حتى عرف عني كل شيء!! ثم ختم كلامه بقوله: أنا اتصلت بوالدك بالأمس وتحدثت معه وأخبرني بأنك فار من المنزل وأنك قد أوقعته بحرج شديد بفعلك وتركك لدراستك ... الخ الكلام .. ثم حينها : انقلبت تعابير وجهه فاسود وتساقط الشرر من عينيه .. وقال: أقسم بالله إن لم تغادر عنيزة وتترك الشيخ سأفعل بك وأفعل ...!! وهددني بكلام لا ينطق به عاقل فكيف بطالب علم !! لم يكن يهمني كلامه بقدر أن أهمني أن يعلم شيخنا بذلك ... فرق كبير أن أخبر الشيخ أنا بالحقيقة من قبل أو أن يخبره ذلك الرجل بما يريده..!! هناك فرق شاسع لمن يعلم طبائع الناس بينهما... ولا شك أن الحقيقة الناصعة هي سلبية مهما كان الناقل .. أنا أم هو غير أن الأمر يختلف كثيرا حينما يفسر ولو لم يكن له تبرير منطقي!! ثم طردني من سيارته وذهب .. بقيت أمام باب الشيخ منتظرا لأكثر من نصف ساعة وأنا متردد ماذا سأفعل؟؟ إن رجعت للسكن وسكت فالعواقب غير معلومة.. وإن تحدثت مع الشيخ الآن فلا ادري هل سيقبل مني أم لا ؟؟ احترت حيرة لا يعلم مداها إلا الله تعالى... لقد مرت علي في الشهور الماضية التي قضيتها في عنيزة مرت علي أيام جميلة.. ولحظات لا تنسى من الجد والاجتهاد .. هل يذهب كل ذلك سدى؟؟ هل سيضيع كل ذلك بجرة قلم أو كيد حاسد؟؟ أنا مخطئ لا شك فيما فعلته .. ولكن هل قصدت ارتكاب ذلك الخطأ؟؟ لم أكن مجرما والله أو مرتكبا لعظيمة والحمد لله .. هي أخطاء ولو كانت في نظر البض جسيمة بنيت على السفه وعدم تقدير الأمور حق قدرها.. بنيت على عدم الناصح والمرشد الصدوق قبل ذلك .. بنيت على الحرمان والضياع والخوف ... هل سأحرم من ذلك العلم الجليل بسبب ذلك الخطأ ؟؟ هل سينتهي كل شيء الآن ...؟؟؟ الحلقة السادسة والعشرون أخيرا قررت أن أطرق الباب على بيت الشيخ .. وليست غايتي هي حقيبتي أو أي شيء آخر !! كنت أريد التأكد فقط هل علم الشيخ بكلام صاحبنا ؟؟ طرقت الباب .. فرد ت علي امرأة من سماعة الباب ... فسألت عن الشيخ ... فقالت من يريده ؟؟ فقلت : فلان..... فلم تجبني وأغلقت الخط في وجهي ...!! وبعد دقيقة أو دقيقتين .. خرج الشيخ وبيده الحقيبة .. ركزت النظر في عينيه ووجهه.. كنت أتوسم في تعابير وجهه ،فرأيت منه ابتسامته المعتادة !! غير أنها هذه المرة متكلفة ومصطنعة !!! بل ومعها احمرار شديد في بشرة الوجه !!! سلمني الحقيبة ببرود متوقع وقال : انتظر الابن عبد الله و سوف يوصلك الآن للسكن.. ثم دخل وقد بدا لي أنه يستعجل الذهاب !! يبدو أن عبد الله قد وصل برا لعنيزة في الليلة الماضية .. ولا شك أن هناك أمرا جللا عجله أو شيئا آخر!!! خرج عبد الله ووضعت الحقبة خلف السيارة ثم جلسنا في المرتبة الأمامية.. الأخ عبد الله رجل جريء وصادق ولا يعرف اللف والدوران ولذلك دخل في الموضوع مباشرة!! وقال: من أنت ؟ ومن بعثك؟ أنت رجل ثبت لنا أنك مخادع وكذاب .. وكذبت على الوالد في أمور كثيرة ..... وانطلق يتكلم بكلام كثير لا أستجمعه ... بقيت صامتا طوال المسافة القصيرة للسكن .. والتي مرت علي كأنها دهر !! لم أناقشه ، ولم أحاول الرد على كلامه .. فواضح جدا أنه قد ملئ قلبه علي والله شاهد لم أصدق وصولنا للسكن .. بقيت متسمرا مكاني وخفت أن يختم بكلامه بلطمة على وجهي .. وليته فعل ولم يتكلم بكلامه الذي تفوه به...!! ثم قال لي : انزل وخذ حقيبتك ... نزلت ثم لحقني وقال : والله ما أضمنك تحط لي شيء في السيارة؟؟ ثم حملت متاعي وصعدت لغرفة السكن والحمد لله أنني لم أجد فيها أحدا!! سقطت على فراشي وبقيت أبكي بكاء الثكلى .. كان موقفا هائلا وكلاما شديدا يصعب على من هو في سني تحمله .. لقد وصفت بأقذع الأوصاف، ورميت بتهم عظيمة لا استحقها والله ؟؟ لكن هل ألومهم ؟؟ أنا لا ألوم عبد الله ابن الشيخ ولا عبد الرحمن أخ الشيخ ولا عائلة الشيخ لا ألومهم ولا أحمل الضغينة عليهم والله الآن .. لقد مرت على تلك القصة سنون عديدة .. فهي الآن فقط ذكريات بقيت في الخيال .. هم بشر وقد نقل لهم عني ما يسئ .. وثبت لهم بعض ما نقل عني فكانت تهمة متلبسة بجميع تفاصيلها!! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ربما يكن أحدكم ألحن بحجته فأحكم له فيقتطع قطعة من النار .. إنما أنا بشر !!!) إذا كان هذا من رسول الله فما بالك بمن سواه.. اللوم كثير منه يقع على ذلك الناقل اللذي امتلاء قلبه حقدا وغلا علي لا لشيء سوى ظنه الغبي أنني جئت لأجل منافسته على المكانة التي حصل عليها من شيخنا.. هل كل من كان أكثر علما هو خير الناس ؟؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الحسد ليأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ما فائدة العلم الذي تعلمناه إذا كان سيوصلنا لهذه الحال...؟؟؟ اللوم أيضا يقع علي أنا في عدم إخبار الشيخ بالوقائع فور قدومي لعنيزة .. ولا اشك ثانية واحدة أن شيخنا لن يتردد في حلها بصرف النظر عن علاقتي به.. فهو رجل علم وإصلاح ورأيت من المواقف ما هو أصعب من مواقفي سعى شيخنا بحلها والإصلاح فيها ... كدت أجن من الحزن والهم والضيق لم أكن أعلم مالذي سأفعله ... أذن الظهر فلم أطق الاستعداد للصلاة ... انتظرت قدوم الشيخ للمسجد.. حيث يمكنني مشاهدته حينما يقدم ماشيا ..من نافذة غرفتي ... وحينما رأيته قادما زادت حسرتي وألمي عليه وعلى تلك الساعات التي قضيتها معه ولو أنها قليلة ولكنها باهظة الثمن!! قلت في نفسي: ما ذنب شيخنا من هذا كله ؟؟ أنا الملوم وأنا من يستحق اللوم ؟؟ أنا الذي أسأت إليه ويجب علي بصرف النظر عن كبر الخطأ وصغره يجب علي أن اعتذر منه.. وأشرح له ما حصل .. استجمعت قواي ونزلت للمسجد وصليت مع الجماعة .. وبعد الصلاة رافقت الشيخ لبيته ... لم يكن يلتفت إلي مع أنني كنت أسير بجواره فعلمت أن الشيخ غاضب مني .. والله المستعان وعليه التكلان ....... الحلقة السابعة والعشرون حينما رأيت الشيخ معرضا عني سبب لي ذلك صدمة عنيفة.. صحيح أنني نعمت بظل أبوته لفترة وجيزة من الزمن .. غير أنها لا يمكن أن تعوض!! خنقتني العبرة وكدت أبكي بمشهد الناس .. لاحظ الشيخ ذلك بالتفاتة سريعة منه نحوي ... فأشار للجميع بالرجوع وبقيت أنا وهو نمشي دون أن نتكلم بكلمة.. واضح أن الأمر محرج للشيخ وأنه شعر في نفسه بخيبة الأمل .. فقد كان يطمح مني شيئا غير ما فعلت فيه .. لقد كان اهتمامه بي نابعا من سماحة نفس ورغبة في تنشئتي تنشئة صالحة وهو فضل منه بعد فضل الله ولو شئت لحدثتكم بكلمات وعبارات من شيخنا فيها من الرحمة والعذوبة واللطافة أملاء بها صفحات وصفحات .. غير أن القصد من هذه القصة هو تسليط الضوء على جزء من حياة شيخنا قصة هو بطلها وهو مخرجها وهو كاتب حروفها غير أني راصد وأحكي لكم ما صار . والله على ما أقول شهيد... وصل لبيته ، فقلت له ياشيخنا : اسمح لي بالحديث معك في داخل البيت .. فقال : لا بأس ... دخل للمنزل ورد الباب ثم فتح باب الملحق الخارجي .. وأنا انتظر الشيخ ليفتح باب الملحق مر صاحبنا الذي نفخ بوق هذه الفتنة بجوار المنزل.. فلما لمحني وحيدا وأهم بالدخول للمنزل غاب بسيارته خلف البيوت المجاورة.. أصبحت كالطريدة بالنسبة إليه وخيل إلي أنه كحيوان مفترس يريد النيل مني !! دخلت للبيت وتوجه الشيخ للقبلة لصلاة السنة الراتبة للظهر... جلست بجوار مكان جلوسه المعتاد في صدر المجلس .. صلى ثم سلم ثم دنا من مكانه فقال : هات ما عندك!! بدأت بحمد الله والصلاة على رسول الله عليه الصلاة والسلام .. قلت يا شيخنا: لقد كنت شابا حبب الله لي العلم وطلبه.. .. فمنذ التزامي واستقامتي وأنا منصرف له بكل ما أوتيت من طاقة وجهد .. ثم رويت للشيخ تفاصيل أموري مما سردت بعضه عليكم في الحلقات الماضية .. وحدثته عن مشكلتي مع الوالد .. وكذلك عن سفري للرياض.. ثم تعرفي على سعود المعاشي .. وقصة الانتساب لقبيلة شمر ... حتى وصلت للقصيم .. كنت أتحدث معه والعبرة تخنقني .. وأحاول جاهدا أن لا أفقد أعصابي .. لم يكن الشيخ يقاطعني بل كان يستمع لي بكل إنصات .. مع أن ملامح وجهه لم يظهر منها علامات القبول لكل ما كنت أقوله .. وله الحق في ذلك فالتهمة قد ضخمت حتى وصلت لحد أطلعكم عليه لاحقا.. حيث لم أعرف كل شيء آنذاك... شيخنا رجل أريب ولماح وشديد الذكاء .. فهو يميز الغث من السمين ويزن الأمور بموازين دقيقة .. هذه الموازين والمقاييس أو المعايير ليست مبنية على الهوى والظن والتشكك والبناء على ذلك.. بل هي مبنية على سبر الأغوار ودراسة المسألة من جميع وجوهها مع خشية الله تعالى وتأله ومراقبة وابتغاء مرضاته لا تأخذه في الحق لومة لائم .. وهكذا العلماء هم قال الله تعالى ( إنما يخشى الله من عباده العلماء)... بقيت أتكلم أكثر من ساعة كاملة .. فلما ختمت حديثي قال لي: ما فعلته خطأ وتصرف أهوج .. ولو أنك أطلعتني من أول الأمر على ما حصل .. لأمكننا التصرف .. ولكن قدر الله وما شاء فعل... أذهب الآن للسكن ، وسوف أرى ماذا يمكننا عمله.. قبلت رأس الشيخ وخرجت وأنا خائر القوى لا أكاد أستطيع السير.. الحلقة الثامنة والعشرون رجعت للسكن وانتقلت لغرفة الأخ محمد زين العابدين بأمر من الشيخ!! هل هو تحفظ علي ؟؟ لكي يراقبني؟؟ أم كان ذلك بسبب آخر أجهله ؟؟ كان الأخ محمد هو غالبا الوسيط بيني وبين الشيخ وقد لمحت مرارا الأخ محمد يلتقي بصاحب الفتنة!! لا أقصد من ذلك أبدا أن أتهم الأخ محمد ، فراية محمد والله عندي بيضاء ولكنه رجل حصيف يسعى للإصلاح والتقارب بكل الوجوه الممكنة . لقد كانت ردة فعله طوال المشكلة أنه لم يظهر الانفعال والغضب بل كظم غيضه وانتظر ما تصير عليه الأمور بيني وبين الشيخ... تغيرت الوجوه علي وتنكرت النفوس وضاقت علي الأرض بما رحبت .. أصبح السكن بالنسبة لي ككابوس مخيف ونفق مظلم لا نهاية له لم يؤذني أحد بكلام أو فعل الحمد لله ، ولكن كانت مجرد النظرات والصمت الرهيب حولي يولدان الكآبة والحزن والأسى في نفسي .. لم يكن الطعام في السكن مع الطلبة لي مستساغا بل أصبح غصة في الحلق .. ولذلك لم أحرص على مخالطة الطلبة ولا أن أتحدث معهم .. كنت أطلب من علاء الدين أن يعطيني الطعام فأذهب به لغرفتي أو أن أنتظر خروج الطلبة فآتي فآكل من الطعام البارد وحدي.. كنت أجلس في الغرفة اقرأ القرءان .. حينما يمر المرء بأوقات عصيبة فإنه يحتاج لمن يؤنسه .. لقد كان أنيسي في تلك الليالي القرءان وأنعم به من أنيس.. لقد كنت أقرأ السور بتأن وتدبر وأشغل فكري بمعانيها العظيمة مما أفهمه وأدركه .. فيكون في ذلك من الأنس والتطمين والترويح ما جعلني أغتبط بما أنا فيه!! من السور العظيمة التي قرأتها مرارا وتكرارا سورة يوسف .. حيث كنت كلما وصلت لمقطع انكشاف شخصية يوسف لإخوته وقد صار سيد مصر تصيبني نوبة بكاء ثم يتبعه أمل واستبشار قريب بفرج الله تعالى.. من السور التي تأثرت بها كثيرا في تلك الأيام سورة فاطر!! إن في هذه السورة من المعاني والعبر والتوجيهات والإشارات العظيمة مالو تأمله المرء لخرج بآلاف مؤلفة من العبر والفوائد.. من السور التي تأثرت أيضا بها سورة القصص وقصة موسى عليه السلام وإلقاء أمه له في التابوت وخوفها عليه ثم عيشه وترعرعه في بيت عدوه وما وجده في حياته من العنت والمطاردة والخوف حتى بعثه الله سبحانه وتعالى لفرعون وقومه وبني إسرائيل ... القرءان يا إخوتي الكرام يا أخواتي هو خير صديق ومؤنس في الشدائد وصدق الله تعالى حينما قال ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب)
    7 "




  5. كود:
    في ذاكرتي عن تلك الأيام تشويش رهيب فكلما طرقت باب الذاكرة لكي تفتح لي نافذة أو كوة أو خرقا صغيرا نحوه ترفض ذلك رفضا قاطعا ..!! كأنها تقول لي : مالك ومال تلك الأيام ...!! ألم يكف ما تجرعته فيها من آلام هائلة!! دع تلك المآسي في جوفي ، ولا تفتح الباب فتفسد على نفسك ما بقي من عمرك!! فيكفيك ما أنت فيه الآن من متاعب أنت في غنى عن المزيد منها ..!! وخوفي أن يأتيك ما كنت تظنه عبرة وعظة للآخرين فيكون في مجرد ذكره تعجيل حتفك !!! فهل تريد الآن أن تنبش الأوجاع وتعيد الذكريات الحزينة!! قلت لها : دعينا يا ذاكرتي الحزينة دعينا نروي للناس ما حصل حتى يعتبروا من حالي .. وليعلموا كيف أن رحمة الله سبقت سخطه وعقابه .. حينما هبت جنود أبليس وأعوانه لنجدة أشرار الناس في النيل من علم الأمة دعيني أحكي لهم كيف طردني الناس ورموني بالأحجار حتى فررت منهم على قارب صغير غرقت به في منتصف البحر .. فبقيت أسبح وأسبح حتى وصلت للشاطئ المقابل!! ولم أكد أصل !! ثم زحفت على بطني على الرمال حتى ارتفعت على تلة في الشاطئ.. تشرف على غابة أمامي ... فتجولت بناظري حولي فرأيت من خلف الأشجار المظلمة .. عيونا لا تختلف نظراتها عن تلك النظرات التي فررت منها .. والتي تطورت حالها من مجرد العتاب أو الحقد ليتبعها الإيذاء والمطاردة!! حينها سقطت مغشيا علي ... دعيني أروي لهم كيف أن شيخنا لمحني من بعيد ملقيا على شاطئ الأحزان.. فجاء ذلك الشيخ الجليل يسير من داخل تلك الغابة ووقف على رأسي ... فرآني لا يكاد يسترني ثوب من العري.. قد تشققت أشداقي من العطش .. وقد ضمر بطني من الجوع وقد تتابعت أنفاسي الضعيفة من الجهد فكدت اتلف وأموت ... حينها انحنى الشيخ نحوي .. ووضع يده الباردة على وجهي ومسح بها دمعتي وقال: لا تحزن يابني إن الله جاعل لك فرجا قريبا !! الحلقة التاسعة والعشرون لقد ولد الصمت الرهيب حولي بعد تلك الجعجعة التي مرت في الرياض ولد ذلك في نفسي فراغا وخواء ورغبة في الموت أو الانتحار!! ليس هو الانتحار بمعنى إزهاق الروح بل بالعودة من حيث أتيت !! لم أترك فكرة تدور في خلد أي إنسان إلا وفكرت فيها .. بقيت معلقا بين السماء والأرض أيهما يجذبني .. حين ذلك وأنا في معمعة الفكر استدعيت من الشيخ ..من طرف الأخ محمد زين العابدين قال لي شيخنا: استمر في حضور الدرس مثلك مثل الآخرين ولا تقصر في الطلب .. وسوف أتحدث مع والدك في الموضوع أو أنه قال : لقد تحدثت مع والدك في الموضوع ؟؟ نسيت والله ..!! والنتيجة : إن خطأك وجسارتك على والدك وهروبك من المنزل وتركك لدراستك وتغيير نسبك كل ذلك لا يجوز أن يمنعك من طلب العلم.. كان الشيخ كمثل الطبيب يشخص المرض ويضع يده على موضع الألم ثم يقرر الدواء .. هل سيكون بالبتر أو بالترياق أم بالحمية؟؟؟ قلت له: جزاك الله خيرا إن كلامك هذا يعطيني بصيص أمل .. لم أطل معه الحديث ... عدت بعدها للسكن .. أتعرفون مالذي فعله صاحبنا ذاك؟؟ لقد صار يصحب شيخنا مشيا على قدميه بعد كل صلاة لظنه أنني لن أجرؤ على السير مع الشيخ بحضوره!! ظن ذلك المسكين أنني بمجرد ذهابي مع الشيخ بعد الدرس فقد كسبت وده ..!! إذا فما حال عشرات الطلاب الآخرين ؟؟ هذا من فضل الله تعالى علي والحمد لله .. في البداية هبته وخشيت شره وبطشه خاصة بعد الذي فعله في من إساءة وتشويه سمعه.. ولكنني عدت لسابق عهدي فحينها مل وتراجع !! ولكنه لم يعدم حيلة لمنعي من الخير .. كلف شخصا اعرفه جيدا بمراقبتي فكان ذلك المعتوه يسير خلفنا بسيارته السوداء وينتظرني بعد كل صلاة فيسير بالسيارة حتى يصل الشيخ لبيته حينها أسلم على الشيخ وارجع!! شعر الشيخ بعد أيام بما يفعله الرجل فاستدعاه وسأله مالذي يفعله ومن كلفه بذلك ؟؟ فتعذر بأعذار يعيب علي ذكرها هنا !! حينما عزمت على حضور الدروس بعد الحديث مع شيخنا .. وجدت أن مكاني قد سيطر عليه شخص آخر جاء من طرف جاري القديم!! ولكنني لم استسلم لهذا التعامل الرخيص البليد... صرت احضر مبكرا وأنازع على المكان الذي حافظت عليه شهورا حتى دان الجميع لي بذلك.. كنت اجلس بجوار ذلك الحقود ولكن بيني وبين قلبه كما بين المشرق والمغرب!! والحمد لله يشهد علي جميع من عرفني أنني لم أتفوه نحوه ولا في ظهره بعبارة واحدة تسيء له.. بل كنت أقر بفضله وعلمه وسبقه مع بغضي لفعله معي والله حسيبي وحسيبه بعد عدة أيام استدعيت من الشيخ مرة أخرى وهذه المرة مع محمد زين العابدين.. أذكر تلك اللحظة جيدا كانت بعد صلاة عشاء .. سرنا ثلاثتنا إلى بيت الشيخ دون مرافق آخر .. كان الشيخ يتكلم ونحن منصتون، يقول لي:.. فلان قد حمل عليك ويريد منك أن تترك عنيزة وهذا لا حق له فيه ولا أوافقه عليه .. ولكن أنت يجب عليك أن تحاول كسبه والتودد إليه ..! أو ابتعد عنه ولينصرف كل واحد منكما لطلب العلم ... ثم عاتبني الشيخ في تحدثي مع الرجل ذاته سابقا في أمور تخص الشيخ وكيف أن الناس سيستغلون ذلك ضدي!! وأنه زعم أنني جاسوس مدسوس ضد الشيخ !! وكلفت بالتقرب منه لكي أكسب ثقته ومن ثم أطلع على أسراره وخصوصياته .. فابعثها لمن اتبعه!! فقلت له ياشيخ : هل تصدق هذا الكلام ؟؟ صمت الشيخ ولم يرد أن يسمع الأخ محمد جوابه !! خوفا من أن يصل الكلام لصاحبنا فيفهم أن الشيخ في صفي وخيرا فعل !! وعدت شيخنا خيرا وأن استمر في العلم وفي دراستي النظامية إرضاء لوالدي .. فقال : سوف أتصل على والدك حتى يأتي هنا لكي أتفاهم معه!! فقلت له : افعل ياشيخنا ما تراه الأصلح وأنا أرضى به .. ثم طلب الشيخ مني التأخر قليلا ليتكلم مع محمد على انفراد .. فتكلما قليلا وهما يسران .. ثم دعاني الشيخ.. فكرر علي كلامه السابق كأنه يتوثق مني ثم قال .. سوف أسافر بعد أسبوعين لمكة لأداء العمرة وسوف اطلب من والدك الحضور لمقابلتي هناك!! ولم يذكر لي هل سأرافقه أم لا؟؟ الحلقة الثلاثون لقد كانت تلك القضية على طوال عدة أيام وقد تتجاوز الأسبوع مثار قلق لشيخنا فأشغلت باله وتفكيره .. خاصة وان صاحبنا لم يترك طريقة أو وسيلة للنيل مني إلا وفعلها.. ولولا خوفي من غضب بعض الإخوة ممن يعرف الرجل لحدثتكم بأشياء فعلها وقالها لا تكاد تصدق ..!! لقد سعى صاحبنا في البداية للنيل من شخصي ووجد مبتغاه في بعض الأمور.. ولكنه حينما رأى الوضع توجه للهدوء،أراد إثارة زوبعة أخرى ولكن هذه المرة من داخل بيت الشيخ !! لا أريد سرد تفاصيل ما حدث مما قد يفهم منه النيل من أبناء الشيخ وزوجه وولده وأقاربه.. فهم والله كرام أبناء كرام ولهم في قلبي كل المعزة والاحترام ويزيد حقهم علي بصلتهم بشيخنا رحمه الله ومهما بدر منهم فلا ألومهم واللوم كله أو جله يقع على ذلك الرجل وعلي أنا في جزء منه كما سبق بيانه.. لقد سعى صاحبنا ذلك فأفسد قلوبهم علي فرأيت منهم من الجفاء والكره والتأفف ما حطم فؤادي وشق صدري من الأسى .. غير أنه لم يكتف بذلك بل إنه أفسد قلب بعض أقارب الشيخ على الشيخ نفسه .. ولو شئت لذكرت ذلك بالأسماء والمواقع وما قاله، ولكن حفظا لسر شيخنا وعدم الفائدة من ذلك ثانيا أمتنع عن فتح الباب ... ولقد آذى ذلك شيخنا وضيق صدره حتى حنق على الرجل كما سيأتي ذكره لاحقا إن شاء الله.. مرت الأيام وأوشكت الأمور أن تعود كسابق عهدها ... تأثر بعض الطلبة بتلك الواقعة حيث هجرني عدد منهم استهجانا لفعلتي .. انتقل الأخ محمد من السكن وعين الأخ دخيل الشمراني مشرفا على السكن لفترة وجيزة لم تطل.. استدعاني مرة وكان يحمل في يده ملفي الذي كان في أدراج ملفات طلبة السكن فقال لي: أنت لست من قبيلة شمر ؟ أنت من قبيلة كذا؟؟ فقلت له : هذا الموضوع لا يعنيك ثم انصرفت وتركته!! كفاني ما أنا فيه من مشاكل حتى أفتح على نفسي جبهة جديدة!! أذكر أنني في تلك الأيام التي سبقت سفري أن أموري مع الشيخ كانت على ما يرام.. وفي إحدى الليالي بعد صلاة العشاء طلبت من شيخنا أن يوفر لي جهاز تسجيل صغير.. لكي أقوم بتسجيل فتاويه التي يلقيها في طريقة للبيت مما يصلح للنشر.. أعجب الشيخ بالفكرة ولا أدري هل سبقني عليها أحد؟؟ أشترى لي جهازا ممتازا وباهظ الثمن ولكنه ثقيل الوزن وينفع للضرب!! لا تستعجلوا علي سأحكي القصة لا حقا!! طلب مني الشيخ أن أستعد للسفر برفقته لجده ... حيث أنه رتب مع والدي اللقاء هناك.. بعد أداء العمرة... لم أجرؤ على أن استفسر من الشيخ ما دار بينه وبين والدي !! وكنت في نفسي أقول ( لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسوؤكم)! اشتريت التذكرة بالدرجة السياحية ... على ذات الرحلة مع الشيخ... ظن صاحبنا أن الموضوع انتهى وأنني لن أعود لعنيزة فقد كان على اتصال بوالدي طوال الأسبوعين المنصرمة كما سيأتي ذكره .. ولذلك لا حظته مبسوطا مستبشرا مع الطلبة بخلاف الأيام الخالية فهو لا يكاد يرفع رأسه من الغيظ والغضب..!! سألت الشيخ هل ستعتمر ؟ قال نعم.. فقلت : هل أشتري لي إحراما ؟ فقال : إن شئت... في يوم السفر توجهت لمنزل الشيخ فطرقت الباب .. ففتح لي باب الملحق... لقد فتح لي الباب شاب في سني تقريبا وفيه شبه كبير بوجه شيخنا .. هذا هو عبد العزيز ابن الشيخ .. تعرفت عليه ، وفهمت من كلامه أنه سيكون برفقتنا!! الحلقة الواحدة والثلاثون قادنا للمطار هذه المرة ابن الشيخ عبد الله وشيعنا للمطار تقريبا جميع أبناءه كان الشيخ متوترا على غير العادة وقليل الحديث وأنا أتفهم سبب ذلك!! فلقد كان غالب أبناءه متوجسين من وجودي ويعتبروني دخيلا غير مرغوب فيه.. وصلنا للمطار على موعد الإقلاع تقريبا ... سألني الشيخ ونحن متجهون للطائرة أين إحرامك؟ فقلت له في الكيس الذي أحمله في يدي.. قال : لو أنك لبسته في بيتك كان أسهل عليك ... لاحظت أن الشيخ يلبس الإزار من تحت ثوبه بحيث أنه إذا حاذى الميقات خلع ثوبه ثم يلبس الرداء ... وهذا ما كان ... بقيت أنا وعبد العزيز ابن الشيخ متجاورين في الدرجة السياحية .. ووالده شيخنا في الدرجة الأولى حيث هو مستضاف من مركز الدعوة في جده لإلقاء محاضرات وندوات ولقاءات عامة ونحو ذلك مما سيأتي ذكره .. كان لعامل السن دور كبير في تسهيل التعامل مع الأخ عبد العزيز .. وكذلك لين جانبه وتمتعه بالأخلاق السامية جعلا من رفقته مكسبا لي .. حاولت جاهدا أن أغير الصورة التي رسمها ذلك الرجل عني في مخيلة جميع أبناء الشيخ وأقاربه ، غير أنني لم افلح فهو بهم أوثق ومنهم أقرب وعلاقته أرسخ وأقدم!! وأنا في موضع تهمة وغريب وثبت علي ما يخل بوضعي !! ولكنها بالتفحص والنظر المنصف ليست مبررا للهجران والقطيعة أو الظلم والإيذاء!! بقيت أتحدث أنا وعبد العزيز في أمور عامة وتجنبنا الحديث في الأمور الخاصة فقد كان كلانا متحفظا!! سمعت كابتن الطائرة يقول على الميكرفون .. نرحب بفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين المرافق لنا على هذه الطائرة .. بعد انقضاء أكثر وقت السفر واقترابنا من الميقات جاء إلينا الشيخ بنفسه .. وهو لابس للإحرام ولحيته تقطر من طيب الدهان .. ويرى أثره على لحيته البيضاء.. فقال لنا : قوما والبسا إحرامكما ولبيا للعمرة ... لبسنا الإحرام ولبينا ودخلنا في النسك.. هبطت الطائرة لمطار جده ... وتوقفت وفتحت أبوابها ... خرجت أنا وعبد العزيز من الباب الخلفي للطائرة .. وكان همنا أن نجد الشيخ.. ونحن ننزل من الدرج لاحظنا عددا من السيارات الفارهة تقف أمام سلم الطائرة لتستقبل ضيوفا لا نعلم أننا نحن المقصودون بذلك!! كان الشيخ واقفا يصافح حشدا من الناس أمام السلم مباشرة .. توجهنا للشيخ فأشار لابنه عبد العزيز وإلي أن أركبا مع أحد السيارات.. ركبنا في السيارة وخرجنا من المطار.. وتوجهنا لحي الروضة في جده.. توقفت السيارات أمام بيت فاره كبير ذا لون أبيض .. أنزلنا حقائبنا وثقلنا ودخلنا البيت لكي نرتاح قليلا.. هذا المنزل هو المكان الذي اعتاد شيخنا النزول فيه كل مرة ينزل لجده.. وهو منزل الوجيه الشيخ صالح بن إبراهيم الزامل.. هذا الرجل الكريم صاحب المرؤة العالية والنبل النادر المحب للعلماء .. رجل قد أغناه الله من واسع فضله .. فهو من أثرياء ووجهاء جده يقول لي أحد معارفه: كان أبو إبراهيم رجلا مقبلا على الدنيا يملك القصور والفلل في سويسرا ولندن وأمريك ثم إنه تاب إلى الله تعالى وتوجه للطاعة فتصدق بجزء كبير جدا من ماله .. يحبه شيخنا حبا جما ، ويكرمه بالنزول في ضيافته كل مرة .. سمعت من شيخنا ثناء عاطرا على هذا الرجل ونعم الرجل أبو إبراهيم .. بارك الله له في ماله وولده.. مكثنا قليلا ووضع لنا الغداء وبعدها توجهنا لمكة لأداء العمرة... كان مرافقنا بالإضافة إلى الشيخ صالح الزامل هو دليلنا الآخر الأخ علي السهلي.. وهو شاب محب للعلماء من سكان جده ويتحفك بالحديث والطرائف .. فيكون النصب والإرهاق في صحبته متعة!! بارك الله فيه وجزاه الله خير الجزاء... كان الشيخ طوال الطريق يلبي ويرفع صوته بالتلبية .. حتى يكاد يبح صوته من ذلك.. كنت أراقبه وأفعل مثل ما يفعل وأقول مثلما يقول... وكان يقطع أحيانا ذلك بالحديث معنا والسؤال عن شيء يهم.. غير أنه في الغالب لا ينقطع عن الذكر والتسبيح... الحلقة الثانية والثلاثون وصلنا للحرم قريبا من أذان العصر صلينا العصر في الحرم ... كان الشيخ يقول : سبحان الله، انظروا، توضأنا في عنيزة وهانحن نصلي في مكة!! اضطبعنا كما هي السنة ثم بدأنا بالطواف.. كان الشيخ يسرع في خطاه حتى يكاد أن يجري .. وهو ما يسمى الرمل وكنا نفعل مثل ما يفعله خلافا لكثير من الطائفين .. لاحظنا أحد العاملين في تنظيم المعتمرين حول الكعبة .. وهو رجل كبير في السن عليه عباءة مزررة باللون الذهبي.. مر بجواره الشيخ فلم يعرفه فنادى على الشيخ : إن ما تفعله بدعة وخلاف السنة..!! فلم يلتفت إليه الشيخ ولم يرد عليه.. وحينما مر بجواره المرة التالية كرر عليه الكلام .. حينها رد عليه الشيخ وهو يسير (والرجل يلهث خلفه ويمسك بمنكب الشيخ يريد إيقافه!!) قائلا : قد ثبت بالنص أن ذلك من السنة وروى له الحديث .. ثم دفع يده واستمر.. ثم قام الشيخ صالح الزامل وهمس في أذن الرجل وقال له : الشخص الذي تتكلم معه ، هو الشيخ محمد بن صالح العثيمين عضو هيئة كبار العلماء!! تأفف الرجل وقال : لا حول ولا قوة إلا بالله ،والله ما عرفت الشيخ .. بعد انقضاء الأشواط الثلاثة التي يرمل فيها ، مشينا مشيا عاديا ولحق ذلك الرجل بنا واعتذر من الشيخ .. لا يحب شيخنا أن يعرف نفسه لأحد فذلك ليس من شيمه .. إلا إن رأى حاجة لذلك .. من المواقف التي أذكرها جيدا .. في سنة من السنوات كنت أسعى بين الصفا والمروة معه ... وكان الشيخ بطبيعة الحال محرما ..وكثير من الناس لا يميز جيد ا حينما يكون محرما..فهو بخلاف الشكل المعتاد له.. مررنا بجوار رجل في الخمسينيات يحمل مصحفا في يده ويلبس نعلا في المسعى.. فاقترب شيخنا منه وقال له: لا ينبغي لك يا أخي أن تسير في المسعى بنعلك.. فالتفت للشيخ ولم يعرفه وأخذه طولا وعرضا وقال: هذا من السنة!! فقال له الشيخ : نعم هذا من السنة حينما كان الصفا والمروة واديا مفروشا بالحصى والتراب.. أما الآن فهو مبلط ولو لبس الناس النعال مثلك لتأذى المصلون من ذلك .. فقال الرجل : هذا أمر لا يعنيك وانصرف وترك الشيخ !! فلحقه شيخنا وقال له : أريد أعرفك بنفسي ، أنا أخوك في الله محمد بن صالح العثيمين!! فقال : هو أنت ؟؟ الشيخ؟؟ قال : نعم أنا !! فانحنى الرجل وحمل نعله وقال : والله ياشيخ ما عرفتك سامحني!! وقبل رأس الشيخ واعتذر منه ... وهي تحية تعورف أنها للعلماء!! فقال الشيخ : سامحك الله يا أخي .. لو أنك عرفت الرجال بالحق خير من أن تعرف الحق بالرجال!! ومن المواقف التي أذكرها جيدا .. أنه ذات مرة كان الشيخ خارجا من باب الصفا من الدور الثاني بعد صلاة العشاء .. فلمح عاملا سعوديا في البلدية يطارد امرأة تكر ونية ممن يبعن أمام الحرم بعض الخردوات والزينة والنعال.. كانت تجري وتحمل متاعها الملفوف في قطعة قماش وتصيح وتولول.. والرجل يجري خلفها يريد الإمساك بها.. وكانت امرأة كبيرة في السن وهو شاب نشيط فلحقها على درج أحد البيوت فأمسك بمتاعها.. فأخذت تصيح وتترجاه وتبكي بصوت محزن يقطع الفؤاد .. وهو لا يلتفت إليها ولا يرد عليها.. فرأيت الشيخ أحمر وجهه وامتلئ غضبا وتوجه لذلك الرجل .. فأمسك به بشدة ونزع القماش من يده وألقاه في يد العجوز فطارت به واختفت عن ناظرنا.. وقال لذلك الشاب الذي صعق من الموقف ولم يتوقعه ويستعد له.. وكانت علامات الخوف والتعجب ظاهرة على ومحياه قال له: اذهب لمديرك وقل له إن ابن عثيمين قد أطلق تلك المرأة وسوف أتحمل المسئولية عن ذلك !! أعتذر من الشيخ وقبل يده ورأسه وانصرف ... الحلقة الثالثة والثلاثون وهكذا انتهينا من مناسك العمرة وكانت سهلة ميسرة .. واعتمرت عمرتي التي أعتبرها أول عمرة أعملها قريبة أو هي على السنة على الإطلاق.. توجهنا للحلاقين اللذين على باب المروة .. وكعادتهم يصرخون على المعتمرين كل ينادي على محله.. فاختار الشيخ رجلا كبيرا في السن من الباكستان ولحيته حمراء .. وقال ذلك الرجل له : أنا أعرفك أنت فيه مطوع كبير !! حلق الشيخ وحلقت، وأبى عبد العزيز أن يحلق بل كان يريد التقصير .. فقال له الشيخ : ياولدي أكسب دعوة رسول الله حيث دعا مرتين للمحلقين ، ففعل.. انتهينا من الحلق ، وتوجهنا للسكن وهي عبارة عن شقة تابعة لأحد أصحاب الشيخ تقع أمام باب المروة مباشرة ، وقد هدت لاحقا ... حصل لي في تلك العمارة موقفان لا أنساهما أبدا .. ولعل فيهما طرفة !! واسمحوا لي أن أحكيه لكم فيها لا تخلوا من فائدة ودعابة !! كانت الشقة التي نقيم فيها في الدور الأخير وهو العاشر .. وذات مرة في إحدى الزيارات لمكة .. صعدت مع الشيخ .. على مصعد الشقق الوحيد وصعد برفقتنا الشيخ سعد البريك الداعية المعروف والمقيم في نفس العمارة .. نزل الشيخ سعد في طابقه وغادرناه لطابقنا العاشر.. وفجأة توقف المصعد عن العمل وبقينا معلقين بين طابقين.. ضغطت على زر النداء فلم يجبنا أحد وكدنا نختنق من الحر وقلة الهواء.. عندها قمت بدفع بابي المصعد وفتحتهما بعد محاولات عديدة وبالكاد فتح!! ولكن تبقى المشكلة أنه معلق بين طابقين، ولكن من رحمة الله بنا أن بقيت في أسفله فتحة بسيطة .. يمكن المرور منه ولكن بمشقة ، وفيها خطورة حيث من الممكن أن يتحرك المصعد في أي لحظة فيحصل مالا يحمد عقباه !! نزلت أنا أولا فخرجت بنجاح ، وبقيت ألح على شيخنا بالنزول حتى وافق على مضض..فتدلى من الباب فخرج والحمد لله !! ولولم نفعل ذلك لهلكنا بلا شك .. والموقف الآخر ، ذات مرة جئنا لنفس السكن ولكن هذه المرة كان المصعد عطلانا بالمرة ولا يعمل.. فكان الواجب علينا الصعود على الدرج لعشر طوابق ..!! صعد الشيخ بكل خفة ورشاقة أما أنا فتعثرت مرارا وهممت أن أرجع للحرم وأترك الشيخ!! فكان الشيخ يسحبني ويجرني وهو ابن السبعين حتى وصلت وكاد نفسي ينقطع!! غير أن الشيخ حينما وصل للسكن تذكر أن لديه مكالمة مع الأمير عبد الله ولي العهد .. وهي ضرورية ولا يمكن تأخيرها .. فقال لي : احضر الهاتف لكي اتصل .. فبحثت عن جهاز الهاتف في كل غرف الشقة.. فلم أجده فتتبعت سلك الهاتف الموصل بالفيش فوجدته موصولا بغرفة مغلقة وليس لدينا لها مفتاح!! علمت من وجه الشيخ وملامحه أن لا خيار لديه .. فقررت النزول لشراء جهاز له .. فقال لي: سوف انزل معك .. قلت له : أبدا ، وكنت أعلم أنه سينزل معي مجاملة لي تخفيفا للمشقة!! وخوفا علي من أن أموت قبل الرجوع!! فأصر على النزول معي فأذعنت لذلك .. نزلنا وما أسهل النزول كما ما أسهل الهدم !! نحن أهل الدعوة نبني ونتعب ونعاني أما أهل الشر من أهل العلمنة والنفاق فيهدمون وما أسهل ذلك فالكل يقدر على الهدم لمن لا ضمير له أما البناء فهي مهنة الشرفاء .. جعلنا الله منهم.. بحثنا في المحلات فوجدنا أجهزة متعددة ومختلفة الأسعار .. فكنت أريد شراء جهاز معقول الثمن حيث أنني علمت أن حاجتنا إليه لمكالمة واحدة فقط.. غير أن الشيخ له رأي آخر !! بحث عن أرخص جهاز بالسوق وقيمته عشرة ريالات وهو أشبه بلعب الأطفال!! فقلت له : ياشيخنا هذا ما ينفع لشيء !! قال : ياولدي مكالمة واحدة فقط !! فأخذناه واستحييت والله من شراءه ولكن هذه هي رغبة الشيخ .. وليس هذا بخلا منه كما قد يظن بعض أهل الغفلة بل الشيخ من أكرم الناس كما يشهد بذلك من عرفه ولكنه مقتصد على نفسه بأقصى الحدود رحمه الله وعفا عنه.. صعدنا الدرج ويا للعذاب !! فظن شرا ولا تسأل عن الخبر.. وصلت للشقة فرميت نفسي تحت دش الماء واغتسلت من العرق والجهد!! دخل شيخنا وأراد إصلاح خط التلفون فما استطاع فانتظرني حتى خرجت من الحمام.. فقال : تعال أصلح لي الهاتف.. فتأملت ... ثم قلت له : ليس من سبيل سوى بقطع سلك تلفون صاحب المنزل وتوصيله.. فأبى الشيخ وقال : هذا ليس من المرؤة هل تريده يقول : أفسدوا سلك تلفوني!! فقلت له : ما العمل ؟؟ فبحثنا وتتبعنا السلك حتى وصلنا لفيش التلفون .. فقمت بفكه بسكين ووصلت أسلاك تلفوننا المبتذل ولكن أين اللاصق الذي يثبته!! فقلت : ياشيخ التلفون يعمل ولكن نحتاج للاصق فهل سننزل من اجله للسوق ؟؟ فقال : كلا بل أوصل السلك بيديك وأمسك به حتى أنهي المكالمة!! كانت فكرة شاقة ولكنها أهون على نفسي من النزول من الدرج .. اتصل شيخنا على مكتب الأمير .. فرد عليه عامل البدالة .. فعرف الشيخ بنفسه .. فرحب به الرجل وقال له سأوصلك بطويل العمر..!! فاستمر في الانتظار دقائق معدودة حتى يوصلوه بالأمير وكنت خائفا والله .. أن يرد طويل العمر فيسقط السلك من يدي فأحاسب حسابا عسيرا !! ولكن الله سلم .. كلم شيخنا الأمير وقضى منه ما يريد ثم لففنا التلفون وأهديناه لأولاد صاحب البيت لكي يتسلوا به!! الحلقة الرابعة والثلاثون كما سبق وذكرت فقد نزلنا بشقتنا الواقعة مقابل المروة.. ولم نشعر بالتعب والإرهاق خاصة بوجود الأخ علي السهلي اللذي وهبه الله موهبة الطرافة الفطرية ، فهو يتلفظ بكلمات تجبرك على الضحك والوناسة إجبارا!! نمنا ليلتنا تلك في مكة... صلينا الفجر في الحرم وفي وقت الضحى توجهنا لجده... كان معنا في سيارة الشيخ صالح جهاز تلفون سيار قبل معرفة أجهزة الجوال.. اتصل شيخنا على شخص .. فسمعته يكنيه بأبي محمد !! ثم التفت الشيخ إلي .. ففهمت من نظراته أنني معني بمن يتحدث معه.. أوشك قلبي على التوقف من الرعب !! وتصببت عرقا ، وصار الدم يغلي في عروقي ... حيث علمت انه يكلم والدي !! غير أنني لا حظت شيخنا يتكلم معه بكل هدوء فخفف ذلك علي هول الصدمة.. ثم سلم شيخنا سماعة التلفون للشيخ صالح حتى يصف له منزله في جده!! لا أستطيع أن أصف مشاعري في تلك اللحظات .. كانت مشاعر متضاربة ... ولكن يطغى عليها الخوف .. لا أدعي أنني كنت مسرورا أو متشوقا للموقف!! فقد كنت كسجين هرب من سجنه!! منذ حوالي الخمسة شهور.. لا أقصد أن حياتي كانت سجنا بل التوصيف القريب أن تسمى انعتاقا وتحررا من القيود!! وإن كان ولا شك أن والدي عليه الرحمة والرضوان لا يقصد من وراء ذلك سوى مصلحتي ولكن ... هل كل من قصد شيئا وفق؟؟ هل كل صاحب دعوى هو مقبول على الإطلاق؟؟ أليس كل أحد معرض للخطأ في التوصيف والملاحظة مما يبنى عليه خطأ في اتخاذ القرارات.. أليس رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو سيد البشر أخطأ؟؟ كما فعل مع ابن أم مكتوم فعاتبه رب الجلالة من فوق سبع سماوات؟؟ ولكنني لو رجعت للوراء لكان تصرفي مختلفا للغاية ، فالحمد لله على ما قدر... لم يظهر على شيخنا أي ارتباك أو حرج من ذلك الاتصال كما هو حالي.. وصلنا لجده فوجدنا حشدا كبيرا من الناس في انتظارنا.. جده هذه هي مدينة الشيخ محمد العثيمين!! يحب شيخنا أهلها وهم أشد حبا له.. وسمعت شيخنا مرارا يقول ذلك ولذلك حينما يعاتب على حظ جدة منه بخلاف المدن الأخرى يقول هؤلاء هم جيران الحرم فلا تلومونا بحبهم!! ولذلك من الملاحظ كثرة طلبة الشيخ في عنيزة من أهل جده .. وأما الحضور الكثيف لمحاضرات الشيخ في جده فذلك لا ينافسهم عليه أحد.. نزلنا في منزل الشيخ صالح .. فبدا أن المجلس يغص بالناس .. غير أن هناك ضيفا مميزا في تلك الجلسة لاأنساه!! دخل علينا رجل حجازي الطلعة ، هادي الطباع ، حليق الذقن .. مؤدب .. فيه سكون لا تكاد تسمع له حسا ... تقدم في المجلس ، وحينما رآه الشيخ .. قام له .. وصافحه بحرارة.. لم يكن وجهه غريبا علي ، فقد سبق أن رأيته ... ولكنني لم أميز شخصه؟؟ فبقيت أحملق فيه وهو جالس بجوار الشيخ لا يكاد يرفع رأسه من الخجل.. وبعد التدقيق والتمحيص ، انكشفت لي شخصيته ... فصعقت ، وتعجبت ، وما توقعت أن أرى ذلك أل....!!! بجوار الشيخ !! إنه المغني المشهور محمد عبده !! مالذي أتى به ؟؟ ومن دعاه؟؟ يقيم محمد عبده بجوار منزل الشيخ صالح الزامل وله جامع كبير هناك قد بناه محمد عبده على نفقته .. سمعنا جميعا بتوبة هذا المغني .. وكان لقاءنا به في تلك الأيام التي أعلن توبته من الغناء واعتزاله له وليته استمر بذلك..!! غير أنه مورست عليه ضغوط من جهات معروفة.. فسوغت له الباطل فعاد له والله حسيبنا وحسيبه.. زينوا له أن الغناء مباح خاصة منه ما يسمى بالغناء الوطني .. كان شيخنا مهتما بمحمد وزاره في بيته مرارا .. تثبيتا له على الحق ولكن الله لم يرد ذلك ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) ورأيته مرة يجلس مع الشيخ لوحده وكان يشتكي له من شدة الضغوط عليه ويبكي فكان شيخنا يصبره ويذكره بالله .. ولقد تبرع لنا الأخ محمد بتبرعات جليلة لقضايا إسلامية عديدة عفا الله عنا وعنه لعلي أذكرها لاحقا.. الحلقة الخامسة والثلاثون كان ذلك اليوم فيما أذكر يوم خميس ووضع لنا الغداء في الفيلا المجاورة والتي هي أيضا تابعة لفلل الشيخ صالح الزامل وذلك لكثرة الضيوف وازدحام الملحق بهم .. غير أني لم أجد لذلك الطعام أي لذة رغم تنوعه وفخامته و لكن لم يطب لي الحال!! فقد كنت قلقا للغاية ، فوالدي قد يدخل علينا في أي لحظة.. ولا شك أنني لم أكن أحب رؤيته وأنا في جمع من الناس .. كنت أراقب الباب وأراقب الشيخ محمد حيث أن التلفون الثابت وضع بجواره وينتظر مكالمة الوالد... انتهينا من الغداء وقدم لنا الشاي وبدا المجلس بالانفضاض.. ولم يكن أحد يعلم بقدوم الوالد سواي والشيخ محمد والشيخ صالح .. بقيت مع الشيخ محمد وذهب الآخرون للقيلولة .. وأجهد الشيخ من الانتظار فدخل غرفته ونام.. أذن العصر وتوجهنا للمسجد.. وبعد الصلاة عدنا للبيت .. وبعد نصف ساعة من الصلاة .. رن جرس الهاتف... فرد الشيخ صالح الزامل .. فعرفت من كلامه أنه الوالد .. وصف له المنزل وصفا دقيقا.. ثم أغلق السماعة.. ناداه شيخنا وهمس في أذنه وطلب منه أن يوفر لنا مكانا منعزلا عن الآخرين .. كان التوتر على أشده مني ، بينما شيخنا كأن على فؤاده قالب ثلج!! وهكذا الرجال اللذين طحنتهم الحياة طحنا وتعلموا من دروسها يواجهون المصاعب بكل ثبات وروية واتزان... ذهبت برفقة الشيخ صالح للفيلا المجاورة حيث سأستقبل الوالد قبل قدوم الشيخ.. بقيت في الخارج واقفا في الشمس .. ولا يقر لي قرار.. كنت أتصور غضب الوالد وهو رجل غضوب من طبعه فكيف وهو في هذا الحال؟؟ حيث مضى على هروبي من المنزل حوالي الخمسة شهور ... بعد دقائق تقدم حارس الفيلا وفتح الأبواب الضخمة ودخلت سيارة جمس كبيرة لونها احمر وأسود وهي سيارة الوالد التي عهدت.. حينما دخلت مقدمة السيارة وكان بلاط الفناء مرتفعا عن مستوى الشارع لم يظهر لي وجه الوالد.. و لكن حينما استوت السيارة رأيت وجهه .. لحيته بيضاء مختلطة بالسواد كما عهدته ووجهه عابس بل عليه علامات الغضب والانفعال.. وهذا ما توقعته بالتأكيد !! كان مشهدا مضطربا يصعب علي وصفه .. تقدمت لباب السيارة بعد أن استدار بها وأوقفها تحت المظلات .. ففتحت الباب فانكببت على يد والدي وقبلتها وقبلت جبهته .. فأشاح بوجهه عني ولم يرد السلام علي .. لم أتضايق مما فعل فأنا أستحق منه أكثر من ذلك !! لم ألاحظ أن معه شخصا آخر سوى حينما سلم علي، فاستدرت للصوت.. فرأيت أحد أصدقاء والدي اللذين يحبهم ويثق فيهم وهو الأستاذ مشرف الزهراني الأستاذ مشرف رجل عاقل ورزين ويثق والدي بنصحه ولذلك كانت صحبته للوالد ذلك اليوم من رحمة الله بي... دخلنا لغرفة صغيرة ملحقة بالفيلا حيث تضمن لنا خصوصية كاملة.. جاء الشيخ صالح حينما علم بقدوم الوالد فصافح الوالد بحرارة شديدة كما هي عادته مع ضيوفه ولم يكن يعلم بالموضوع الذي بيني وبين الوالد ، فأخذ الشيخ صالح يثني علي وعلى حرصي على العلم وأن أعظم توفيق لله لي أن جعل لي قبولا لدى إمام الأمة الشيخ بن عثيمين . لاشك أن تلك العبارات الصادقة التي نطق بها الشيخ صالح والتي خرجت منه بدون قصد حيث هو لا يعلم عن القصة أصلا ولم يخبره أحد بها ،كان لتلك الكلمات أثر في الموضوع فكأن معناها .. يا أبا محمد لا داعي للقلق فقد حفظ الله لك ابنك فليس هو كمن هم من أترابه من الشباب اللذين اشغلهم اللهو فأضاعوا دينهم ودنياهم بل إن الله هيأ لابنكم مكانا لا تستطيع أنت ولا غيرك أن يضعه فيه بل هو فضل خالص من الله عز وجل !! أحضر لنا القهوة والشاي وكنت أخدم الوالد وصاحبه ... ولم نكن نتحدث بل كان الصمت رهيبا والهدوء منذر بشر مستطير ..!! هذا ما تخيلته وتوقعته... الحلقة السادسة والثلاثون بقينا في انتظار قدوم الشيخ ولم يطل الغياب .. دلف شيخنا للمجلس فوقف إزاء الوالد فصافحه ورحب به وصافح رفيقه ثم جلسو كنت أراقب وجه الشيخ ووجه الوالد .. كان وجه شيخنا كما سبق وذكرت على محياه الهدوء والسكينة أما وجه والدي فقد كان على وجهه علامات الحيرة والخجل !! فهو محتار مما سيقول وخجل من الشيخ صاحب المقام الرفيع.. أما أنا فإنني لا يحق لي الكلام بعبارة واحدة!! فمن رأسي البليد خرجت كل هذه المصائب!! قرأت في كتاب الحيدة والذي يروي قصة المناظرة المشهورة بين أحد علماء السلف ( نسيت اسمه ) وبين بشر المريسي إمام الجهمية وذلك في مجلس أمير المؤمنين المأمون.. حيث وصف ذلك العالم كيف أنه أصابته هيبة الموقف بين يدي الخليفة بالقشعريرة والارتباك، فلاحظ ذلك المأمون وكان رجلا داهية .. فأخذ يتحدث مع الشيخ في أمور خارج الموضع الذي جاء من أجله نحو أحوال المدينة التي قدم منها وكيف الغلاء والرخص في الأسواق وهل جاءهم غيث وما حال الزرع والضرع ونحو ذلك.... يريد من ذلك كله أن يلطف الجو المشحون ويذهب الروع عنه ... وهكذا فعل شيخنا ذلك اليوم .. أخذ يتحدث مع الوالد ويسأله عن عمله وكيف أحوال الطائف وعن الأمطار ونحو ذلك كنت أرقب في وجه والدي الابتهاج.. وأخذت أسارير وجهه بالانفراج رويدا رويدا حتى إذا ما شعر الشيخ بتهيئته بدأ شيخنا في الحديث في الموضوع الأهم!! قال الشيخ : تعلمون أن الأخ فلان ( كنت أتمنى أن يناديني بالابن وأظن الشيخ تعمد ذلك لحكمة يقصدها فتأمل!!) قد جاء لعنيزة من أجل طلب العلم وقد لاحظت منه حرصا على العلم وصدقا في الطلب فقربته مني وصحبته معي في بعض أسفاري فرأيت منه ما أسرني وتأكدت من أمانته وحرصه على التحصيل العلمي.. غير انه قام أحد طلبتنا بالاتصال عليكم وتأكد من حاله وأنه هارب من بيته وجاء بغير إذن والديه فغضبت منه وحصل أن اتصلت عليكم مرارا فدار بيننا الحديث الذي تعلمه وحددنا هذا الزمان لكي نلتقي واحضر لكم ابنكم فلان لكي ترونه ونقرر في حاله ماهو الأصلح والأرشد له .. سكت الشيخ ثم بدأ الوالد في الحديث ... من عادة والدي إذا أراد الحديث الجاد أن يخلع شماغه ويضعها على حجره ويتكلمبصوت خافت وهادئ... قال : فلان فعل فعلا لم يفعله أحد من الناس ، عصاني وعصى أمه وترك دراسته وهرب من المنزل .. قاطعه الشيخ !! وقال : يا أبا محمد لا داعي أن تذكر لي ما سبق أن سمعته منك ...خاصة وأن وقتي ضيق للغاية ولدي محاضرة الليلة والناس تنتظرني في الخارج .. سوف أعرض عليك أمرا وأنت قرر ما تراه في ابنك..!! شيخنا رجل حازم ويحب الدخول في صلب الموضوع مباشرة ، ولا يحب الانشغال بتفاصيل قد تبعد عن الواقعة الحادثة لتنتقل نقدا وتمحيصا لما مضى وفات.. قال له : أريدك أن تترك فلانا عندي في عنيزة وسوف أسجله في المدرسة الثانوية لكي يكمل دراسته ، ولك علي يا أبا محمد أن أراقبه وأربيه كما أراقب وأربي أحد أبناءي وثق تماما أنه سيكون تحت رعايتي ومسئوليتي بعد رعاية الله سبحانه فلا تمنعه من العلم وطلبه.... أيها الإخوة والأخوات يصيبني الخجل وأكاد أذوب من الحياء حينما سمعت هذه الكلمات من شيخنا رحمه الله .. والله الذي لا إله سواه لم أتوقع أن يقول شيخنا ما قال ولا خطر في بالي .. حينما تقرءون سيرة شيخنا وذلك حينما انتقلت عائلته للرياض وكان شيخنا من تلاميذ العلامة الشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي فكان لزاما أن ينتقل التلميذ للرياض مع عائلته ولكن الشيخ ابن سعدي طلب من والد الشيخ محمد أن يبقيه في عنيزة حتى يستمر في الطلب .. أنا لا أقارن نفسي والله بهذين العلمين الكبيرين ولكن أحكي ذلك الموقف النبيل من شيخنا عليه سحائب الرحمة والرضوان ... لم يدر في خلدي أن شيخنا سيقول ذلك ولم يكن متوقعا ما قاله الوالد.. قال والدي وبكل ثقة واطمئنان.... مادام فلان هو في رعايتك وتحت مسئوليتك فأنا أوافق على بقاءه في عنيزة بشرط أن يكمل دراسته ويجتهد فيها ويبتعد عن رفقة السوء .. وله علي ياشيخ محمد أن أرسل له نفقة شهرية قدرها ألفين ريال .. الحلقة السابعة والثلاثون أكاد أعجز أحيانا وأقف محتارا في صياغة بعض العبارات المناسبة في توصيف بعض الأحداث !! إن لكل كلمة رنينا خاصا ولحنا مميزا ولكل عبارة وزن لا بد من مراعاة نغماته حتى تعطي الانطباع الصادق لما ترمي إليه !! بالمختصر ذلك أكبر من طاقتي !! ليتني شاعرا أو أديبا حتى أنطق بما يعتلج بدواخل نفسي ... صدقوني أيها القراء الكرام أنني حينما أتذكر تلك الأيام أو أكتب عنها .. فإنني أعيش في جنباتها كالسائل الحائر المسكين يحضر توزيع الغنائم أو الإرث!! ما ذا كان حالي تلك اللحظات ؟؟ كيف اصف مشاعري حينما سمعت ماقاله شيخنا؟؟ كيف أصف حالي حينما سمعت والدي يقول ما يقول؟؟ بكيت والله ، بكيت بكاء فرح ومرارة معا ..!! ذرفت الدمع وكاد أن يكون نهرا جاريا من دمي ... بكيت من الألم الذي اكتويت به طوال تلك الشهور التي مرت علي كقرون .. من الطائف لأبها للرياض لحائل ثم للقصيم وبينها أمور لو تعلمونها لا أخالكم تودون معرفتها !! دعوها لي فأنا لوحدي أكتوي بها وأجري على الله ... قمت لوالدي فقبلت يديه ولو قدرت لألبسته تاجا من ذهب أو سورته سوارا من ياقوت!! ولكن هل هذا ما يريده أبي ؟؟ هل يريد أبي مني جزاء أو شكورا ؟؟ ماذا يريد كل أب من ولده؟؟ إن أجمل دعاء يحب كل واحد منا عن ولده أن يقال له... جعله الله قرة عين لك ... نريد أبناءنا أن يكونوا قرة عين وكفى !! أما شيخنا محمد .. فسأبقى أبد الدهر أدعو له حتى يجمعني الله به بحوله وكرمه في جنات النعيم في مقعد صدق عند مليك مقتدر ... لم تنتهي القصة ولم أختم المقال رغم قصره سوى لأعطيكم فرصة أيها السادة الكرام أيتها السيدات الكريمات لكي تستخلصوا العبر مما مضى ..وتعلقوا ماشئتم .. وسوف ألقاكم بعد أسبوع من مقالي هذا لكي نستأنف الجزء الثاني من القصة.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته أخوكم ومحبكم مالك الرحبي أبو عبد الله.. رحلتي إلى النور الجزء الثاني الحلقة الثامنة والثلاثون سوف أستأنف ما بدأته بلا تغيير في أسلوب الطرح وسأحاول الإطالة ما استطعت لذلك سبيلا بناء على رغبة الإخوة والأخوات .. انقضى ذلك اللقاء وقمت للوالد وجلست بجواره وتحدثت معه حديثا مقتضبا حيث كان هو في عجلة من أمره .. وشيخنا قد غادرنا لمجلسه المكتظ بالضيوف .. بعد أن اتفقنا على عودتي مع الشيخ ثم التوجه للطائف بعد عشرة أيام... للسلام على الوالدة والإخوان والأخوات ومن ثم نقل مكتبتي وحاجياتي لعنيزة.. قلت للوالد : تصدق، من في المجلس مع الشيخ ؟؟ قال : من؟ قلت له : المغني محمد عبده !! تعجب من ذلك ونظر لرفيقه مستغربا .. كنت أريد من ذلك ملاطفته ،ولكنه ما زال في نفسه شيء علي .. غير أنه رحمه الله تناسى مع الأيام تلك الفعلة الشنيعة مني، وأصبحت صفحة قديمة بالية ،ها أنذا أخرجها لكم من أدراج الذكريات البالية لأنفض عنها الغبار وأطيبها بطيب الورد والمسك وأطرحها طرحا كما هي ولكن برائحة جديدة وطعم جديد!! ودعني الوالد ووضع في جيبي ألفا ريال عدا ونقدا .. فكانت في جيبي كشهادة تخرج من بيت أبي محمد .. وبالإذن لي بالانتقال لكنف شيخنا العلامة محمد بن عثيمين .. عليهما الرحمة والرضوان.... خرج الوالد من المنزل وكنت أرقبه وعيني تترقرق بالدموع.. كان المشهد محزنا لي وتمنيت أن ألحق والدي وأقول له.. لا تقلق يا أبي ... سوف أسعى بكل جهدي لأغير الصورة السيئة التي رسمتها عن نفسي .. تمنيت أن ألحقه وأذهب للوالدة العزيزة فأطيب خاطرها وأرضيها .. والتي أعلم علم اليقين أنها أشد قلقا وخوفا علي منه .. لا شك عندي أن والدي لم يكن مطمئنا علي في ذلك الحال .. فهو رجل يدرك بفطنته خطورة الموقف بل يدرك ضبابية المستقبل.. فما يدريه قد يكون كل ما رآه وشاهده وسمعه هو سراب .. أو غمامة صيف عن قريب تقشع!! والأمر بيد الله سبحانه وتعالى من قبل ومن بعد.. ها أنذا أيها الإخوة والأخوات الكرام أفتح لكم صفحة جديدة من ذكرياتي وأطوي تلك الأيام المليئة بالعذاب والشقاء .. ولكن هل انتهى كل شيء ؟؟ هل توقفت دورة الحياة ومعاناتها ..؟؟ هل مضت الأمور على ما يرام في كل أحوالها؟؟ كلا؟؟ إن الأيام حبلى بالمفاجئات .... والتي قد تكون سارة رقيقة ناعمة.... أو تكون نارا كاوية وعذابا .. تكفيرا للخطايا أورفعة في الدرجات؟؟ قد يقول قائل : لم أقدم شيخنا على هذا التصرف ..؟؟ والجواب: لا أشك أنه كان يعلم عواقب فعله ... ولكن كما سبق وذكرت ، أن شيخنا يزن الأمور بموازين مختلفة!! هذه المقاييس والمعايير ... مبنية على التقوى والخشية من الله تعالى والإخلاص له .. لا على الهوى وسوء الظن .. وبعد ذلك فليغضب كل العالمين حينها .. دعوني أروي لكم بعض الأحداث في تلك الرحلة ثم لنكمل القصة.. عدت للمجلس مع الضيوف.. وجلست بجوار عبد العزيز ابن الشيخ .. والذي لم يشعر بما حصل في تلك الجلسة لا هو ولا غيره.. سواي أنا وشيخنا ... بقي الناس يتحدثون مع الشيخ ويستفتونه .. كان فيهم جمع من مشائخ جده ومحبي الشيخ أذكر منهم ... الشيخ علي الحكمي .. الشيخ جمعان الزهراني .... الأخ علي السهلي .. الأخ عبد الهادي الحكمي ... والشيخ محمد الشميمري... وهؤلاء الخمسة تكرر حضورهم ولقائهم بالشيخ في كثير من سفراتنا لجده... وللأسف نسيت كثيرا من الأسماء التي لم تسعفني الذاكرة بهم.!! انتهت الجلسة قبل أذان المغرب وتوجهنا لجامع الأمير متعب .. حيث سيلقي شيخنا محاضرة ... كان الجمع هائلا والخلق صلت خارج المسجد من الزحام .. ألقى شيخنا تلك المحاضرة .. ثم بعد الصلاة توجه لسيارته المعدة له .. وهي سيارة الشيخ صالح الزامل .. وبالكاد وجدت فيها مكانا لي ولعبد العزيز الذي لازمته ولازمني طوال تلك السفرة... حينما توجهت السيارة لوجهتها .. تبعنا قطار من السيارات !! والتي أشك أنها كانت مدعوة للوليمة المعدة للشيخ!! كانت تلك السيارات لجمع من محبي الشيخ .. والذين لا أسميهم الطفيليين كما يدعي البعض!! ولكنهم فتية قد شغفوا بالشيخ و صاروا يلاحقونه أينما استقر وحل.. كان ذلك في بعض المواقف محرجا للشيخ مع مستضيفيه.... فيضطر أحدنا للتوقف .. لتبليغهم بلطف أن الدعوة خاصة فيتقبل الجميع ذلك بكل احترام وأدب .. فينصرفوا .. بارك الله فيهم.. توجهنا لحي الأمير فواز ... حيث كان مضيف الشيخ هو الأستاذ عبد الرحمن المحمودي.. وهو صاحب الشقة التي نزلنا بها في مكة.. نزلنا في بيته العامر.. ونزلت معنا الجموع التي لم تدعى .. رأيت الحرج الشديد في وجه المضيف من ذلك .. والذي أظن أنه لم يتضايق من كثرتهم فهو رجل سمح وكريم .. وبيته فسيح وطعامه كثير... غير أن السبب سيدركه لاحقا منكم من فطن !! بعد جلوسنا في المجلس الفسيح .. والذي غص بالحضور تحلق جمع كبير من الطلبة حول الشيخ .. منهم المستفتي ومنهم صاحب الحاجة ومنهم من جاء ليستفيد من أدب الشيخ.. فهو مدرسة متنقلة رحمه الله.. لقد كان الواحد من السلف يسافر المسافات البعيدة من أجل لقيا عالم لكي ينهل من علمه وأدبه وسمته .. وهاهم طلبة العلم من جده ومكة ونجد والمنطقة الشرقية والشمالية والجنوبية وغيرها يقتدون بسلفنا الصالح بارك الله في الجميع.. لم أكن أعرف المدعوين ولا مستوياتهم في المجتمع .. ولكن بعد فترة من الوقت دخل علينا ضيفان مميزان لم أتوقع أن سأراهم رؤيا العين ولا في أحلامي!! دخل علينا شابين وسيمين ظاهر عليهما الثراء والسلطة والنفوذ!! إنهما الأمير سعود بن فهد بن عبد العزيز .. والأمير عبد العزيز بن فهد بن عبد العزيز .. ابنا الملك!! وجلسا بجوار شيخنا عليه الرحمة والرضوان.. كان شيخنا يتكلم معهما بكل بساطة ودون تكلف .. فأعطى ذلك انطباعا عن شيخنا يفهمه الجميع!! كان الأمير عبد العزيز صامتا طوال الجلسة تقريبا .. ويظهر أن هذا من طبعه أو بسبب وجود أخيه الذي يكبره .. أما الأمير سعود فيظهر أنه كوالده وفقه الله يتحدث بطلاقة وفيه فصاحة ويحب التحدث مع الحضور بلا تحفظ.. كان الشيخ عبد العزيز الغامدي صاحب مشروع الزواج حاضرا .. وكان يداعب الأمير سعود بضرورة أن يبحث له عن زوجة شابة تكون ضرة من ضرات أهله!! فكان يحاول الفكاك منه وتصريفه .. ويشيح وجهه عنه.. ولكن الأخ عبد العزيز رجل ملحاح يريد تزويج خلق الله جميعا.. حتى شيخنا لم يسلم منه!! وبالكاد خرج الأمير من مقصلة عبد العزيز الغامدي.. الأخ عبد العزيز لديه مشروع كبير لتزويج الشباب والفتيات .. والراغبين في التعدد.. وسمعت عن مشروعه كثيرا منه ومن غيره .. ولا أدري هل ما زال يعمل في هذا المجال أم تغير حاله.. ذات مرة حضر الأخ عبد العزيز رحلة قمت بتنظيمها لمجموعة من ضيوف ولي العهد الأمير عبد الله بن عبد العزيز .. وهم من إحدى الدول الأوروبية وحضر برفقة عدد منهم زوجاتهم.. وكان معنا صحفي من جريدة عكاظ وعدد من المصورين .. طلب الشيخ عبد العزيز أن يلقي كلمة للضيوف .. فتحدث وكان يترجم له أحد دعاتنا المرافقين بلغة القوم.. ولكنه سامحه الله حور موضوع الكلمة وبدء بالحديث عن تعدد الزوجات.. وكان صوته مرتفعا ويصل لزوجات الإخوة .. فسمعنا فرقعة الصحون ورمي الكاسات من خلف الباص الذي كن يجلسن فيه.. وضرب الأبواب!! حتى يصمت هذا الزائر المزعج.. ولكنه استمر في حديثه .. فخرج النسوة من الباص .. وابتعدن عن المجلس .. والحمد لله أنهن لم يحصبننا بالحصى!! ولا شك أن أزواجهن دفعوا ثمن تلك المحاضرة لاحقا!! الحلقة التاسعة والثلاثون انتهت تلك الجلسة الممتعة وخرجنا من بيت الأستاذ عبد الرحمن المحمودي.. وتوجهنا لبيت مضيفنا الشيخ صالح الزامل.. تلك الليلة لها مذاق خاص وطعم خاص.. لقد تغيرت حياتي تماما ذلك اليوم.. لقد انتهت تلك المحنة التي صارت كالسيف المصلت على عنقي والذي كنت أنتظره أن يدنو يوما من عنقي فيقطعه !! ولكن الله تعالى بدل حالي وغير مجرى حياتي .. لقد كان لتلك الليلة بحق وذلك اليوم وضع فريد لي.. فلقد قابلت أبي .. ورآه شيخنا .. وأرضاه وأقنعه ببقائي عنده تحت رعايته ومسئوليته وحلت عقدة هروبي وانتهت بلا رجعة والحمد لله.. أصبح بقائي للدراسة عند الشيخ شرعيا.. زادت ثقتي بنفسي.. وقويت عزيمتي .. وارتفعت همتي.. ووضح مقصدي وهدفي.. وتغيرت ملامح وجهي !! فكان وجه الواثق لا وجه الخائف المرتاب!! وبدأت من تلك الليلة تكوين شخصيتي الجديدة.. شخصية الطالب المجد الواثق من أصله ونسبه ونفسه !!! فهذه نعم تترى ومنن جليلة أعجز عن شكر الخالق سبحانه عليها مدى عمري فله الحمد وحده والثناء ... عدنا فوجدنا مكان النوم معدا لنا جميعا.. أنا وشيخنا وعبد العزيز في غرفة سويا.. والإخوة الآخرون في غرفة مجاورة.. حتى شيخنا رحمه الله شعرت منه تلك الليلة تبدلا وتغيرا .. فرحا بانتهاء مشكلتي مع الوالد ... كنت ألهو مع الأخ عبد العزيز وأريه بعض التمارين الرياضية وهو تمرين الضغط برفع الجسم بالاعتماد على اليدين!! فلمحنا الشيخ .. فجاء إلينا وقال: ماذا تفعلان؟؟ فقلنا: نتدرب !! فقال: ألا تريداني أن أتدرب معكما ؟؟ تبادلت النظرات مع عبد العزيز .. فانحنى الشيخ ولم ينتظر جوابنا.. وضغط وعجزنا أن نجاريه في ذلك!! شيخنا من رآه ولم يخبر طباعه ويعاشره فإنه يخشاه ويمتلئ قلبه مهابة منه.. ولقد رأيت أشخاصا يتحدثون مع الشيخ والعرق يتصبب من وجوههم هيبة منه .. ولكن من عرفه وعاشره وعاش قريبا منه .. يرى شخصية أخرى مختلفة وفريدة .. تلزمك بمحبته والإعجاب بشخصه... شخصيته جمعت بين الحزم واللين.. و جمعت بين المهابة والجلال والرحمة واللطف .. وبين الشجاعة والسماحة.. وبين علو الهمة والتواضع .. وبين الجد والمرح.. و جمعت بين الفصاحة وحسن المنطق والتبسط في الحديث.. هو بشر ككل البشر .. يصيبه ما يصيبهم .. يغضب ويحزن ويتألم .. ويضحك ويمزح ويمازح.. ولكن الله تعالى وهبه علما كالجبال وإيمانا وخلقا وعقلا راجحا.. ووفقه وهداه .. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.. طلبت من الشيخ تلك الليلة أن يوقظني معه لصلاة الليل .. من عادة الشيخ أن ينام على الأرض ..دون مراتب أو أسرة.. وذلك في كل أسفاره ... وكنت أفعل مثله واعتدت على ذلك.. فهو لا يطلب سوى وسائد يضعها تحت رأسه.. يخلع عمامته ثم يقوم بتمريرها على الأرض ثلاث مرات ثم يقرأ أذكار النوم وينفث على يديه ويمسح بها على جسده كما هي السنة.. ثم يلف عمامته على وجهه ولا يخلع ثوبه .. ويستلقي على يمينه ثم ينام.. يستيقظ شيخنا على جرس ساعته المنبهة التي يحملها دوما في أسفاره وذلك قبل الفجر بساعة تقريبا.. أوقظني تلك الليلة .. فتوضأت .. وصليت الوتر سريعا.. وجلست أراقب الشيخ ماذا يفعل.. صلى ركعتين خفيفتين.. ثم صلى خمس ركعات تقريبا .. وأتم القراءة فيها والركوع والسجود.. وختمها بقنوت طويل بتبتل وخضوع.. حتى أذن الفجر... حينما ختم وتره رفع صوته بالذكر.. سبحان الملك القدوس ثلاث مرات.. يمد بها صوته كما هي السنة.. صلينا الفجر ثم عدنا للمنزل فنام حتى وقت الضحى.. استيقظنا وأفطرنا ثم توجهنا لاستكمال برنامج الشيخ.. مكثنا في جده يوما أو يومين نسيت ذلك!! ثم رجعنا للقصيم... وصلنا للمطار فاستقبلنا الشيخ خالد المصلح نسيب الشيخ.. وفي الطريق أوقفنا كما هي عادة شيخنا أمام أحد مساجد عنيزة وصلى فيها ركعتي القدوم من السفر... أنزلوني أمام سكن الطلاب وتوجه شيخنا لبيته.. حضرت الدرس ذلك اليوم .. ولكن بوجه جديد وعزيمة كالحديد!! تفاجأ جاري بوجودي .. شعرت بذلك ولو لم أبصره بعيني!! من خلال حركاته وارتباكه ثم صمته ... والله شاهد سبحانه.. ومطلع عما عزم عليه.. عدت لبرنامجي المعتاد .. واشتريت كتبا حديثة الطبع.. وحصلت بالمجان على كمية لا بأس بها من الكتب والمراجع المهمة.. حيث خاطب الشيخ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بطلب كتب لي من مطبوعات الجامعة .. فبعثوا لي كراتين مليئة بالمجلدات الفاخرة من مطبوعاتها ومنها درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية.. ومنهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية أيضا .. ومجموع الفتاوى له وغيرها مما لا يحضرني.. انتقلت لغرفة أخرى وذلك بأمر شيخنا .. حيث اختار لي أن يكون زميلي في الغرفة الأخ محبوب الباكستاني وهو من خيرة طلبة شيخنا خلقا وأدبا وعقلا .. كان يحضر الدكتوراه حينها في مادة الحديث فكانت صحبته ومرافقته مكسبا ثمينا لي.. غير أنه كان كثير الأسفار لمدينة الرياض لمتابعة شئون رسالته .. فكنت أبقى في أحيان كثيرة لوحدي.. وضعت لنفسي برنامجا صارما تحت إشراف شيخنا .. مليء بالحفظ والمراجعة وكتابة البحوث والقراءة ونحوها.. وكنت كلما أشكلت علي قضية أو مسألة دونتها في أوراق عندي ثم أقرأها على الشيخ وأسجل أجوبته بعد الصلوات فيفك طلاسمها بكل براعة ويحل عقدها بكل ثقة .. بخصوص الدراسة النظامية وبما انه قد مرت فترة طويلة على ابتداء الفصل الدراسي فقد أخرت الالتحاق بالمدرسة حتى الفصل التالي حيث يسمح النظام الثانوي المطور بذلك... مما منحني فرصة الانصراف الكامل لطلب العلم في حلقة الشيخ... ذات مرة أخبرني الشيخ بأن أمير القصيم وهو الأمير عبد الإله بن عبدا لعزيز سوف يقدم لزيارة سكن طلاب الشيخ.. حضر الشيخ للدرس تلك الليلة كما هو المعتاد.. ولم يتغير من نمط الدرس شيء.. سوى أن المنطقة المحاطة بالجامع قد اكتضت بالعساكر والشرط استعدادا لقدوم الأمير...
    7 "




  6. كود:
    في خلال الدرس دخل أحد رجال الشرط وتقدم إلى الشيخ وهمس في أذنه.. فقال شيخنا... ورفع بها صوته: بلغ الأمير أن يتفضل في المسجد ويحضر الدرس ...!! خرج رجل الشرطة من المسجد .. ورجع مرة أخرى وعلى وجهه علامات الخوف والوجل والتحرج .. فهمس مرة أخرى في أذن الشيخ .. فقال شيخنا للطلبة: انتظروني قليلا وسأرجع.. وخرج حافيا وسلم على الأمير وطلب منه حضور الدرس مع الطلاب حيث أنه لا يستطيع قطع درسه !! دخل الأمير وحاشيته وحرسه وتسننوا في الصف الأول وجلسوا لاستماع الدرس.. وانتظار الصلاة.. استكمل شيخنا درسه الأول والثاني بعد الأذان كما هي العادة.. ثم صلينا العشاء... بعد الصلاة نادى علي الشيخ ...!! وكنت كما هي عادتي أصلي بجوار المؤذن.. فتقدمت إليه .. وقال لي : اذهب وانتظرني في غرفتك فسوف أزورها مع الأمير!! نظرت في وجهه وبحلقت فيه !! فقال: هيا انطلق..!! انطلقت كالمجنون لا الوي على شيء ولا ادري ماذا افعل.. صعدت لغرفتي وقمت بكنسها وترتيبها وتطييبها .. ولكن لا يصلح العطار ما أفسده الدهر!! خجلت وتمنيت أن يصرف الشيخ الأمير لغرف أخرى أحسن حالا وتنظيما وأكثر بهاء .. تجول شيخنا مع الأمير في داخل السكن.. وأراه المكتبة وقاعة الطعام المتواضعة.. ثم صعدا للدور الثالث ثم للرابع حيث أنا في انتظارهم.. دخل الأمير وهو ممسك بيد الشيخ.. وخلفهما حشد هائل من الناس والعسكر ... ووقفا باب غرفتي الصغيرة ..!! وتجول الأمير بنظره فلم ير شيئا يستحق النظر سوى عدد من الكتب والدفاتر وعدة الطلب!! فقال لي الأمير ... ما اسمك؟؟ فقلت : فلان بن فلان الفلاني.. دون تردد ووجل!! فقال: ونعم فيك !! فرددت تحيته .. ثم قال : اجتهد في العلم..وفقك الله.. وانصرفا .. الحلقة الأربعون أحاول في سرد قصصي ورواياتي هنا أن أحشر مواقف ومناقب عن شيخنا بين العبارات والكلمات كلما وجدت ذلك سائغا.. ذكرت منذ بداية قصتي أنني سأروي موقفا واحدا لشيخنا!! ومن خلال السياق بعثرت عددا من القصص والشواهد مما يزيد حبكة الموضوع ويعطي له نكهة خاصة.. ويوصل رسائل وانطباعات اقصدها وتفيد القراء الكرام.. أما بالنسبة عن شخصي فليس لدي شيء يستحق الذكر سوى ما يمر بي من مواقف مع الشيخ والتي هي صلب الموضوع .. لاحظت عددا من المتابعين للقصة يطلبون مني الاسترسال في الحديث وأنا أتفهم أن القصد من ذلك معرفة حياة الشيخ محمد بن عثيمين كما رأيتها وعاصرتها.. وهذا موضوع أوسع وأشمل مما يتصور أولئك و لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله...!! لذلك سوف يختلف البرنامج قليلا .. سأحرص على استكمال قصتي حتى النهاية وكلما سنحت لي فرصة لذكر منقبة أو موقف سوف اذكرها وأسترسل أحيانا ..!! فأرجو أن لا يصيب ذلك إخوتي القراء بالملل .. فهي لا تخلو من فوائد وعبر هداني الله وإياكم صراطه المستقيم.. مع أن الذاكرة أحيانا تخونني .. لبعد الزمن وكثرة المشاغل .. والله خير معين سبحانه.. أرجع لقصتنا.. بعد مرور حوالي عشرة أيام من عودتنا من جده .. كلف الشيخ الأخ محمد زين العابدين والأخ محبوب والأخ بندر الحربي بالسفر معي للطائف لكي أحضر مكتبتي وحاجياتي.. نزلنا بسيارة الأخ بندر حيث هي من نوع النيسان الداتسن ذات الأربعة أبواب.. .. وتوجهنا للطائف من طريق عفيف.. وهو طريق طويل وممل ولكن صحبة هذه الرفقة الصالحة .. تنسيك تعب السفر ومشقته.. حدثنا الأخ محمد عن ذهابه للجهاد في أفغانستان .. وروى لنا قصصه ومشاهداته هناك ومما أذكره أنه في أحد الليالي المظلمة .. وكان مع مجموعة من المجاهدين العرب والأفغان... طاردتهم طائرة روسية.. وقصفتهم بالمدافع والصواريخ حيث أن معهم عددا من الأسرى الروس وشيوعيون أفغان.. وروى كيف أنهم تمكنوا من إسقاط تلك الطائرة بصاروخ موجه.. بعد عناء وإثخان فيهم.. من العدو.. أذكر أيضا ما رواه لنا الأخ محبوب عن طلبة العلم في باكستان.. وكيف أنهم يجدون المشقة الهائلة في تحصيل العلم والوصول إلى الشيوخ الثقات .. وما يواجهه الطالب من عقبات من أهله وجماعته الذين قد يخالفونه المعتقد أو النهج.. وكيف أنتقل من العقيدة الضالة والمبتدعة لعقيدة السلف .. وازدادت رسوخا بعد قدومه للمملكة.. وقال : إن أكبر نعمة حصلها هو تمكنه من طلب العلم في حلقة شيخنا عليه الرحمة والرضوان.. ويغبطه أنداده على ذلك .. كان انطلاقنا من القصيم بعد صلاة العصر تقريبا .. وسرنا أغلب الليل. .. ووصلنا لضواحي الطائف بعد منتصف الليل.. كان الحديث مع الإخوة ممتعا غير أنهم كلما صمتوا .. أتضايق من التفكير مما قد يحدث... وأتذكر أنني متوجه لرؤية عائلتي.. فافتح بابا للحديث فينشغل فكري عما أنا مقدم عليه.. لم أكن أحب أن أتخيل ما سيحدث.. لا شك أن عائلتي قد وجدت في نفسها علي .. مما فعلته.. خاصة وأنني لم أتصل بهم شهورا عديدة.. فأنا أبنهم وحق علي أن لا أقاطعهم .. وأصلهم واتصل بهم.. وهذا مافعلته بحمد الله بعد ذلك طوال بقائي في القصيم.. حينما اقتربنا من حينا أصابتني كآبة وخوف وارتباك.. وهو أمر طبيعي جدا... فالمرء حينما يطول بعده عن أهله وذويه بسفر أو غياب لأي سبب كان ،تصيبه نوبة من الارتباك والتردد.. قبيل ولوجه دارهم أو ينزل حلتهم.. هذا فيمن حاله طبيعية وفي أمر معتاد؟؟ أما حالي فهو معقد للغاية ، فالوطأة أشد والخوف والتردد أعمق..!! حينما وصلنا قريبا من حينا .. دارت في ذاكرتي تلك الأيام الخوالي.. تذكرت لحظة الهروب من البيت.. وكيف أنني خرجت من البيت خائفا أترقب... وهاأنذا أعود الآن وكلي أمل لعهد جديد وصفحات مجيده إن شاء الله سبحان من يبدل الأحوال .. طلبت من الأخ محمد أن يتوقف قليلا لنستريح من عناء السفر.. ويأكل الإخوة شيئا .. وكان مقصدي في نفسي أن أهيئ فؤادي وعقلي لمقابلة العائلة.. تضايق الأخ محمد من ذلك وكان يرغب أن استضيف الإخوة في بيتنا.. وكلامه مقبول ورأيه أسد.. فهو من سلالة كرام وأهل نخوة وشهامة.. فلا يرضى الواحد منهم أن يطعم الضيف سوى في بيته ومن طعامه ولكن وضعيتي وحالي مختلفة للغاية .. فعاداتنا وتقاليدنا ونخوتنا لا تقل عنهم والحمد لله .. يقول الفقهاء.. الحكم على الشيء فرع عن تصوره!! ويقولون أيضا.. مراعاة الحال ، والحكم على شواهد الأعيان كل بحسبه .. فما كنت أحب أن أشغل عائلتي أو أشعرهم بتكليف.. خاصة لطول الغيبة ولخصوصية وضعي.. على كل..استرحنا لفترة من الزمن.. ثم طلبت الهاتف من صاحب المطعم .. فاتصلت على البيت.. فردت علي الوالدة.. فرحبت بي وسرت بسماع صوتي وكأن شيئا لم يحدث!! رضي الله عن والدتي وعفا عنها وجعلني معها في فردوسه الأعلى.. قلت لها سنقدم عليكم بعد قليل .. وسوف ننقل المكتبة فورا في السيارة..!! قالت : ألن تباتوا عندنا؟؟ فقلت لها: لا أريد أن أكلف عليكم والإخوان يرغبون الرجوع من غد!! فقالت : باتوا عندنا الليلة والصباح رباح!! توجهنا للبيت .. واستقبلنا الوالد.. فرحب بي وبالضيوف .. والحمد لله كانت نفسيته ممتازة ولم أرى منه أي تضايق أو انزعاج.. خاصة أن شيخنا بعث معي برسالة للوالد هذا مضمونها.. الأخ المكن ............. حفظه الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد.. فأريد أن أبشركم أن ابنكم فلان مجتهد في دراسته وطلب العلم ومحافظ على صلاة الجماعة خلف الإمام.. الخ.. وقد بعثته إليكم لكي يحمل مكتبته ويسلم على والدته.. ويحضر ملف الدراسة لكي يكمل دراسته الثانوية.. ثم دعا الشيخ لي وللوالد جزاه الله عني خير الجزاء.. وأحتفظ بعدد من رسائله للوالد عندي .. رحمهما الله.. سلمت على أمي وإخوتي جميعا ... اشق شيء في السفر الطويل والانقطاع عن اهلك وأحبابك هو أن تنزل عليك الأخبار جملة واحدة وقد يكون بعضها مرا وموجعا ولذلك أحرص دوما أن اتصل على أهلي باستمرار خوفا من مرارة الفواجع دفعة واحدة!! فاجئني مرض أحد إخوتي الكبار بمرض قريب من الصرع !! حيث أصيب بمس أو عين .. فما استطعت الحديث معه أو افهم حاله.. فهو لا يكاد يعقل !! سألت الوالدة عن أمره؟؟ فقالت: والله هو كما ترى ، وما تركنا مستشفى ولا عيادة إلا وعرضناه عليهم ، استمرت حالة أخي كذلك لعدة شهور .. ولكنه تعافى وعادت له صحته وهو الآن سيد نفسه وله ذرية وشأن!! اجتمعت بالعائلة أخيرا .. لقيت العمة .. التي وقفت معي في محنتي.. وقلت لها: الحمد لله فقد أوفى الله بظني ونجوت!! فضحكت وفرحت .. جلست مع إخوتي الصغار الذين اشتقت لهم كثيرا.. وخاصة أختي الصغرى التي أحبها حبا لا يعلمه إلا الله تعالى وما زلت.. وكم تألمت لفراقها وللبعد عنها فالحمد لله الذي جمعني بهم جميعا.. وجدت كثيرا من كتبي وأغراضي معدة لي عند باب البيت بناء على طلبي.. لم يشق علينا تكديسها في مؤخرة السيارة وبالكاد وسعتها.. بات الإخوة في المجلس.. وسهرت طوال الليل مع الوالدة والعائلة .. حيث كان يوم خميس ... بعد صلاة الفجر ودعت العائلة .. وتوجهت مع الزملاء لمكة لأداء العمرة .. أدى الأخوة العمرة وبقيت أنا في السيارة أحرس متاعنا وكتبي.. ثم رجعنا للقصيم ووصلنا قريبا من العشاء.. أوقفنا السيارة .. وناديت على عدد من الزملاء.. ليعاونونا في نقل الكتب للغرفة .. التي أمتلاءت أدراجها أخيرا بالكتب!! لم أنم تلك الليلة من الحماس.. ورتبت غرفتي ورصصت كتبي في مواضعها حتى أذن الفجر.. نزلت للصلاة .. وانتظرت شيخنا أمام باب المسجد .. فجاء للمسجد وهو حاف !! ويضع أعلى عباءته على رأسه.. قبل أن يدليها على كتفه قبيل دخول المسجد.. قبلت يديه ورأسه.. وليتنا قبلت قدميه .. فله الفضل علي بعد الله في انطلاقتي الجدية .. جزاه الله عني وعن المسلمين خير الجزاء... الحلقة الواحدة والأربعون سألت شيخنا رحمه الله يوما ... ما خير وسيلة وأقصر طريق لتحصيل العلوم وخاصة علوم الفقه..؟؟ قال: عليك بالقواعد والأصول... قلت له : وأين أجد تلك القواعد والأصول؟؟ فقال: يصعب أن تجدها جميعا كلها في كتاب واحد .. ولكن عليك بالتنقيب في كلام الفقهاء والعلماء الأصوليين.. وستجد في تعليلاتهم واستدلالاتهم كثيرا من القواعد الجامعة لفروع المسائل أو الأصول التي تبنى عليها الأحكام.. اشتغلت بجمع تلك القواعد والأصول من كتب الفقهاء والأصوليين ومنها كتب ابن قدامة المقدسي.. كالإقناع والكافي .. ورجعت لكتب القواعد للحافظ ابن رجب والحافظ السيوطي وكذلك لكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم .. ومن أكثر الكتب التي استفدت منها بمشورة شيخنا شرح العمدة للحافظ ابن دقيق العيد الشافعي المالكي!! وكذلك فتح الباري للحافظ ابن حجر .. والمجموع شرح المهذب للنووي.. ومنها أضواء البيان للشنقيطي ومذكراته في الأصول.. كنت اقرأ وأراجع تلك الكتب ثم أدون تلك التعليلات والقواعد وفي اليوم التالي أقرأها على الشيخ وأسجل تعليقاته وتفصيلاته لها ويفرع عليها قواعد أخرى يسردها شيخنا على السليقة دون مراجعة وتردد ، مما حيرني في عقلية وسعة إطلاع هذا العالم الجليل.. رحمه الله رحمة واسعة.. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.. سألته ذات مرة : ياشيخنا هل تراجع أو تحضر لدروسك؟؟ فقال : الحمد لله العلم أحمله في صدري ،ونادرا احتاج للمراجعة!! ولقد شهدته مرارا ينقل من حافظته مسائل ونصوصا يحتاج الواحد من للبحث فيها والتحرير عنها دهرا ،يسوقها الشيخ ببيانه الشافي بكل ثقة واقتدار.. من صدره بالنص والكمال!! كما ذكرت سابقا مرت علي فترة من الهدوء من قبل صاحبنا العتيد!! ولكنه لم يصبر ولم يطق الانتظار حيث ظن ذلك المسكين أن البساط سيسحب أو كاد أن يسحب من تحته وما درى أن شيخنا قلبه سيسع الجميع لو كنا نعقل أو نرشد!! فاجأني ذات مرة أن لحقني وأنا خارج من المسجد ونادى علي!! فالتفت إليه .. فما صدقت نظري ؟؟ انه صاحبي ذاته؟؟ ابتسم في وجهي ابتسامة لا أكاد أميزها!! وقال لي : كيف أحوالك وما هي أخبارك؟؟ فقلت ك أنا بخير حال والحمد لله ... لم يطل الحديث معي بل كان يريد أن يعطيني انطباعا معينا ونجح فيه!! لمن يفهم ما اعنيه!! انصرف فبقيت واقفا حائرا لا اصدق ما جرى.. هل من المعقول أن الرجل عاد لرشده ؟؟ قلت في نفسي: لا يستغرب ذلك من طالب علم في مثل مستواه .. يعلم الله تعالى شدة فرحي بما حصل واستبشاري بذلك.. وظننت أن ذلك هو نهاية تلك المآسي التي لا تليق بطلبة العلم خصوصا على سمعة شيخنا رحمه الله.. في اليوم التالي بادرته أنا بالسلام في صلاتي الفجر والظهر.. كان قصدي أن استوثق من الرجل هل ما فعله حقيقة أم أنه كيد ؟؟ جاءني بعد صلاة العصر وقال لي: هل ممكن ترافقني لفنجان قهوة في بيتي؟؟ قلت : لدي برنامج مع الشيخ... ولكن لأجلك سأذهب معك!! ركبت معه على سيارته .. وأنا فرح بهذا التقدم الغير متوقع!! وقطعنا الطريق لبيته الواقع في أطراف عنيزة.. كان يتحدث ويتبسط في الكلام ويبتسم ويظهر السرور والفرح.. مما زاد وثوقي واطمئناني.. وما كنت أعلم أنني كالشاة تسقى وتطعم العلف وهي تساق لسكين الجزار !! وصلت لبيته ، وهو منزل عائلته وكان شبه خال !! دخلنا المجلس .. ولم يقدم لي القهوة والشاي كما هي العادة بل تحول الحديث بشكل مفاجئ..لتحقيق وتدقيق ..!! ولكنه كان من النوع الهادئ ولم يكن عاصفا أو مدويا!! ولم أفهمه أنه كذلك إلا حينما قال لي : أريدك أن تفرغ كل مافي جيبك من أوراق !! قلت له : لماذا ؟؟ قال: أفعل ما أطلبه منك !! أخرجت ما في جيبي من أوراق فبعثرها وفتش فيها ودقق فقال : أخرج كل مافي جيبك ؟؟ فقلت : لا يوجد شيء سوى مناديل وأقلام..؟؟ قال : أخرجها!! أخرجتها حتى لم أترك شيئا في جيبي!! لم افطن لمقصده حينها!! فتش في تلك الحاجيات وبحث فما أشفى ذلك غليله ونهمه!! فقام إلي وأخذ يفتش جيوبي بنفسه ورفع شماغي عن رأسي وانزلها !! قلت له : عماذا تبحث يافلان؟؟ قال : لا يعنيك!! قلت : وكيف لا يعنيني؟؟ قال : أنت تخفي شيئا ولا ادري أين وضعته.. ولكن سوف أجده يوما!! ثم أمرني بالخروج معه من المنزل .. خرجنا وكان وجهه مسودا من الغيظ وهو كظيم ويكاد يفتك بي!! ركبت للسيارة وأنا خائف منه .. ولم نتكلم حتى اقتربنا من السكن .. عندها دار في فكري شيء...!! وفهمت ماذا يقصد وعماذا يبحث!! قلت له : يافلان أما آن لك أن تعقل !! أنت أحضرتني لبيتك وفتشتني وأهنتني ماذا تريد من ذلك؟؟ سكت ولم يجبني !! قلت له : هل تظن أنني سحرت الشيخ وأنني اخفي السحر في جيبي؟؟ فالتفت إلي ونظر في عيني وكاد أن يوقف السيارة ولكنه نظر أمامه ولم يتحدث بكلمة واحده!! نزلت من سيارته وأنا خائر وحزين من فعل هذا الخائب.. ترددت في الاتصال على شيخنا .. هل أخبره بما فعل ذلك الرجل؟؟ لم أصدق والله أن بلغت به الظنون هذا الحد!! هل ياترى لو أخبرت الشيخ سيصدق؟؟ أليس من المعيب أن اشغل شيخنا بتلك التفاهات؟؟ خاصة بعد انتهاء مشكلتي مع الوالد قريبا.. حضرت الدرس تلك الليلة وأنا لا أكاد أشعر بما هو حولي .. بعد صلاة العشاء انتظرت الشيخ .. فسألني أين كنت اليوم؟؟ فقلت له : ذهبت مع فلان في بيته!! فتعجب وقال : مع فلان؟؟ صحيح؟؟ كأنه فرح بذلك .. ثم ناولني عباءته ودخل لدورات المياه .. حيث سيذهب بعد ذلك لزيارة إحدى قريباته كما هي عادته.. لم يكن لدي فرصة للحديث معه أو إبلاغه بما فعل صاحبنا معي.. في اليوم التالي .. لم أقابل الشيخ لصلاة الفجر ولا الجمعة ذلك اليوم... حيث كنت تعبانا وكسولا ومتضايقا للغاية .. رأيت الشيخ من نافذة غرفتي وهو خارج من المسجد من صلاة الجمعة ومعه جمع من الناس ومنهم صاحبنا ذاك!! بعد صلاة العصر .. مشيت مع الشيخ وقرأت عليه عددا من القواعد.. وحينما اقتربنا من منزله وكنت وحيدا مع الشيخ .. لاحظت صاحبنا يسير بسيارته ويراقبني.. حيث مر بسيارته من أمام منزل الشيخ.. سلمت على الشيخ ثم رجعت للسكن.. وفي الطريق بدر لي أن ارجع للشيخ وأحدثه بما تم بالأمس.. فرجعت لبيته .. وطرقت الباب ... فرد علي أهل الشيخ .. فطلبت منهم أن ينادوه... فقالو لي: انتظر قليلا... حينها .. مر صاحبنا بسيارته مرة أخرى فرآني واقفا أمام بيت الشيخ.. فأوقف السيارة و ترجل منها وتوجه نحوي.. فاقترب مني .. وصرخ في وجهي .. وقال: ماذا تفعل هنا ؟؟ هيا أغرب عن وجهي ؟؟ فقلت له : أنا أمام بيت الشيخ ، وليس بيتك وهذا ليس من شأنك!! فرفع يده فجأة.. ولطمني على وجهي بشدة فسقطت على الأرض.. وتبعثرت أوراقي ومسجلي.. فحمل المسجل وضرب به على وجهي فسقطت مرة أخرى ثم رمى به على جدار منزل الشيخ فتكسر ولم يعد ذا نفع.. ثم دفعني بشدة وعنف وقال : هيا اذهب وإلا فعلت بك وفعلت!! حملت متاعي وأوراقي المبعثرة وتمنيت أن يخرج الشيخ فيرى ما حصل بعينه.. ورجعت للسكن وأنا أبكي من الألم والحسرة.. سبحان الله.. أهكذا العلم وهكذا حال طلبة العلم؟؟ وممن ؟؟ من أقرب الناس للشيخ ؟؟ واعيباه وفضيحتاه على العلم وطلبته!! والله الذي لا إله سواه إنني أتحدث لكم ولا أكاد اصدق ما حدث وجرى دخلت على سكن الطلبة وطلبت من علاء الدين أن يعطيني هاتفا.. فقال لي: مالذي حصل لوجهك؟؟ فقلت : دعني ياعلاء سأخبرك لاحقا.. فقال : إن هاتفي يستقبل ولا يمكن الاتصال منه.. ولكن اذهب لتلفون المكتبة فيمكنك الاتصال منه.. دخلت على مشرف المكتبة وهو الأخ عبيد الله الأفغاني وهو من أصحابي القريبين جدا مني.. فاستأذنته للاتصال على شيخنا لأمر هام... فتفهم الأمر وعرف أن هناك كارثة حصلت معي!! فاسـتأذنته أن أخلو بالتلفون .. لم أكن ارغب أن يسمع الطلاب تلك المهزلة والفضيحة.. فخرج من المكتبة ولم يكن حينها سواه ورد الباب خلفه.. فاتصلت على تلفون الشيخ الخاص.. فردت علي أهله وحولتني للشيخ... حينما سمعت صوته ، انفجرت باكيا ولم أستطع أن أنطق جملة واحدة مفهومة .. فقال لي: .. اهدأ وحدثني بما حصل ... فرويت له القصة وما فعله طالب العلم ذاك معي.. فاسترجع شيخنا ، وعرفت الغضب والحيرة من صوته .. وقال لي: سوف أرى مالذي سأفعله مع هذا الرجل.. ثم أغلق السماعة .... الحلقة الثانية والأربعون لم أحضر الدرس ذلك اليوم من الخوف والحياء.. ولم أخرج من غرفتي طوال ذلك اليوم وحتى اليوم التالي .. صليت الظهر مع الشيخ ثم لحقته بعد الصلاة.. وكان الشيخ واجما ويستمع لأسئلة الناس حتى انتهوا وبقيت أسير وحدي معه.. كانت الحيرة والغضب واضحة عليه.. لا شك أنني أردت منه أن ينصفني من ذلك الطالب المعتدي.. فهو حق لي .... ولكن ما معنى ذلك؟؟ سيكون في ذلك فتحا لباب الأقاويل في الشيخ وطلبته حينها.. وهو مؤذ للشيخ ... وهذا شيء لا أرضاه البتة .. حتى ولو أدى ذلك لأذيتي والتعدي علي مرارا والله.. ومالذي يضيرني لو تحملت في ذات الله تعالى وطلب العلم أذية ؟؟ فقد أوذي وضرب وشتم وتعدي بل وقتل من هو اشرف مني وخيرا وأتقى عند الله تعالى.. لم يطلب مني شيخنا شيئا ولم ينهني عن شيء ولم يخبرني مالذي جرى بينه وبين ذلك الطالب.. ..ولا أشك انه استدعاه واستوثق منه ما فعله.. فهو رجل قريب من الشيخ وهو طالب مجتهد في العلم إن لم يكن اعلم طلبة الشيخ في بعض العلوم!! فأي عار سيجلبه ذلك الرجل لنفسه ولشيخه ولحلقته ولطلبة العلم لو أشيع الخبر حينها؟؟ لو طلب مني الشيخ أن أصبر وأصمت لفعلت ولكن سيبقى في نفسي شيء!! ولو أمرني بفعل شيء نحو أن أشتكيه أو شيخنا فعل ذلك لكانت كارثة!! لذلك سكت الشيخ وكأنه يشير لي أن القرار راجع إلي!! ولا أدعي والله أنني كنت راشدا حكيما في أفعالي حينها.. ولكنني كظمت غيضي وفوضت أمري لله سبحانه.. وصمت ولم أشتكه للشرطة أو أي جهة تحاسبه.. وأنا أحمد الله تعالى أنني فعلت ذلك .. فمنذ تلك المشكلة وأنا أشعر في نفسي أنني جزء من عائلة هذا العلم الشهم الكريم الذي آواني وكفلني .. فالحمد لله أنني لم أضيق صدره بشيء أو أن أفتح له بابا للمشاكل.. ولكن هل ارتدع ذلك الرجل السفيه عن غيه وعقل وتاب عما فعل.. دعوني أكمل فصول الرواية وأحداثها وستعرفون مالذي حدث!! كما سبق لم يطلعني الشيخ عما جرى بينهما.. ولكنني أدركت بعض الأمور من خلال تصرفاته.. والتي من خلالها نستطيع استنباط ما يجري.. حيث انقطع رفيقنا عن الدروس لفترة طويلة !! وتوقف عن القراءة على الشيخ في درس العصر.. بل لم يعد يصلي خلف الشيخ في المسجد كما هي عادته.. ورأيت بينه وبين الشيخ جفوة .. وأنا لم آمر بذلك ولم تسئني !! كما قال أبو سفيان رضي الله عنه.. !! فبعد فعلته معي صرت لا أطيق رؤيته ولا أطيق مجاورته .. وحينما رجع لحضور الدرس بقي سنوات يحضر الحلقة دون أن ينطق بكلمة واحدة أو يكلمه شيخنا إلا ما ندر.. وكل ذلك من نتائج أفعاله المشينة معي حينها... لقد سعى ذلك الرجل طوال بقائي في عنيزة في تشويه صورتي والنيل مني سواء في عنيزة عند طلبة الشيخ أو لدى أقاربه وأهله وولده.. وكذلك لدى كل المشائخ الذين يصل إليهم دون أن يردعه دين أو خلق أليس من المعيب أن يكون شغلنا نحن طلبة العلم أن نفتري على بعضا بعضا ونشغل الناس بمثل هذه التفاهات.. لا يظنن جاهل أو مغفل أنني أردت بكتابتي عن تلك القصة النيل من ذلك الطالب أو الانتقام من تصرفاته معي ..!! إن هذا سيكون حسابه بين يدي رب العالمين سبحانه.. ولو قصدت ذلك لفضحته باسمه ولذكرت مخازيه باسمه.. وهذا مالا يليق بنا معاشر طلبة العلم وفي ذلك أذية لشيخنا ولأهله .. فدعونا ياإخوتي نستفيد من تلك القصة دون أن ننشغل بمعرفة من هو فلان أو فلان.. إن كل ما قصدته من كل ذلك هو رد جزء من جميل شيخي وأستاذي ووالدي الشيخ محمد رحمه الله ورضي عنه .. فدعوني احكي الحكاية واروي الواقعة بكل اطمئنان وراحة ضمير.. إن موقف شيخنا محمد معي هو موقف شريف ونبيل أريد أن أحكيه للناس لتعرف فضله وعقله وسعة حلمه رحمه الله .. أريد أن يعرف أبنائي و كذلك كل من اساؤا بي الظنون ممن قرب وبعد أريدهم أن يدركوا ما حصل ويكفيني أن تبلغهم الحقيقة التي أدين الله بها وبعد ذلك فالقرار راجع لهم وأمري وأمرهم لله تعالى.. لقد شحن ذلك المسكين نفوس بعض الناس حتى وصل بهم الحال أن يفعلوا أفعالا لا تكاد تصدق.. سافر مجموعة من أصحابه بإيحاء منه للطائف من أجل أن يستوثقوا عني لدى من يعرفني من المشائخ .. وليتهم أكتفوا بذلك فليس هناك سوى ما يشرف والحمد لله ... بل كذبوا وافتروا و صوروا لهم أنني في شهور بسيطة قد صرت أقرب الناس للشيخ فلا بد أنني استعملت وسائل غير شرعية وقصدهم أنني سحرت الشيخ !! ورجعوا لعنيزة ونشروا بين الناس أنهم وجدوا سر المسألة وكيف أنني سأكون خطرا على الشيخ وولده وأهله .. اختلفت آراء أولئك السفهاء .. فمنهم من قال : هو ساحر .. ومنهم من قال : بل هو جاسوس .. ومنهم من قال : هو !!! والذي أريد أن يعرفه هؤلاء ممن يقرأ هذا الكلام اليوم أنني طوال بقائي في عنيزة لأكثر من عشر سنوات والذي لا إله سواه لم اسمع شيخنا يقول كلمة واحدة عن سحر أو جاسوسية لا عني ولا عن أحد من طلبته فهو رجل عاقل وحصيف ويخشى الله تعالى في أعراض الناس ويعرف أنه موقوف بين يدي الله ومسئول عن كل ما يقوله فليعد أولئك جوابا لربهم عما قالوه وافتروه .. وليأتوا بالبرهان إن كانوا صادقين .. لم يرو لي الشيخ ما يقوله هؤلاء عني ولم اسمعه يتكلم به معي أو مع غيري لا من قريب ولا من بعيد ولم يحاول الإستيثاق من ذلك فهذه شهادة شرف أعتز بها من الشيخ رحمه الله.. كان الشيخ يقول لي : أنت مثل ابن عباس رض الله عنه حينما قال: أدركت العلم بثلاث (بقلب عقول وجسم غير ملول ولسان سؤول) أو كما قال رضي الله عنه.. لم يشتغل الشيخ ولم يشغلني بمثل هذه الخزعبلات .. بل كان وفيا معي وبعهده الذي قطعه لوالدي بأن يرعاني وأكون تحت نظره وتربيته .. جاءت أيام الدراسة فدرست في ثانوية ابن سعدي وبالكاد تخرجت من الثانوية.. حيث أن نفسي طابت من الدراسة النظامية ولولا ضغط الشيخ علي لتركتها ولم أكمل مطلقا.. جاء رمضان ذلك العام ..1412 للهجرة.. حيث يتبع فيه شيخنا برنامجا صارما في قراءة القرءان وتتوقف دروسه تقريبا سوى تدريس بعض الأبواب الفقهية التي تتعلق بالصيام ورمضان.. حينما بلغنا الخبر برؤية الهلال ذلك العام .. لم نتمكن من صلاة التراويح ليلة الأول من رمضان .. فلم يبلغ الناس إلا متأخرين وأظنهم أعلنوا ذلك في آخر الليل .. في ذلك الصباح استقبلت الشيخ وهنأته بالشهر الفضيل .. وسألته عن برنامجه ؟؟ فقال : سأجلس أقرا القرءان في المسجد.. قلت له : سأبقى معك .. قال: لا دروس سوى قراءة القرءان فحسب.. فقلت : نعم سأفعل إن شاء الله.. وكنت حينها مرهقا ومتعبا ولم انم أغلب الليل .. صلى الشيخ الفجر ذلك اليوم ثم بعد التسبيح والذكر .. دخل لمصلى الجمعة الذي في مقدمة المسجد.. ورمى عباءته على الأرض وابتدأ في قراءة القرءان وهو يسير ذهابا وإيابا.. فقرأ عشرة أجزاء .. حيث يختم كل ثلاثة أيام .. فتكون ختمته في الشهر عشر ختمات .. ولو شاء لختمه كله في يوم واحد ولكنه يرى أن السنة أن لا يقل عن ثلاث لحديث عبد الله بن عمرو ابن العاص.. المعروف.. و بما انه ينزل لمكة ويمكث العشر في الحرم تدريسا وإفتاء ولكثرة أشغاله وضيق الوقت فهو يقرأ أيضا بعد صلاة العصر ليعوض عن نفسه الختمات التي يريد أن يقرأها في مكة .. ومن عمل شيخنا انه يواظب على الشيء إذا فعله مهما كانت الظروف ويحترز لذلك .. رحمه الله رحمة واسعة.. طلب مني الشيخ أن أراجع حفظي ثم بعد ذلك يسمع لي حينما ينتهي من قراءة حزبه .. في المسجد أو ونحن نسير لبيته.. حيث لا يكون أحد سوانا.. ويكون ذلك بعد انقضاء حوالي ثلاث ساعات من بعد الصلاة.. كانت لحظات روحانية أجد المتعة واللذة في استذكار تلك اللحظات الجميلة .. أذكر أن تلك الأيام كانت باردة ولذلك يلبس شيخنا عباءته الغليظة ذات اللون المسمى ( العنابي ) !! وكنت أتدثر بعباءتي وأقرأ القرءان ويصيبني النعاس أحيانا.. فأنام فيرفع شيخنا صوته بالقرءان كأنه يوقظني فأستيقظ وأكمل حزبي.. حاولت مرارا أن أفعل مثل الشيخ وأسير في المسجد كما يسير هو ولكنني تعبت وعجزت .. وهو يفعل ذلك لكي لا ينام وينعس ولا يكسل .. ذات مرة في تلك الأيام ونحن نسير لبيت الشيخ وحولنا هدوء وسكينة فالناس كلهم هجوع.. والأسواق والشوارع خالية من الناس والسيارات .. فلا تسمع سوى سقسقة وتغريد العصافير.. طلبت من الشيخ أن يحدثني عن نفسه .. وعن حياته في شبابه .. فأخذ يروي لي أشياء جميلة سأذكرها في الحلقة القادمة بحول الله تعالى ... الحلقة الثالثة والأربعون ذات يوم من أيام رمضان المبارك تلك.. وبعد أن أكمل الشيخ حزبه من القرءان في الصباح.. دعاني لكي يراجع لي حفظي .. فكنت أقرأ عليه ويفتح علي إن أخطأت .. وكنت أمشي بجواره بين زوايا المسجد .. دنا الشيخ من النافذة في الزاوية الغربية من الجامع.. ثم توقف قليلا!! وأخذ يمعن النظر في مسجد الطين القديم الذي بني منذ زمن بعيد يتجاوز القرن من الزمان وما زال حتى تلك الأيام يصلى فيه .. قال لي الشيخ : أتدري؟؟ لقد حفظت القرءان في هذا المسجد .. عند عمي سليمان آل دامغ رحمه الله .. وكنت مؤذن هذا المسجد الصغير لفترة من الزمن... قلت له : كم كان عمرك حينما حفظت القرءان ؟ قال : حوالي العشرة أعوام..!! ثم أكملت تسميع حزبي .. وخرجنا من الجامع.. وكان الوقت حينها ضحى .. ونكاد نسير لوحدنا في كل الطرق التي مررنا بها.. أخفيت مسجلي الجديد في جيبي .. وقلت للشيخ : ياوالدي هل يمكن أن تحدثني عن شبابك وحياتك في صغرك.. ؟؟ فتنفس الشيخ الصعداء ثم أخذ يروي لي في عبارات رقيقة ومعاني سامية لا تحضرني جميعها ... ولكن سأنسجها من ذاكرتي وأضيف عليها أشياء رواها الشيخ لي في مواقف أخرى وهي بذات مضمون ما قاله.. دون زيادة أو مبالغة.. ولو كانت عندي مكتوبة أو مسجلة لرقمتها لكم بحرفها ولكن للأسف لم يبق سوى ما في ذاكرتي وبالكاد تجود معي بشيء!! قال رحمه الله: كانت عائلتنا فقيرة .. كأغلب العوائل في عنيزة حيث مر على الناس جوع ومخمصة لقلة الأمطار ولندرة المال، ولانعدام الأمن ، حيث يعجز الواحد أن يخرج من عنيزة لبريدة أو لأي مدينة أخرى حينما يحل الظلام .. خوفا من السراق وجماعات النهب والسلب... كانت عائلتنا تملك بقرة حلوب نشرب من حليبها ولبنها ونتغذى من سمنها ولحمها في المواسم.. كما هو الحال في كل بيوت عنيزة.. وكان والدي يذهب نهارا للوادي لكي يزرع ويسقي نخله وغرسه.. فكنت أساعده في شؤون عمله .. حبب الله تعالى لي العلم وطلبه قبل أن تنشأ المدارس النظامية والمعاهد، فالتحقت بحلقة شيخنا ابن سعدي رحمه الله مرورا بدروس بعض تلاميذه الكبار اللذين كانوا يدرسون مبادئ العلوم لصغار الطلبة ومنهم أنا (يعني الشيخ نفسه..) فكنت أحرص على الجمع بين الطلب ومساعدة الوالد رحمه الله.. استمر الشيخ عدة سنوات في الدراسة على شيخه ابن سعدي وأقبل الطلبة عليه من عنيزة وخارجها .. حيث هو علامة القصيم حينها بلا منازع.. يقول الشيخ : كان شيخنا ابن سعدي رجلا حليما ورحيما بطلابه فكان يشجعنا على الطلب بكل ما توفر له من إمكانات .. فكان يثير جو المنافسة بين المجموعات بالمناظرات والمجادلة والمحاورة ، فيكافئ المجموعة الفائزة أو الطالب المجد بحفنة من تمرات الرطب أو العنب أو بمكافأة مالية رمزية .. وكان الشيخ في دروسه يبسط الكلام ليستوعب الصغير والكبير عنه ويحاور طلابه ويمازحهم أحيانا في دروسه ، مما يثير جو الحرص وحب الاستماع والاستفادة من علمه وأدبه .. وكان الشيخ يزور الطلبة في بيوتهم ويحضر مناسباتهم ويعود مرضاهم يقول شيخنا : كانت مكتبتي حينها عبارة عن غرفة صغيرة ، انحشر فيها وتصعب علي فيها الحركة سوى بمشقة ولها كوة صغيرة تشرف على زريبة البقر ولم أكن أتأذى من روائحها النتنة لأنني لا أشم أصلا!! أراجع في مكتبتي المتواضعة دروسي من كتاب الروض وتفسير الجلالين وغيرهما .. يقول الشيخ : ثم مرت بعد ذلك فترة من الركود العلمي فتضائل عدد الطلاب عند الشيخ ابن سعدي... وشغل الناس بأمور سياسية ومذاهب فكرية كالناصرية والقومية العربية الاشتراكية وغيرها بسبب الإعلام المنحرف والموجه.. وانفتحت أبواب التجارة والعمل والتعليم في الجامعات والمعاهد فهاجرت كثير من العوائل للمدن الكبرى كالرياض والمنطقة الشرقية وغيرها... يقول الشيخ : ثم إنني أصابني ما أصاب الناس فانصرفت عن دروس الشيخ واشتغلت بالزراعة في الوادي مع الوالد .. قلت له : كم الفترة التي انقطعتم فيها عن العلم؟؟ قال : خمس سنوات تقريبا!! قلت له : وماذا كنت تعمل حينها ؟؟ قال: أزرع واحصد ولم أكن أذاكر أو أراجع العلم الذي حصلته عن الشيخ ابن سعدي، وكدت أنسى القرءان غير أنني كنت أراجعه وأنا أسير على حماري إلى الوادي!! ولولا ذاك لنسيته ولكن الله سلم.. يقول الشيخ: ولم يكن يحضر حلقة الشيخ بن سعدي سوى عدد بسيط من كبار طلبته ، ومع ذلك صمد الشيخ واستمر في التعليم والتأليف والإفتاء.. والخطابة وتدريس العوام ..دونما انقطاع.. رحمه الله رحمة واسعة.. يقول شيخنا: ثم إن الله تعالى حينما أراد بي خيرا .. جئت يوما لجامع الشيخ ابن سعدي وحضرت درسه لأول مرة منذ سنوات .. فما عاتبني الشيخ ولا نهرني لانقطاعي ولم يقل لي: لم غبت ؟؟ أو لم تركت العلم؟؟ أو نحو ذلك ... مما أثر في نفسي وحبب الشيخ ابن سعدي لنفسي.. فرفع ذلك السلوك من الشيخ همتي .. و توجهت بكل جوارحي للعلم ، فزاحمت الكبار وثنيت الركب بين يديه وحصلت من علمه وأدبه ما فتح الله علي به ، فحزت رضاه وإعجابه فقربني وخصني بدروس لي خاصة أو مع خاصة تلاميذه.. فقرأت عليه متونا كثيرة في الفقه والتفسير والأصول والنحو والصرف والحديث والمصطلح وغيرها من العلوم النافعة.. وحصل أن انتقلت عائلة الشيخ محمد لمدينة الرياض .. فطلب الشيخ ابن سعدي من والد الشيخ محمد كما سبق وذكرنا أن يبقى شيخنا في عنيزة ليكمل طلبه للعلم ، حيث رأى الشيخ فيه علامات النبوغ والنباهة فحرص على بقائه ليستمر في التحصيل وهذا ما كان.. و بعد سنوات افتتحت المعاهد العلمية.. فاستأذن شيخنا من شيخه ابن سعدي أن ينتقل للدراسة في المعهد العلمي في الرياض .. فأذن له شيخه .. يقول شيخنا .. حينما دخلت قاعة الدرس في المعهد العلمي في الرياض .. وتغيرت علي وجوه الطلبة اللذين عهدتهم .. وكان الجو الدراسي وطرق التدريس مختلفة عما أعتدت عليه .. تنكرت علي الأمور وضاقت علي نفسي .. وندمت على حضوري للرياض.. وكان يجلس بجواري شاب كفيف خلوق وطيب فأحببته واستأنست به منذ أول لقاء به.. وهو الشيخ العلامة عبد الرحمن البراك العالم المشهور .. يقول الشيخ : ونحن في القاعة وأنا أتحدث مع صديقي وجاري دخل علينا رجل بدوي الهيئة اسمر البشرة رث الثياب .. وجلس على مقعد التدريس فقلت في نفسي: الآن أترك شيخنا ابن سعدي وعلمه الواسع وطيبته وأريحيته وسماحة نفسه .. وكنت في بلدي وديرتي وبين أقاربي وأصحابي أترك كل ذلك من أجل أن أتعلم عند هذا الإفريقي البدوي..؟؟ ياضيعة العلم والعلماء.. يقول الشيخ : ثم إن هذا الأعرابي بدأ في الكلام .. فحمد الله وصلى على رسول الله .. وتكلم في فنون العلم وصنوفه من حفظه بلا كتاب فشرق وغرب وتلا الآيات ونقل أقوال المفسرين والفقهاء .. وخلافاتهم ، قديمها وحديثها.. وذكر الأحاديث بأسانيدها وشواهدها والحكم عليها.. وروى الأشعار والشواهد والنصوص الطويلة.. الهائلة وتفجرت أنهار العلوم من بين جنباته و تدفقت من لسانه كالسيل الهادر .. علوم وأقوال لايكاد يحويها صدر عالم لقيناه أو عاصرناه.. فلله دره .. ما أقوى حجته .. وما أسد بيانه .. وما أرفع كعبه في العلم وبيانه ونقله .. رغم احتقارنا لهيئته أول الأمر .. يقول الشيخ : ففرحت بذلك أيما فرح .. وشكرت الله تعالى أن تمكنت من لقيا هذا الجبل الأشم والبحر الزاخر.. إنه العلامة المفسر الفقيه النحوي الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله رحمة واسعة.. صاحب التفسير الكبير تفسير أضواء البيان.. أستفدت من علمه في التفسير والأصول والنحو وغيرها.. يقول الشيخ: ولازمت دروس سماحة شيخنا العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز عليه رحمة الله .. فقرأت عليه جزءا من صحيح البخاري وأبواب الفرائض.. وقد أهتم بي الشيخ وخصني بدروس في منزله فقرأت عليه عددا من المتون في قواعد التفسير والحديث وغيرها.. وحسبك بهذين العالمين الجليلين علما وفقها وسعة اطلاع .. عليهم وعلى شيخنا سحائب الرحمة والرضوان.. الحلقة الرابعة والأربعون بعد أن أكمل شيخنا دراسته في المعهد العلمي في الرياض.. رجع لموطنه عنيزة .. ومكث في هذه المدينة الهادئة الوديعة طوال حياته.. وحينما افتتح المعهد العلمي في عنيزة عين شيخنا مدرسا فيه.. وأكمل دراسته بالانتساب في كلية الشريعة في الرياض.. أصيب الشيخ ابن سعدي بعارض صحي فسافر للعلاج إلى لبنان.. فتعافى .. ولكن المرض عاد له بعد فترة من الزمن.. فأرسلت طائرة الإخلاء لنقله فتوفي قبل أن ينقل للرياض.. وذلك في عام 1376 للهجرة.. واحتار الناس فيمن يخلف الشيخ ابن سعدي في الإمامة في الجامع الكبير والخطابة والتدريس في حلق المسجد.. ووقع اختيار عدد من الوجهاء على الشيخ محمد .. رغم أنه لم يكن أكبر الطلبة سنا أو أقدمهم في حلقة الشيخ ابن سعدي.. وتبين للناس بعد حين أن اختيارهم لشيخنا كان توفيقا وتسديدا من الله تعالى .. سبب موت العلامة الفقيه ابن سعدي رحمه الله فراغا في التعليم الشرعي ، ولكن لم يطل الوقت حتى سد شيخنا مسده بل كاد يجاوز شيخه أو قد فعل!! سلك شيخنا أسلوب الشيخ ابن سعدي في الإلقاء حيث التبسيط والتركيز على الكيف لا الكم.. والعجب من بعض طلبة العلم في زماننا هذا .. ترى الواحد منهم يسوق في الدقيقة الواحدة كما كبيرا من المسائل والنقولات ولا يكاد يستوعب الطلبة من أستاذهم سوى النزر اليسير من علمه.. !! يقول ابن عباس حبر الأمة رضي الله عنهما.. في قوله تعالى ( وكونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) قال هم من يبدؤون بصغار العلم قبل كباره.. قال لي احدهم يوما: ما بال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في دروسه التي نسمعها على الأشرطة فيها كأنه يدرس أطفالا لا طلبة علم ؟؟ قلت له : أنت تبالغ في كلامك.. لكن الشيخ يبسط المسألة لأن أفهام الناس تتفاوت فيستفيد من كلامه الطالب المبتدئ و كذلك الطالب المجد النهم .... فهي ربوع نظرة وبساتين عامرة كل يقطف منها ما يسد حاجته ويروي عطشه .. لقد ورث شيخنا هذا الأسلوب عن شيخه ابن سعدي والشيخ ابن سعدي أخذ هذا الأسلوب عن الشيخ محمد الشنقيطي وليس هو صاحب أضواء البيان بل هو أحد العلماء اللذين مروا على عنيزة في طريقهم لمدينة الزبير في العراق حيث تتلمذ عليه الشيخ ابن سعدي في فترة بقاءه في عنيزة واخذ عنه سند رواية الكتب الستة متصلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وبهذه المناسبة يسرني أن أزف هذه البشرى لطلبة شيخنا ابن عثيمين رحمه الله جميعا ممن تتلمذوا على يديه وحضروا دروسه واستحقوا أن يطلق عليهم عرفا أنهم تلاميذ لديه بأن لهم جميعا نسبا شريف متصلا برسول الله صلى الله عليه وسلم !! هو خير الأنساب وأفضل وأزكى عند الله لمن اتقى!! من نسب الرحم والقرابة .. ولهذا النسب وتدوينه قصة سأحكيها لكم لاحقا .. ومضمونها أنه حينما ابلغني الشيخ رحمه الله بإصابته بمرض السرطان في القولون تألمت لذلك أشد الألم وحز في نفسي وتكدرت علي أموري .. فكتبت له هذه الورقات ومعها أوراق أخرى وفيها أبيات شعرية نظمتها وسلمتها له .. ففرح بها الشيخ وأثنى عليها ويسعدني أنها كانت سببا لإدخال السرور على نفسه رحمه الله رحمة واسعة والآن دعوني أذكر السند والذي أطلقت عليه (نسب العلماء ) علما أن الفضل يعود بعد الله في تدوين هذا النسب للشيخ العلامة عبدالله البسام رحمه الله حيث نقلت أغلب ذلك النسب النبيل من تحفته النادرة الطراز (تاريخ علماء نجد خلال ثمانية قرون) قلت فيها : هذا هو نسب شيخنا وأستاذنا العلامة الفقيه المفسر النحوي .. الشيخ محمد بن صالح العثيمين .. وقد أخذ العلم عن شيخه العلامة عبد الرحمن الناصر السعدي .. وهو أخذ العلم عن الشيخ صالح بن عثمان القاضي.. وهو أخذ العلم عن الشيخ عبد الله بن عائض.. وهو أخذ العم عن الشيخ علي بن محمد بن علي قاضي عنيزه وهو أخذ عن الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين مفتي نجد المشهور وهو أخذ عن الشيخ أحمد بن حسن بن رشيد الإحسائي.. وهو أخذ عن العالم الشهير محمد بن فيروز وهو أخذ عن والده عبدالله بن فيروز .. وهو أخذ عن والده محمد بن فيروز الجد.. وهو أخذ عن عبد القادر التغلبي .. وهو أخذ عن محمد البلباني وعن الشيخ عبد الباقي والد أبي المواهب... وهما أخذا عن العلامة منصور البهوتي .. صاحب الروض.. وهو أخذ عن يحي بن موسى الحجاوي ... صاحب الزاد.. و عن الشيخ أحمد الوفائي وهما... عن الشيخ موسى الحجاوي صاحب الإقناع ... وهو أخذ عن الشيخ أحمد الشويكي... وهو أخذ عن أحمد العسكري.. وهو أخذ عن علي بن سليمان المرداوي العلامة المشهور منقح المذهب الحنبلي .. وهو أخذ عن ابن قندس... وهو أخذ عن ابن اللحام... وهو أخذ عن الحافظ ابن رجب الحنبلي.. وهو أخذ عن شمس الدين ابن قيم الجوزية ... وهو أخذ عن شيخ الإسلام ابن تيمية .... وهو أخذ عن شيخه شمس الدين عبد الرحمن بن أبي عمر صاحب الشرح الكبير.. وهو أخذ عن عمه موفق الدين ابن قدامة ... وهو أخذ عن شيخه العابد الزاهد عبد القادر الجيلاني... وعن الحافظ ابن الجوزي وعن ابن المنى الفقيه المشهور وهم .. أخذوا عن أبي الوفاء بن عقيل صاحب كتاب الفنون.. وعن أبي الخطاب صاحب الهداية... وهما عن القاضي أبي يعلى... وهو أخذ عن أبي حامد ... وهو عن أبي بكر بن عبد العزيز غلام الخلال... وهو أخذ عن أبي بكر بن الخلال... وهو أخذ عن المروزي وأولاد الإمام أحمد بن حنبل صالح وعبدالله... وهم أخذوا عن الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنه.... وهو أخذعن أئمة ومنهم الإمام محمد بن إدريس الشافعي... وسفيان بن عيينه وهما عن عمرو بن دينار والإمام مالك بن أنس.... وهو أخذ عن نافع مولى ابن عمر... وهو أخذ عن صاحب رسول الله الفقيه عبد الله بن عمر ابن الخطاب رضي الله عنهما... وهو أخذ عن إمام المتقين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.... هذه سلسلة كريمة مليئة بالنجوم الزاهرة وبالكرام الأولياء وعلى رأسهم رسولنا وحبيبنا سيد الأولين والآخرين محمد بن عبد الله الهاشمي عليه افضل الصلاة والسلام أهديها لكل طالب علم درس على يد شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله.. الحلقة الخامسة والأربعون في أيام رمضان تتوقف الدروس في الجامع سوى تلك التي تعني بالشهر الفضيل والصوم والوعظ ونحوه.. كما سبق بيانه .. في طريق عودة شيخنا للمنزل قبيل غروب الشمس حيث يمكث لقراءة حزبه في المسجد .. يدعو الشيخ كل من رآه من طلبته وغيرهم لمرافقته لتناول الإفطار في منزله... أما أنا فكنت افطر كل يوم من تلك الأيام في بيته.. وقبل أذان العشاء بقليل يتوجه الشيخ مشيا على قدميه للجامع .. ويصلي بالناس العشاء والقيام .. و يقرأ كل ليلة نصف جزء من القرءان تقريبا ويصلي إحدى عشرة أو ثلاثة عشر ركعة كما هي السنة.. يختمها بقنوت خاشع وخاضع .. ولا يقنت أحيانا قليلة.. بقيت في عنيزة خمسة عشر يوما أو ثمانية عشر يوما تقريبا .. ثم استأذنت شيخنا للذهاب للطائف لزيارة العائلة والبقاء عندهم.. حتى قدومه لمكة.. حيث أرغب في رفقته وصحبته هناك .. فقال الشيخ لي: على بركة الله .. واللقاء في مكة.. فرحت بهذا الشرف حيث سأكون رفيقا لشيخنا في تلك الأيام الفضيلة.. حجزت من مطار القصيم مرورا بالرياض إلى الطائف .. وأكدت الحجز بمشقة كبيرة .. ودعت شيخنا بعد صلاة الفجر و أوصلني أحد رفقائي للمطار ضحى.. وكانت تلك أول سفرة لي للطائف بعد ذهابي لإحضار حاجياتي.. وصلت للمطار .. وتوجهت لكاونتر السفر .. فقال لي الموظف: الطائرة تأخرت !! فقلت له: وكم ساعة تأخرت؟؟ قال : لا ندري ؟؟ ولكن طائرتكم المغادرة للرياض سوف تذهب أولا من الرياض إلى منطقة الجوف ثم تعود للقصيم لتنقل المسافرين إلى الرياض...ّ!! وهي حتى هذه اللحظة لم تغادر من الرياض والمفروض أنها غادرت فجرا .. ونصيحتي لك تبدل حجزكم لجده .. فهي مغادرة بعد ساعتين.... ترددت بين الخيارين .. ولكن في النهاية عزمت على البقاء للسفر على رحلتي الأصلية .. حيث أن رحلتي المغادرة من الرياض للطائف ستكون قريبا من العصر.. فأملت أن أدركها .. ألح علي أحد زملاء السكن أن أسافر على جده فهي أضمن ولكنني أبيت !! غادرت رحلة جده حوالي الساعة الحادية عشرة حيث تأخرت قليلا .. انتظرت رحلتي في المطار من الساعة الثامنة صباحا وحتى قريبا من العصر .. وبلغ بي الجهد والانتظار والملل مبلغه .. حيث لم يعد لي أي خيار آخر سوى تلك الرحلة .. وأخيرا جاءت طائرتي حوالي الساعة الخامسة عصرا... ولم تكد تصل.. انطلقنا للرياض .. ووصلنا بعد أربعين دقيقة .. ولكن للأسف رحلة الطائف كانت قد غادرت الساعة الثالثة عصرا!! توجهت لكاونتر المبيعات لأستفسر عن الرحلة التالية للطائف.. فوجدت طوابير هائلة من البشر تقف في صفوف مبعثرة وغير مرتبة ، يستجدون موظفي الخطوط العابسين المشمئزين!! وقفت مع الناس حتى أذن علينا المغرب فغادرنا الموظفان الكريمان دون أن يخبرا الناس .. أين وجهتهما !! وبقينا حوالي النصف ساعة والأرتال واقفة فيهم الكبير في السن والمريض وصاحب الحاجة ، ولا تسل عن تأفف الناس وتضايقها ؟؟ وأخيرا رجع أصحاب السعادة وهم فرحون ويتمايلون ويضحكون بعد تناول وجبة الإفطار وأداء الصلاة طبعا بكل خشوع واطمئنان !! ولا بأس قليلا من نيل قسط من الراحة والاسترخاء ومعرفة آخر الأخبار !! عاد صاحبانا وهما يمضغان العلك!! ليرطبا نسماتهما الزكية من روائح الطعام الشهي واللذيذ !! كانا في قمة النشوة والنشاط بحيث أنهما لم ينهيا سوى عدد ضئيل من المسافرين( الضعفاء) حتى أذن عليهما لصلاة العشاء، فانصرفا راشدين فخورين لأداء صلاة الفرض ومعها ربما !!كم ركعة من التراويح!! ليروحا عن نفسيهم من عناء العمل والمكدة على الناس!! قد يقول البعض أنني أبالغ ولكن والله هذا ما حصل ذلك اليوم.. وهو شيء مشاهد للأسف ولا يخفى على الجميع.. ونراه ونشاهده بوتيرة مختلفة من مطار لآخر ومن زمن لآخر .. والله من وراء القصد.. أذكر مرة أنني كنت في ماليزيا ذلك البلد الآسيوي العملاق ..!! وأسميه عملاقا ليس بسبب حداثته وتطوره فحسب !! بل لثقافة شعبه المسلم والمتمسك بقيم الحضارة مع تمسكه بدينه ومبادئه!! كنت بصحبة عدد من الأصحاب في منطقة اسمها (قنتن هايلاند ) وهي منطقة ساحرة وخلابة تقع في شرق العاصمة كوالالمبور على بعد عشرين دقيقة تقريبا (بالمناسبة !! سعر التذكرة على التلفريك شاملة ركوب الباص من العاصمة وحتى محطة التلفريك مع ركوب التلفريك ، جميع ذلك ذهابا بخمسة ريالات فقط!!) حينما وصلت مع أصحابي للطابور الواقف أمام العربات المعلقة والمسماة التلفريك ، هالني العدد الهائل من الناس .. والذين يقفون في طوابير لا تكاد تعد ولا تحصى من البشر ..من النساء والأطفال والشباب والشيوخ.. فقلت لصحابي سنصل لأول عربة غدا إن شاء الله ..؟؟ فالتفت لي صاحبي وقال: أنت في بلد منظم ياعزيزي أنتظر وسترى !! كان الصف يتحرك بانتظام وبدون توقف ولا يتقدم احد على الآخر كل يعرف سبيله وحدوده..!! وصلنا لأول الصف بعد عشرين دقيقة تقريبا .. وهذا والله ما حدث!! دعوني أكمل رحلتي فمالنا وما لماليزيا ؟؟ أخيرا وصلت لسعادة الموظف في كاونتر المبيعات .. تصنعت ابتسامة وردية حتى أكسب وده وتعاطفه ورحمته.. وكأنني واقف في طابور للشحاته !! تكلم معي دون أن ينظر لوجهي الكئيب!! بكل برود وعنجهية قال : مافي رحلات رح بر اصرف لك !! فقلبت حساباتي ودرست وضعي النفسي والجسدي خلال ثانيتين !! فلم يطق صاحبي الانتظار وقال لي : خلصنا يامطوع!! قلت :يا أخي (وكدت أقفز من فوق الكاونتر واقبل يديه!! ) أنا مواصل من القصيم وتعبان .. شفلي أي مقعد ولو درجة أولى.. الله يخليك!! قال ورفع يده ومسح بالأخرى على قفاه : رح سجل انتظار وبعدين أشتري التذكرة من عندي!! قلت وأنا أمسح بيدي : طيب لا مشكله ، بس إن رجعت عندك هل يجب علي أمسك الطابور مرة ثانية؟؟ قال: طبعا !! هذا النظام!! ثم أمرني بالانصراف لينهي من بعدي من البؤساء!! توجهت أجر ذيول الخيبة للكاونتر المذكور.. ويالله العجب !! كل الوجوه عابسة ذلك اليوم .. العسكر والموظفون و حتى عمال النظافة .. أعوذ بالله ...كأننا في حرب ولسنا في مطار .. حينما عبرت من عند نقطة التفتيش .. الداخلية .. لم أجد مكانا لأقف عنده.. من الزحام وكثرت الرائح والغادي!! ولا يكاد المرء يجد مساحة للهواء ليتنفس الهواء النظيف !! كنت كلما مر بجواري موظف رسمي أمسك به و اسأله أين كاونتر الانتظار؟؟ يقول لي أحدهم .. يمين !! والآخر يقول هناك أمامك .. وآخر ينظر لي شزرا وباحتقار ولا يرد علي ..!! كأنني قتلت أباه وأمه!! ولكن أخيرا دلني عامل النظافة جزاه الله خيرا ..!! ويا للعجب .. حينما وصلت للكاونتر .. رأيت أكداسا من البشر أغلبهم من الجاليات الآسيوية من الهند وبنغلادش وسيرلنكا وغيرها من البلدان .. وأغلبهم بلباس الإحرام .. مكدسة أمام موظف واحد لا تسل عن وصفه وعن ملامحه ؟؟ وعن تجهمه المفرط ؟؟ حينما ترى صفوفا من هذا النوع فالوسيلة الوحيدة للوصول للموظف .. هو أن تخترق الأرتال بالدفع عن اليمين والشمال والمزاحمة وشد الشعور واللطم أحيانا!! وإلا فوا لله لن تصل إليه أبدا.. أما أنا فبقيت واقفا بكل أدب أنتظر دوري .. وكنت كلما اقتربت للموظف جاءت أمامي طوابير جديدة فيعيدني العسكري الأسمر ذو الشوارب الذابلة !! قائلا: من أول الصف يامطوع!! شاهدت عاملا توجه لموظف الخطوط ويظهر انه مسئولهم أو مديرهم فانكب على يده يقبلها ويبكي ويتلوى ويرفع تذكرته ويقول.. والله أنا من ثلاثة يوم مافي أكل وشرب ولا نوم أبغى أسافر للدمام..!! فقال الموظف بعد أن شعر بالحرج من نظر الناس وتجمعهم لهذا المشهد المخزي!! المشكلة من الكفلاء يرمون هذولا المساكين ولا يؤكدون حجوزاتهم!! رمى السيد المشكلة على الكفلاء نور الله قلوبنا وعقولنا ؟؟ في كل مكان ترى الهمج من شبابنا للأسف !! وقف مجموعة من الفتية متوسطي الأعمار والمراهقين!! مستغلين تلك الفوضى والهرج والمرج !! ودلوا رؤوسهم من فوق السور العلوي في أعلى المطار فوق كاونتر الانتظار مباشرة !! وصرخوا على العمالة المسكينة المتجمهرة أمام الموظف وقالوا لهم: تبغون تسافرون مكة؟؟ روحوا هناك فيشيرون عليهم للكاونتر المجاور .. فيتراكض الضعاف ويحدثون جلبة .. ثم يكتشفون أنهم خدعوا !!
    7 "




  7. كود:
    فيعودون مرة أخرى .. فيتمايل أولئك الفتية بالضحك والمزاح!! مع أنه يحيط بموظف الخطوط مجندين من الشرطة بزعم تنظيم الصفوف والأرقام.. !! وهيهات!! فهما لا يتحركان ساكنا وكأن الأمر لا يعنيهما .. إن وظيفة هذين الأخوين الكريمين كما شاهدت بعيني هو السوالف والحديث مع بعضهما أو مع موظف الخطوط ولا بأس من التوسط لصديق أو قريب على حساب المساكين اللذين لهم الله تعالى!! لا أريد أن أطيل عليكم وقد فعلت !! بقصة فارغة وطويلة قد لا تكون مفيدة .. ولكن يعلم الله تعالى أنني لم أصل للطائف سوى بعد مرور أكثر من أربعين ساعة من الانتظار والعذاب أخلف الله علينا خيرا !! الحلقة السادسة والأربعون حينما صعدت للطائرة المتوجه لجده.. لا أذكر سوى شيئين اثنين : جلوسي على المقعد .. ثم شعوري بهبوط الطائرة الجانبو العملاقة على أرض المطار !! حيث استسلمت لنوم عميق مر علي كخفقة جناح!! من التعب والإرهاق .. نزلت من الطائرة وتوجهت لسيارات الليموزين وطلبت من السائق أن يقلني لمحطة التكاسي .. وصلت للمحطة فوجدت عددا من الرجال المتجمهرين في مدخل المحطة و ينادون في الناس .. مكة مكة الطائف .. أبها .. !! توجهت لمن نادى على الطائف .. فقلت لهم : أريد الطائف .. فأحاطوا بي كما يحيط السوار بالمعصم ..!! وأخذوا يتلمظون بي كما تتلمظ الأفعى بفريستها.. هذا يقول : يالله اوديك مشوار.. وقال الآخر : كم تدفع؟؟ وقال الآخر بقي عندي راكبين .. وأحدهم قال : مابقي عندي إلا راكب واحد .. فقلت له : سأذهب معك أنت وين سيارتك .. فحمل حقيبتي وقال: اتبعني... وصلت لسيارته الكر يسيدا متوسطة الحال !! موديل 82 !! فوجدت السيارة فيها راكبين اثنين فقط !! فقلت له : وين الركاب الآخرين ؟؟ قال: كانوا هنا وراحوا !! بس اصبر دقايق ويجون ركاب بسرعة !! قلت له : ياعم أنا مستعجل ولازم أمشي على طول .. فقال : اصبر شوي لا تحرمنا من الرزق .. انتظرت وكنت لا أكاد أستطيع الوقوف من الإعياء .. ثم فكرت قليلا وقلت له: اسمع سأدفع لك حق ثلاثة ركاب ويالله نمشي !! وجدت المبلغ ليس بكبير وكنت مرهقا وأريد الوصول للطائف بأسرع ما يكون فقال لي الرجل وهو في الخمسينيات من عمره وقد ملأ الشيب حواجبه وشواربه وما بقي من لحيته وشعر رأسه!! : طيب، خلاص هات بطاقة أحوالك حتى أسجل اسمك .. ناولته البطاقة والمبلغ مقدما لثلاثة ركاب .. فذهب للتسجيل ورجع بعد عشر دقائق ولم يعد وحيد بل جاء ومعه راكبين !! فقلت له : من هؤلاء ؟؟ فقال: ركاب !! قلت : طيب ، أنا دفعت حق ثلاثة ركاب رجع لي قروشي اللي دفعتها لراكبين !! فقال : والله ما أحد قال لك تدفع !! ظننت في البداية الرجل يمزح!! ولكن رأيت علامات الجد بادية على محياه!! شدهت من الموقف ، وبقيت أنظر له بحيرة .. هل جن هذا الرجل ؟؟ كيف يستحل هذا المال ؟؟ وفي شهر رمضان ؟؟ أنا أكتب لكم إخوتي الكرام أخواتي الكريمات ووالله لو لم تحدث لي القصة لكدت أن لا أصدق حدوثها .. كيف طابت نفسه بفعل ذلك وبأي مبرر ؟؟ قلت له : ياعم كيف ترضى تطعم أولادك مال حرام؟؟ قال ويظهر أنه استصغرني : أركب وخلينا نمشي بدون كلام فاضي!! العجيب أن الركاب قد شاهدوا ما حدث ولم يتكلم منهم أحد .. لم يكن لدي فرصة لأن أفعل أي شيء فقد اخذ الرجل المبلغ وليس معي مستند يثبت ذلك ويستطيع الإنكار بكل سهولة .. لم أذق طعم النوم طوال الطريق من تصرف هذا الظالم .. وأقسمت بعدها أن لا أركب مع سيارة أجرة تكسي أبدا وهذا ما فعلت!! قلت له : أوصلني لبيت أهلي على اقل تقدير .. قال : أوصلك مع الركاب للمحطة !! هل كوني تركت الرجل يفعل ما يفعل دون أن أتصرف أو استرد حقي ولو بالقوة هو جبن وخور حيث كنت ضعيف البنية؟؟ هل هو احترام لشيبته وكبر سنه؟؟ هل هو بسبب الشهر الفضيل وكوننا صائمين؟؟ هل هو بسبب ربكة الموقف وصغر سني وقلة خبرتي في الحياة ؟ ربما كل ذلك أو بعضه !! هل أن الله تعالى أراد بحكمته وتقديره يعلمني أن الحياة كلها جهاد وكفاح فلا تركن ياهذا ولا تطمئن ؟؟ كل ذلك وارد .. وصلت للطائف ومنذ دخولي للمنزل ورؤية الوالدة الكريمة والوالد والإخوان والأخوات نسيت كل ما مر علي من تعب ومشقة وإذلال .. أول شيء فعلته بعد ذلك أنني اتصلت على الشيخ لأخبره بوصولي.. حيث أمرني هو بذلك ..حتى يطمئن من وصول الأمانة التي في عنقه لأصحابه اتصلت عليه وسلمت عليه وبلغته بوصولي فتعجب حينما علم أنني لم أصل إل بعد يومين!! قلت له : ياشيخنا الحكاية طويلة وخلها على الله تعالى .. الحمد لله أنني وصلت ثم ناولت الوالد السماعة والوالدة فكلمهما وسلم عليهما وقال للوالدة: الله يجعله قرة عين لك!! بقيت في الطائف عدة أيام واستمتعت فيها أيما استمتاع حيث أن الشمل قد اجتمع بفضل الله ثم بفضل الشيخ.. لم يحدث شيء يستحق الذكر في تلك الأيام ، استأذنت والدي ونزلت لمكة بعد أيام .. لكي أقابل شيخنا هناك.. وأكون برفقته .. في اليوم الموعود أحرمت من بيتنا ومررت بالميقات ومنه لبيت للنسك ووصلت لمكة قبيل صلاة الظهر تقريبا .. وكان موعدي مع الشيخ أن ألقاه قريبا من محراب الإمام حيث سيصلي خلفه لمحت الشيخ وهو بالإحرام يسير متوجها لمقصده ومعه الأخ علي السهلي .. وحدث موقف طالما تكرر معنا .. حينما اقترب الشيخ من الصف الأول تقدم له جندي من الجنود ودفع الشيخ وقال : صل ياحجي هناك!! ولم يعرف الشيخ طبعا.. فتقبل شيخنا الأمر واستدار وأراد أن يرجع ،فلمحه المشائخ في الصف الأول فعرفوه .. فلحق عدد منهم الشيخ وأرجعوه وعنفوا الجندي المسكين .. شيخنا رجل بسيط ولا يحب التعقيد وكثرة النقاش .. أذكر مرة أننا كنا نريد الدخول لمواقف السيارات بجوار الحرم .. فردنا الجندي وأبى كل الإباء أن يسمح لنا بالمرور .. فرجعنا ولم ندرك الصلاة في الحرم بسببه .. وكان بالإمكان أن نتصرف معه بوسائل أخرى!! ذات مرة في طريق المدينة القصيم أوقف الشيخ رجل أمن ومعه أخاه عبد الرحمن .. فقال له العسكري : هات هويتك ؟؟ فقال الشيخ : هويتي في حقيبتي وهي خلف السيارة!! فقال العسكري: انزل وجب الهوية من الحقيبة ..!! فترجل الشيخ وفتح الحقيبة وأخرج هويته للعسكري .. فنظر لبطاقة أحوال الشيخ فقال : وين صورتك؟؟ وللعلم هوية الشيخ بدون صورة مكتوب مكان الصورة ( معفى) !! فقال الشيخ : أنا معفى من التصوير!! فقال الجندي وشك في القصة: ليش ؟؟ أول مرة يمر علي شخص معفى من التصوير!! فقال الأستاذ عبد الرحمن : هذا الشيخ ابن عثيمين!! فما عرف الرجل الشيخ وقال مستهزئا: كلكم شيوخ !! وبالكاد أرجع الهوية وسمح لهم بالمرور !! وهذه قصة قريبة حدثت لمجموعة من طلبة العلم من الأردن .. وعددهم ثلاثة.. حيث ذهبوا لأداء العمرة وحضروا دروس شيخنا رحمه الله في مكة وفي طريق عودتهم للأردن حدث لهم حادث مروري في المدينة واصطدمو بإشارة مرور بسيارتهم العتيقة فأتلفوا الإشارة ولم تعد صالحة للاستعمال .. فتحفظت عليهم إدارة المرور وأمر الضابط بحبسهم حتى يستوفى منهم قيمة الإشارة كما هو النظام.. فمكثوا في الحبس عدة أيام دون نتيجة أو عفو وحاولوا وتلمسوا أن يسمح لهم الضابط بالسفر للأردن وسوف يجمعون له مبلغ الإشارة التالفة ويحولونه له بعد التعهد بذلك.. فرفض الضابط وقال لهم : يجب أن تدفعوا القيمة أو سوف أحيلكم للمحكمة !! عندها قال أحدهم : لما لا نتصل على أحد المشائخ ونطلب منه العون فنحن عابروا سبيل ولعل الله ييسر لنا فكاكا من الكرب الذي نحن فيه.. فوقع اختيارهم على الشيخ محمد لقرب العهد به ولعلمهم أن الشيخ لن يقصر معهم إن شاء الله .. ولكن المشكلة كيف سيصلون للشيخ؟؟ نادوا على الضابط واجتمعوا به في مكتبه وقالوا جميعا : نريد نتصل على الشيخ ابن عثيمين !! فقال : هل عندكم رقم هاتفه قالوا : لا !! فقال : أعطوني اسمه كاملا !! فقالوا : اسمه محمد بن صالح العثيمين .. فاتصل على آمر السنترال فأعطاهم الرقم .. وبعد معاناة ومحاولات مضنية لانشغال الخط رد الشيخ على الهاتف .. فتكلم أحد الشباب من المجموعة .. وشرح للشيخ الموقف وأنهم طلبة علم قد حبسوا بسبب الحادث ..الخ القصة.. فقال الشيخ : هات الضابط أتحدث معاه !! فتحدث الشيخ مع الضابط واستوثق منه ، فأكد على ما قالوه .. فقال له الشيخ : أطلق سراح هؤلاء الشباب وسوف أضمن لك كل المبلغ !! فقال الرجل : والله لا استطيع إطلاقهم حتى يصلني المبلغ ..!! فقال الشيخ : أنا ضامن لك أن يصلك المبلغ غدا إن شاء الله دع هؤلاء يذهبون لأولادهم وذويهم .. فأبى الرجل وأصر على ذلك .. فقال الشيخ : ما اسمك لو تكرمت ..؟؟ فأعطاه اسمه وحدد له طبيعة عمله .. ثم أغلق الشيخ السماعة.. بعد مرور فترة من الوقت رن جرس ذلك الضابط .. بعد أن ارجع الفتية للحبس.. فكان المتحدث من الطرف الثاني مدير عام مرور المدينة .. فقال : هل اتصل عليك ابن عثيمين قبل قليل وطلب منك أن تطلق السجناء فأبيت؟؟ قال : نعم .. فقال : اتصل علي الأمير عبد المجيد بن عبد العزيز بنفسه ويقول لك أطلق هؤلاء الشباب فورا .. وقال : هذا ابن عثيمين لو يأمر على كل شيء لأطعناه!! فأطلقوا سراحهم .. الحلقة السابعة والأربعون حينما صلينا الظهر ذلك اليوم اقتربت من شيخنا وكان حوله حشد من الناس فلما أبصرني نظر إلي نظرة أنكرتها !! فسلمت عليه فقال لي هامسا في أذني: هل أخذت شيئا من شعر لحيتك؟؟ فقلت : أبدا والله !! لماذا؟؟ فقال : كأني ألاحظ أنك خففت منها!! ثم أكمل كلامه وقال: ولتعلم أني قربتك مني لعلمي أنك صاحب دين ،وتتعلم لتعمل بعلمك!! كانت تلك كما يقولون ضربة معلم ، وتوجيها لا أنساه أبدا ،ولا يفوتني القصد والغاية منه !! والمعروف أن شيخنا يفتي بتحريم اخذ شيء من اللحية كما هو قول جمع من الفقهاء.. ابتدأنا في أداء المناسك من الطواف وكان الزحام شديدا والجو خانقا، مع أننا في موسم الشتاء!! انتهينا من أداء العمرة ثم توجهنا لمكان استراحتنا وهي شقة تابعة لأحد الإخوة واسمه محمد الغامدي .. وهو كابتن متقاعد ورجل فاضل من سكان جده.. كنت أنا والأخ علي السهلي مكلفين بتنظيم برنامج الشيخ وتسجيله على أوراق طوال فترة بقاءه في مكة .. والبرنامج اليومي تقريبا سار بوتيرة واحدة ولا يختلف طوال بقاءنا إلا ما ندر وبالجملة هو كالتالي : الصلاة فجرا في الحرم قريبا من كرسي الدرس في الطابق الثاني من الحرم ، ثم إلقاء الدرس والإجابة على الفتاوى المقرؤة حتى شروق الشمس ، ثم التوجه للسكن للنوم حتى قريبا من الظهر .. ثم نتوجه للحرم لصلاة الظهر ... ثم يعود الشيخ لغرفته في الحرم ليستقبل الفتاوى من الهاتف لساعة وبعدها يقيل حتى قريبا من أذان العصر .. بعد العصر تفتح بوابة الغرفة للزوار والطلاب والمحتاجين وذلك حتى أذان المغرب .. ويفطر الشيخ مع الناس على تمرات وقهوة وماء زمزم ، وشيئا من العصيرات إن أمكن إدخالها !! ثم بعد الصلاة يتوجه الشيخ لمن حدد في البرنامج ويشترط فيهم شرطان: أن لا يكون بعيدا عن الحرم .. وثانيا أن يوافق عليه شيخنا وغالب من يدعو الشيخ هم من المشائخ والعلماء وكذلك عدد من الأمراء وأصحاب الشيخ وأقاربه .. ثم يتوجه الشيخ للحرم لصلاة العشاء والتراويح .. وذلك في الطابق العلوي ( السطوح ) قريبا من كرسي الدرس .. ثم بعد الصلاة يتوجه الشيخ لكرسي الدرس ويلقي الدروس ويجيب على الفتاوى حتى ينادى على صلاة القيام .. فيصلي مع المسلمين حتى يختم بالقنوت .. ثم يتوجه لطعام السحور وذلك حسب البرنامج المحدد والمكتوب .. وهكذا طوال أيام العشر الأواخر .. حتى عودته للقصيم .. الإنسان حينما يروي ويحدث الناس عن ذكرياته ومواقف حياته مثله مثل الراكب على قطار سريع يسير في درب محدد ولوجهة مقصوده .. والراوي يتلفت يمنة ويسرة ثم يحكي للناس ما استطاع بصره أن يعيه ويتلقفه !! ولا يظنن ظان انه سيقدر على الإحاطة بكل ما رآه ويشاهد فهذا مما تفنى الأعمار القصيرة ولا يفنى .. والله ييسر ويعين على ما تبقى.. في ذاكرتي عن تلك الأيام صور شتى مبعثرة وغير مرتبة أنزعها من أطراف الذاكرة وأطارد تلك ، فأمسكها وألقيها في دفتري بعد نظمه ،وتفوتني أخرى فلا يمكنني اللحاق بها فهي طريدة صعبة المراس !! ويحتاج الوصول إليها لجهد لعل الله مع الأيام يمكننا منها!! يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في مقدمة ذكرياته ( فهذه ذكرياتي . حملتها طول حياتي ، وكنت أعدها أغلى مقتنياتي لأجد فيها يوما نفسي ، وأسترجع أمسي ، كما يحمل قربة الماء سالك المفازة لترد عنه الموت عطشا ولكن طال الطريق ، وانثقبت القربة . فكلما خطوت خطوة قطرت منها قطرة حتى إذا قارب ماؤها النفاد وثقل علي الحمل وكل مني الساعد جاء من يرتق خرقها ويحمل عني ثقلها .. الخ كلامه النفيس رحمه الله.. ومع أنني والحمد لله ما زلت في عز شبابي ولم ابلغ ما بلغه الشيخ علي رحمه الله في سنه إلا أنه وللأسف لم يبق في ذاكرتي مما يفيد وينفع الناس سوى القليل النادر .. كما سبق وذكرت كان البرنامج طوال الأيام العشر يسير بنمط واحد .. وحيث أن الأخ علي قد سبق له أن رافق الشيخ فقد تولى تسجيل من يدعونا، في دفتر أو ورقة يحملها معه فكان الشيخ يقول له .. سجل عندك غدا السبت عند الشيخ عبد الرحمن السد يس .. والسحور عند الشيخ عبد العزيز الحميدي وغدا عند فلان وهكذا .. مما أذكره في تلك الأيام عدد من المواقف .. كما لا حظتم لا ينام شيخنا طوال الليل إلا أن يغفو قريبا من النصف ساعة إن وجد لها متسعا من الوقت قبل السحور.. ذات يوم لم أتمكن أنا و شيخنا من النوم نهارا بسبب شغل ما ، فأثقل ذلك علينا جدا فكنت أذهب للمسجد للصلاة أو لقراءة القرءان أو لاستماع الدروس فتغلبني عيني فأنام ولا استطيع القراءة أو الإصغاء .. غير أن المشقة الأكبر هي على شيخنا رحمه الله فهو لا يجد فرصة ليستريح لكثرة الناس والمحتاجين .. فتحنا الأبواب للناس كما هو العادة في عصر ذلك اليوم وجلس الشيخ للناس والمحتاجين وللفتاوى عبر الهاتف .. ولا تسل عن حال شيخنا المسكين فقد كان يرفع سماعة الهاتف ويستمع لسؤال السائل فينام وتسقط سماعة الهاتف من يده فيرفعها ويقول : أعد سؤالك فينام ويكاد يسقط على وجهه دون أن يشعر.. وكان السائل يجلس بين يدي الشيخ فيكلمه والشيخ ينصت له ولكن النوم يغلبه فينام ويبقى السائل حائرا ولا يدري ما يفعل حتى أغمز شيخنا فيستيقظ فيقول : أين كنا؟؟ واستمر شيخنا في برنامجه حتى اليوم التالي وصمد للناس حتى بلغ به الإعياء حدا لا يوصف.. وكانت القاصمة فجر اليوم التالي .. حيث أن الشيخ رحمه الله نام وهو يستمع لقراءة الأسئلة وحوله الجمع الهائل من المستمعين والمقدر بالآلاف وكل يشهد هذا الموقف وقد يذكره بعضكم !! .. ولقد كان يتوقف أحيانا في الدرس فيغفو لثوان معدودة ثم يكمل حديثه في موضوع مختلف .. حتى ظن بعض الجهال أن الشيخ خرف!! أما أنا فاستمعت لبعض درسه فلم اقدر على التحمل فبحثت عن زاوية في الحرم وتوسدت كتابي ونمت نوما عميقا .. وظننت أني سأستيقظ قبل فراغ الشيخ من درسه .. وهذا مالم يحصل .. الذي حدث أن شيخنا حينما وصل للسيارة التي تنتظره عند الحرم ويقودها الأخ علي التفت الشيخ حوله فلم يراني .. وكان بإمكانه أن يذهب وسوف ألحقه فالدرب ليس ببعيد غير أن شيخنا لم يفعل ذلك وليته فعل !! قال لعلي : وين صاحبنا ؟؟ قال : والله ما رأيته .. فرجع الشيخ من فوره لمكان درسه وهو بعيد عن موقف السيارة ،رجع ليبحث عني والناس حوله ولا يعلمون مالذي يفعله الشيخ .. بقي الشيخ يبحث عني لساعة من الزمن .. حين ذلك استيقظت من نومي فتلفت حولي فوجدت المسجد شبه فارغ .. فقمت وسرت في الأسياب على غير هدى كأنني مخمور من شدة التعب.. فالتقيت بالشيخ في منتصف الطريق وحوله عدد من الطلبة .. فقال لي: أين كنت ؟؟ أنا ابحث عنك من ساعة !! فخجلت والله خجلا لا يعلمه إلا الله .. ولم استطع أن أجيبه من الحياء لكن شيخنا بسماحة نفسه .. تجاهل الموضوع لعلمه بسبب ذلك وقال لي: النوم سلطان جائر!! أنا شاب في قوتي نشاطي ومقتبل عمري وشيخنا رجل سبعيني ومع ذلك يتحمل شيخنا مالم أطقه أنا أو غيري من الشباب .. أذكر مرة في حج إحدى السنوات أن شيخنا لم يكن ينام خلال أربع وعشرين ساعة سوى أربع ساعات تقريبا .. ولقد كان يبلغ منه الجهد فينعس وينام وسماعة الهاتف في يده .. فأقوم أنا أو أحد مرافقيه بغلق السماعة وفصل خط التلفون وترك الشيخ وحيدا ليستريح ، فيستيقظ ويقول أين الهاتف ؟؟ فنقول له : أجهدت نفسك ياشيخي نم قليلا.. فيقول : الناس محتاجة لمن يفتيها وأنا أنام؟؟ هات التلفون .. فيرغمنا على إحضاره ونحن نشفق عليه من التعب .. من المواقف التي حصلت لنا تلك الأيام .. من عادة شيخنا أن يتصدق على فقراء الحرم من الأفارقة وغيرهم .. وهذا ما يفعله كل عام .. وعرف الناس عنه ذلك .. فطلب مني أنا والأخ علي أن نستقبل الطلبات وندون الأسماء ونجردها .. وحينما جاء يوم التوزيع وهو قبل العيد بيوم تقريبا .. تجمهر عدد هائل من الأفارقة وغالبهم من المفتولين وأصحاب الأجسام الضخمة وقوية البنية .. وكان لهم جلبة وضجيج فكنا ننادي على الأسماء فيدخل الشخص لداخل الغرفة ويستلم ما ييسره الله له .. غير أن الأمر خرج عن السيطرة ولم نقدر على ترتيبهم وتنظيمهم .. وتدافع الناس واختلط الحابل بالنابل وخفنا على الشيخ وهو لوحده في الغرفة ولم يشعر بما يحصل في الخارج .. فجهدنا أنا وعلي أن ندخل الغرفة وبالكاد دخلنا .. وأردنا أن نغلق الباب حتى يقل عدد الناس ويسهل تنظيمهم .. ولكن المشاغبين لم يرقهم هذا التصرف فدفعوا على الباب حتى كادوا أن يخلعوه حينها جاء شيخنا ورأى بنفسه الحال .. فقال: خلاص أوقفوا التوزيع !! لا يمكن أن نعطي الناس بهذا الشكل.. ولكن كيف سنغلق الباب .. فنحن اثنين نقف أمام مئات .. فحاولنا جاهد ين أن نغلق الأبواب فلم نقدر .. بل تدافع الناس ودخل عدد منهم في داخل الغرفة .. حينها استشط شيخنا غضبا .. وتقدم بنفسه ووقف أمام رجل أفريقي ضخم الجثة عظيم الرأس مفتول العضلات .. فوقف شيخنا أمامه ولا يكاد يصل بطوله لنصف جسده !! وهو النحيل ضعيف البنية فأمره بالخروج !! فكأن الإفريقي لم يفهم ولا يتكلم اللغة العربية .. فقال له الشيخ : أخرج يارجل .. فما تحرك من مكانه وصار يرطن بكلام لا نعيه .. فحاول الشيخ دفعه وفحص في الأرض بقدميه والرجل ثابت كالجبل الراسي فأشفقت على شيخنا منه .. فتقدمت إليه ولاطفته بالعبارة ومسحت على ظهره حتى خرج وكفانا الله شره ... الحلقة الثامنة والأربعون من المشاكل التي كانت تواجهنا في الوصول للحرم هو إيجاد موقف لسيارتن وذلك أن سيارة شيخنا ليست فارهة.. وفرها لنا الشيخ صالح الزامل جزاه الله خيرا .. وذلك بناء على رغبة الشيخ أن تكون من السيارات العادية البسيطة.. كما قلت إن الناس تغريها المظاهر وتلهبها الزخارف فقلما نحصل من البوابين البسطاء على التقدير.. ولذلك نعجز أحيانا في التعامل معهم .. ذات مرة مررنا بجوار بواب فقلنا له نريد أن نوقف سيارتنا بالمواقف .. فقال : هل معكم تصريح ؟؟ فقلنا : لا .. وحدثناه سرا وهمسنا في أذنه .. اسمح لنا فمعنا رجل ذو قدر وعلم ..!! فالتفت ورأى شيخنا و سيارته فقدر وفكر في المسألة بناء على ما رآه ..!! أما إن مررت أنا أو علي بالسيارة بدون الشيخ فلو دقت أعناقنا فلن نحصل على الأذن بذلك !! بمناسبة ذكر السيارات .. حين وصولي لعنيزة .. كان لدى الشيخ سيارتان .. الأولى سيارة مازدا بوكسي موديل ثمانين .. وهي سيارة الشيخ ويحبها ويهتم بها .. حتى أن قراطيس المقاعد حينها مازالت عليها في تلك السنوات.. أما ضرتها الأخرى من السيارات فهي وانيت داتسن باب واحد ويقودها أبناء الشيخ ولقد رأيت الشيخ مرارا يركبها في تنقله في عنيزة روى لي أحد الثقات .. يقول منذ زمن بعيد حيث لم يكن شيخنا يملك سيارة .. اتصل عليه الأمير سلطان بن عبد العزيز ودعى الشيخ ليزوره في مزرعته المعروفة في القصيم.. فلبى شيخنا الدعوة .. واستأجر سائقا أعرابيا ويقود سيارة تاكسي توصله لمزرعة الأمير.. فكان البروتوكول التابع للأمير قد رتب أن يستقبل الأمير سلطان شيخنا من باب السيارة .. فتوسطت تلك السيارة العتيقة سيارات الأمير وحشمه وضيوفه فأصابها الخجل والحياء أمام أخواتها الفارهات الحسن .. غير أن شيخنا لم يتأثر من ذلك.. فهو زاهد بالمظاهر ولا تحرك في مشاعره شيئا .. فلما رأى الأمير الشيخ ورأى أنه قدم مع سيارة تاكسي .. تغير وجهه وأشفق على شيخنا .. وقال : ياشيخ محمد ،لا بد أن نشتري لك سيارة .. فقال الشيخ : تعبرنا وتقضي حاجتنا .. أنا مرتاح والله يغنيك ويجزاك خير.. ولقد روى لي شخص قصة وسألت عنها شيخنا فأكد لي ما حدث.. حيث أن أحد الأمراء بعث لشيخنا سيارة فارهة جدا هدية منه .. إكراما للشيخ وحبا فيه .. فرد شيخنا ذلك وشكر المهدي وقال : اعتبر هديتك وصلت وأعفني من قبولها!! شيخنا حينما يرد تلك الهدايا لا يقصد احتقار ما يهدى أو من يقدم الهدية.. أبدا والله .. غير انه رحمه الله رجل بسيط ويحب البساطة ولا يريد التكلف في اللباس والمظهر أو المركوب .. عاش على ذلك ومات عليه .. كما هو شأن سلفنا الصالح.. فرسولنا عليه الصلاة والسلام قبل هدايا الملوك والأمراء كما هو ثابت عنه.. وكان ابن عمر رضي الله عنه يقبل هدايا الملوك.. كما صح ذلك عنه.. وهو من هو في زهده وإتباعه لآثار النبي عليه السلام وسننه.. وللعلماء في ذلك تفصيلات وتقسيمات معروفة .. يرجع لها من يريد الاستقصاء والبحث.. روى لي جمع من الناس ومنهم شيخنا بنفسه .. أنه في عام 1407 للهجرة حينما زار الملك فهد رحمه الله وعفا عنه منطقة القصيم .. اتصل الملك على شيخنا وقال له : نريد أن نزورك في منزلك.. فرحب به الشيخ وقال على الرحب والسعة إن شاء الله.. فشقت المواكب الهائلة الطرق إلى بيت شيخنا وغصت بالجنود والعسكر الطرقات في عنيزة .. ودوت صفارات الشرط.. وظن الناس أن المزور هو إحدى قصور عنيزة الفسيحة .. فتجمعت الحشود لذلك الضيف الكريم.. وقال الناس: هنيئا لمن سينزل هذا الكريم في داره.. وما علم الناس أن شيخنا هو المقصود.. وأن بيته المتواضع هو قبلة الملك والأمراء ... فلما ترجل الملك من سيارته .. ونزلت الحاشية من المواكب.. تفاجأ الملك وحشده الكبير .. أن الشيخ محمد يعيش في بيت من طين!! فصعقوا من ذلك .. وتعجبوا واستغربوا .. ولعلهم بلغهم الأمر فظنوه مبالغة.. فدخل الملك البيت .. وتجول بنظره فيه وفي جدرانه البالية .. وسقوفه المتواضعة.. فما رأى شيئا يرد النظر ويملأ العين.. ولعل الذاكرة حينها عادت به لسنوات بعيدة جدا في صغره .. حيث البيوت المشابهة في الرياض القديمة والدرعية .. فشق ذلك على الملك وأبت عليه نفسه إلا المبادرة .. فعزم على الأمر وعقد النية .. وحينما دخل للمجلس .. وجلس على الأرض مع الشيخ الكريم.. الذي هلل ورحب بالملك وضيوفه .. بادره الملك قائلا: يا أبا عبد الله لا بد أن تقبل مني هدية بسيطة.. ولم ينتظر جواب الشيخ .. وقال: أريد ابني لك بيتا .. فابتسم شيخنا .. وقال : جزاك الله خيرا ولكنني مرتاح في هذا البيت وخيركم وصل يا أبا فيصل وهديتكم مقبولة .. ولكن أعفني من ذلك .. فألح عليه الملك وأصر .. ولكن شيخنا أبى.. وقال له: وجودك في منزلي هو أبلغ إكرام .. فقبل الملك منه ذلك وعرف أنه رجل زاهد ومهما حاول معه فسوف يعجزه ولقد زار شيخنا في هذا المنزل البسيط الملك سعود والملك خالد والملك فهد رحمهم الله جميعا.. قال لي الشيخ مرة : والله لقد مر علي زمان لا أملك الريال الواحد في جيبي!! وبعد سنين ابتنى شيخنا بيتا آخر بعد أن وسع الله عليه .. ونزله منذ عام 1409 للهجرة وبقي فيه حتى وفاته.. رحمه الله ورزقه القصور في الفردوس الأعلى.. نرجع لقصتنا!! في تلك الدعوات التي يتلقاها شيخنا من المشائخ والعلماء وغيرهم.. تدور نقاشات وحوارات مع المشائخ فيخرج المستمعون والحاضرون بدرر ونفائس لا تجدها في المجالس المعتادة .. فوجود هؤلاء الصفوة يضفي على المكان ذوقا وطعما خاصا .. ما رأيك بمجلس يجتمع فيه أسماء لامعة لخيرين ومصلحين .. نحو .. الشيخ عبد العزيز بن باز .. والشيخ ابن جبرين .. أو الشيخ عبد الله البسام أو الشيخ ابن منيع أو مشائخ وأئمة الحرم كالسد يس والسبيل والشريم وابن حميد وغيرهم أو الشيخ عائض القرني وسعيد بن مسفر وعبد العزيز الحميدي.. هذا الأخير وهو الشيخ عبد العزيز الحميدي هو من أحب الناس وأقربهم لشيخنا.. و طالما استضاف شيخنا في بيته العامر بكرمه هو وأبناءه الأبرار وعندي من الذكريات الجميلة في بيتهم العامر في العزيزية ما أجد لذته حتى هذه اللحظات وبعد تلك السنوات المديدة .. الشيخ عبد العزيز عالم جليل وهو أحد تلاميذ الشيخ القدماء جدا والذين تتلمذوا على شيخنا في عنيزة قبل أن يعرف ويشتهر.. للشيخ عبد العزيز الحميدي مؤلفات جميلة ومفيدة ومنها كتابه الرائع (التاريخ الإسلامي دروس وعبر ) وهو من أنفس ما قرأت في بابه.. وله درس معروف في إذاعة القرءان الكريم.. من يستمع للشيخ عبد العزيز ويصغي لنبرات صوته الهادئة وهو يقرأ تلك الرياحين العطرة.. والنسائم العذبة .. تجعلك تعيش وتنغمس في تلك المشاهد الجميلة والقصص الفذة الرائعة عن سلف الأمة .. رضوان الله عليهم .. كنا نمكث في بيتهم في أيام الحج وغيرها فلا نشعر بالغربة أو التكلف.. كنا كأننا في بيوتنا بل أحلى !! من البساطة والسماحة وصفاء الروح وطهارة الباطن قبل المظهر.. هم كما قال حاتم الطائي... أضاحك ضيفي عند إنزال رحله ويخصب عندي والمكان جديب.. وما الخصب للأضياف أن تكثر القرى ..ولكنما وجه الكريم خصيب إن من أكثر اللحظات التي أرى شيخنا فيها مسرورا وسعيدا هي تلك الساعات والليالي التي يقضيها في منزل الشيخ عبد العزيز وبين أولاده روى ليش الشيخ عبد العزيز يقول: تتلمذت في شبابي عند الشيخ محمد في عنيزة وذلك قبل انتقالي للعيش في مكة فكنا نجد من الشيخ محمد مالا نجده لدى المشائخ الآخرين من قوة الحجة ونصاعة البيان والاهتمام بالدليل ونصرة أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله .. فلما انتقلت للرياض لإكمال دراستي النظامية .. افتقدنا الشيخ محمد وأسلوبه الفذ .. ولم نجد في الرياض ما كنا نجده في علم الشيخ .. فعلماء الرياض حينها ساروا على الأسلوب القديم في التعليم وهو أن يقرأ على الشيخ فيعلق تعليقات بسيطة دون استرسال وبسط في المسألة فيمر عليها مرورا سريعا دون بحث متعمق وهو ما كنا نجده عند الشيخ محمد فأثر ذلك على نفسي وأصابني بإحباط وكسل .. وذلك كردة فعل على فقدان الشيخ وعلمه وأسلوبه.. فتوجهت لقراءة كتب الأدب والتاريخ .. الخ كلامه عن شيخنا الحلقة التاسعة والأربعون ذات يوم من أيام العشر الأخيرة من رمضان و بعد صلاة الظهر ونحن جلوس في غرفة الحرم سمعنا صراخا وعويلا تردد صداه في الحرم !! فأفزعنا ذلك جدا .. وكان الشيخ محمد أولنا في التوجه لمصدر الصوت .. وحينما لحقناه وجدنا أن سبب الصراخ أن مجموعة من النساء المعتمرات من ذوات البشرة السمراء وممن آتاهن الله تعالى سعة في الأجسام.. وقوة في البنية .. ويسرن في صف مستقيم كأنهن جنود كتيبة في جيش.. لا يردعهن رادع ولا يمنعهن حائل..!! لم يجدن طريقا للوصول للكعبة المشرفة بسبب الزحام .. ومنع الناس من الوصول للكعبة من الاكتضاض .. فهداهن فكرهن المبتور وعزمن على شق طريق لهن مهما كانت النتائج..!! فوجدن أيسر طريق وأسهل سبيل هو أن يمشين من فوق النساء المفترشات لأرضية المسجد..!! وهذا والله ما حدث!! وفي النساء المسكينات النائمات على البلاط ، الكبيرة والمريضة والضعيفة.. فوطأن تلك النسوة القاسيات على الأجساد النحيلة.. ولم يرحمن ضعفهن .. ولا استغاثتهن !! عندها حدثت الجلبة وصرخن صراخ المكلومات توجعا من الدهس والرفس!! ولكن دون استجابة أو رحمة.. فحاولنا نحن جاهدين أن ندرك الموقف ونقلل الخسائر بقدر المستطاع..!! ولكن كتيبة الموت تلك مرت وما عبأت بندائنا وترجينا لهن ..!! حتى وصلن للجهة الأخرى ومخرن عباب الزحام بكل جدارة واقتدار!! عجيب أمر بعض الحجيج والمعتمرين!! كنت مرة أطوف مع الشيخ حول الكعبة .. فسمعنا رجلا يحمل سبحة في يده.. وكانت من طولها وعدد حجارتها تزحف في الأرض!! وجسمه ضخم كالبعير وبشرته سمراء.. وشعره أجعد وهو كفيف البصر سمعناه يصرخ ويدعو: رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي!! ومرة لحق الشيخ رجلا نصف رأسه محلوق والنصف الآخر غير محلوق.. ومنظره مقزز .. فقال له الشيخ : لم نصف رأسك محلوق وتركت الآخر؟؟ فقال : أنا سأعتمر عمرتين أحدها لي والأخرى عن أمي فهذه الحلاقة للعمرة الأولى!!! وروى لنا الشيخ صالح الزامل حفظه الله أنه سمع معتمرا يطوف بالكعبة المشرفة ويسبح بسبحته ويقول في تسبيحه : ياحسين ابن علي ،ياحسين ابن علي!! وكنا مرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد شيخنا بعد أداء الصلاة أن يسلم على رسول الله عليه الصلاة والسلام وصاحبيه .. وكان الزحام هائلا حول القبر.. وغالب الزوار من الجنسيات الآسيوية من الباكستان وغيرها .. وحينما رأى العسكر ورجال الحسبة الواقفين حول القبر الشيخ.. طلبوا منا أن نمر من فوق الدرابزين المحيط بالقبر.. فهو أسهل علينا وحتى نسلم من الزحام.. فتقدم شيخنا وكنت بجواره وسلم على رسول الله قائلا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يارسول الله .. نشهد أنك بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت للأمة وجاهدت في الله حق جهاده حتى أتاك اليقين .. ثم مر من أمام قبري صاحبيه وسلم عليهما رضي الله عنهما .. فأردنا الانصراف والنزول .. ولكن الحشود التي حول القبر كان لها رأي آخر..!! فوجه شيخنا المضيء .. وشكله المميز واهتمام الحرس به .. لفت نظرهم فكأنهم قالوا : هذا ولي من الأولياء !! فتقاذفوا للسلام على شيخنا والتبرك به!! .. فكانوا يمدون أيديهم لمصافحته .. وبعفوية وطيب نفس مد شيخنا يده للسلام عليهم ومصافحتهم وليته لم يفعل!! فقد تدافعت الجموع وعلا بعضهم فوق بعض!! ولم يكتف بعضهم بالسلام.. بل صاروا يتمسحون بيد الشيخ على الوجه والجبهة.. وسحب شيخنا وسط الجموع وسقطت غترته وعباءته عن ظهره ..!! ولقد رأيت أحدهم يمسك يد شيخنا فمسح بها من رأسه وحتى قدميه !! وشيخنا الضعيف النحيل لم يقدر على الفكاك منهم .. وكان يعلو ويخفق وكادت ذراعه أن تخلع .. فتزاحم العسكر ودفعوا الناس والجهالة .. وفك شيخنا وبالكاد !! ولا أظنه عاد لها من بعد أبدا!! روى لنا الشيخ محمد السبيل إمام الحرم في إحدى الجلسات في بيته بحضور شيخنا رحمه الله .. أنه في إحدى سفراته لدولة الباكستان .. بصفته إماما للحرم الشريف.. احتفي به احتفاء كبيرا وأكرم من الحكومة والشعب غاية الإكرام.. وطلب منه التنقل بين الولايات الباكستانية لزيارة الناس والإطلاع على أحوال المسلمين .. فوافق الشيخ وكانت وسيلة التنقل هي القطار!! وبينما هم يسيرون ويمتعون نظرهم بين الوديان الجميلة والمناظر الخلابة البهيجة .. إذ فجأة توقف القطار!! فظنوا أن هناك عطلا ما !! وقريبا سيستأنفون المسير.. ولكن التوقف طال و استمر لساعات !! ولم يكن الشيخ السبيل ورفقاؤه يعرفون السبب .. وبعد مرور وقت طويل من الانتظار وشعور الشيخ ومرافقيه بالملل.. جاء ه عدد من المسئولين الباكستانيين ممن يشرف على تنظيم تنقل الشيخ ومعهم الترجمان ..وعلى وجوههم العبوس والضيق !! فقال الشيخ : ما القصة؟؟ فتكلم قائدهم وكان مطأطأ الرأس من الخجل وقال :ياشيخ محمد هناك مجموعة من القرويين ممن ويعيش في القرى حول طريق القطار قد ربطت نفسها بالحبال على سكة الحديد !! وأقسمت أنها لن تتحرك حتى تموت !! أو تنزل أنت للسلام عليهم .. ولقد باءت كل محاولتنا لثنيهم بالفشل وأكدنا لهم بالأيمان المغلظة أن برنامجكم محدد ولديكم.. مشوار طويل واحتفالات في المدن وهم في الانتظار.. والوقت غير مناسب .. ولعل ذلك يكون في زيارات أخرى فرفضوا ولم يقتنعوا.. وقالوا : أين نجد شرفا كهذا الشرف ؟؟ كالسلام على إمام الحرم الشريف..!! فتعجب الشيخ السبيل من إصرارهم وحتى لو على موتهم وتقطيع أجسادهم!! وقال : إذا لا بأس سأنزل للسلام عليهم.. فقالوا : ياشيخ محمد نحن نخاف عليك .. ونخشى عليك الغوائل!! فهؤلاء فيهم الهمج والرعاع وقد يفعلون أمورا ويتصرفون تصرفات غير حميدة و غير متوقعة !! ولو سمع الناس بفعلتهم لأوقفتنا القرى طوال الطريق.. ولكن الرأي أن تبقى أنت في القطار ونفتح لك النافذة ويحضرون هم للسلام عليك.. فقال الشيخ : لا بأس فليحضروا.. فجاء الناس وكان عددهم هائلا.. وتوافدوا من الوديان والشعاب .. فتجمعوا للسلام على إمام الحرم .. فلا تسل عمن صافح و وعمن قبل وعانق وبكى من الفرح .. حتى كاد الشيخ أن يختنق من كثرتهم وتجمهرهم عليه !! وهو ذو البنية الضعيفة والسن الكبير والجسم القصير حفظه الله ورعاه.. ولقد ذكر الشيخ السد يس تعليقا على كلام الشيخ السبيل أنه في إحدى زياراته فقد عباءته حيث نزعت منه بالقوة !! ومزقت ووزعت خيوطها بين القبائل وبيعت بأعلى الأثمان!! أذكر مرة أن الناس اجتمعت على الشيخ كعادتهم بعد صلاة العصر فلفت اجتماع الناس فضول المعتمرين فجاءت مجموعة أظنها من شمال أفريقي فقال لي أحدهم : من هذا ؟؟ فقلت لهم : هذا أحد العلماء والناس تسلم عليه.. فقال : ما اسمه؟؟ فقلت : اسمه الشيخ محمد بن عثيمين.. فسمعته يقول لأصحابه وهو منصرف: هذا الشيخ اسمه ابن تيمية!! ومرة كنا خارجين من الحرم .. وركب الشيخ السيارة .. وكان يقرأ ورقات بين يديه .. فمدت له يد من خارج نافذة السيارة .. ولم يلتفت الشيخ جيدا لمن يصافحه .. وحينما لمست يده يد المصافح .. صرخت أنا بها !! فقد كانت امرأة من المعتمرات ..!! جاءت للسلام على الشيخ حينما رأت الزحام عليه.. فالتفت الشيخ وضحك من ذلك .. ولم يلحظ أحد ذلك سوانا وإلا لقيل ابن عثيمين يصافح النساء!! وحاشاه رحمه الله.. الحلقة الخمسون هانحن أوشكنا أن نغادر مكة وربوعها .. وقد قطفنا بعض ثمار الذكريات فيها .. ولا بأس من جلب شيء من الثمار لمكة من المدينة وجدة والأردن!! أردت عن قصد ونية مما سبق أن أشاغل الناس بشيء من مواقف الشيخ الجميلة واللطيفة.. حتى لا تفسد تلك المشاكل الشخصية بيني وبين صاحبنا المعهود.. طعم القصة والحكاية بمرارتها .. وقد أوشكت!! لقد رأيت أن القراء الكرام تضايقوا مما حدث .. وبعضهم استغرب حدوث ذلك .. واستنكره واستهجنه.. وحق لهم في ذلك ..!! ولكنني أذكرهم وأقول لهم : أقرءوا التاريخ والسير.. ابتداء بسير المرسلين عليهم السلام ومرورا بسير أصحاب رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وسير السلف الصالح والعلماء والخلفاء والملوك وكذلك بعض القصص الجاهلية والحديثة.. فستجدون أن ذلك أمر متجدد عبر الزمان ولا يستغرب وقوع ما هو أروع منه وأغرب وأعجب وأنكى ممن سماهم الله تعالى ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين ) وقوله تعالى ( إنه كان ظلوما جهولا) خاصة وأن الحدث وقع بين طلبة علم ومن حلقة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله المقربة.. وما الغرابة في ذلك ؟؟ أليسوا بشرا ؟؟ ألم يقع في الصالحين ما هو أغرب ؟؟ السؤال الشرعي هو: هل ذكر مثل هذه المواقف والأحداث يفيد ؟؟ ما العبرة والحكمة من روايتها؟؟ أليس من المتوقع أن يعقل الناس وتتوب وتنسى تلك المهازل والسفاهات..؟؟ أليس من المؤسف هو نبش تلك الأحداث وإخراجها للناس حتى تفتح بابا للقيل والقال؟؟ هذه تساؤلات أوردها على نفسي كل يوم وفي كل حلقة أدونها.. و قد جاوبت نفسي وغيري بالتالي: أنا أروي ما حصل كرواية شخصية أو كما سماها احد المعلقين الكرام ( سيرة ذاتية) ابتدأت من حياتي الشخصية ثم مرورا بمواقف عديدة حتى وصلت لشيخنا رحمه الله.. ثم ستستمر الرواية ... في أمور وبلدان تنسي أهوالها وأحداثها .. كل ما مضى ؟؟؟؟ فما زلنا في البداية !! فمن عنيزة حتى كرواتيا حتى حرب البوسنة المهولة ثم مرور بكوسوفا ثم أفريقيا وبالخصوص في إثيوبيا والسودان والكاميرون وتشاد وغيرها ..!! فالقصة طويلة والحكاية لن تقف على شيخنا رحمه الله أو غيره.. ولا أخفيكم أن هذا ما لم أكن عازما عليه منذ البداية !! فقد عزمت على أن أدون ثلاث روايات متفرقة ولكن بعد مشاورة وقراءة تجارب مثيلة رأيت دمج الموضوع في تسلسل واحد .. حتى يستوعب القراء تلك الذكريات ولا أشتتهم في ثلاث محاور قد يكون الربط بينها يحتاج لعناء ومشقة.. فالأفضل إن شاء الله هو استكمال كل مرحلة ثم الانتقال للمرحلة التي تليها .. والظن إن شاء الله أنني لو تمكنت من الاستمرار على نفس المنوال وهو تنزيل خمس حلقات أسبوعيا فالمتوقع استكمال القصة في أقل من سنة بحول الله تعالى يصدف في هذه السير ذكر بعض الوقائع الحقيقية والتي سببت في وقتها مشاكل للراوي .. فأنا أمام خيارين اثنين: إما أن أسكت وتبقى القضية مبهمة والتهمة معلقة على رأسي حتى يهنأ مثيروها ويسلموا من جريرتها وعاقبة فعلهم.. وبالتالي يبقى في القصة فراغات هائلة وعلامات استفهام كبيرة فتكون عديمة الفائدة بل تكون سببا للتندر والهزل.. أو علي أن أكشف الموضوع بكل جوانبه وحذافيره مع ذكر الأسماء والوقائع والشواهد وأنا غير ملام في ذلك لأنني الحلقة الأضعف و الجهة المتلقية للظلم أو للصفعات واللطم!! أو علي أن أروي قصتي كما يحلو لي وأتجنب التوصيف الدقيق أو تسمية الخصوم ،قناعة مني ورضا بما قدره ربي علي ثم لما قد يترتب عن ذلك من تشويش على أصحاب تلك المخازي وهم الآن في غنى عن ذلك!! وأنا اخترت الخيار الثالث عن تفكير واستخارة واستشارة ورغبة في البعد عن الشقاق والنزاع.. ولكن يبقى الخيار الثاني واردا إن رأيت أن في ذلك مصلحة أولها رضى الخالق سبحانه ثم الدفاع عن نفسي ولو كان متأخرا.. إن تعرضت لتعد متجدد من الطرف المعني.. و السؤال هو لماذا لا نستمع للحكاية حتى النهاية ثم من بعد ذلك لنحكم عليها.. وليتكلم وليعلق ولينبش وليكذب!! كل من يريد فعل ذلك فأنا لم اكتب حتى هذه اللحظة تلك الرواية في كتاب أصم !! بل كتبت كل دعواي وما زعمته في منتديات حوارية أتلقى فيه من الثناء أو الذم !! كل ذلك عندي سواء.. فلماذا لا يسع الجميع ما وسعني ووسع الآخرين ؟؟ لماذا إتباع سياسات خرقاء يترتب عليها أمور لا يحبذها عاقل ول يبحث عنها لبيب.. أتمنى أن تصل رسالتي لمن اعنيه ويفهم ما اقصده ويعلم أنني أحكي وقائع ومشاهد أقسمت على كل كلمة وحرف منها وأشهد ربي سبحانه عليها وهو المولى والنصير .. قد يتضايق بعض الإخوة القراء من كثرة تكراري لمثل هذا الكلام وأقول لهم جميعا يا إخوتي هناك أناس يتربصون بي من خلف الكواليس جبناء وسيأتي الوقت قريبا الذي افضحهم فيه .. ولقد سمعت منهم كلاما ورسائل بعثوها ... ألزمتني أن أؤكد على تلك المعاني والمباديء كل مرة .. وأقول لهم لن أعيد كلامي!! فلو تمادوا في غيهم وتجاوزوا الحدود فلن يكون صدر مالك وحده يحويهم .. !! وسأسمع كل من يعقل ما فعلوه وبعدها فليدفعوا الحساب.. حسنا لنرجع لقصتنا .. انتهى رمضان وأعلن العيد وعاد الأخ علي بشيخنا لجده ومنه رجع بالطائرة للقصيم .. أما أنا فرجعت لعائلة في الطائف وبقيت هناك عدة أيام قضيت فيها مع العائلة الكريمة .. والحمد لله .. ثم عدت للقصيم .. فوجدت عنيزة شبه خالية من الطلبة .. حيث أن أغلب الطلبة لدى عوائلهم وأهليهم.. وحينما شارفت الإجازة على الانتهاء توافد الطلبة وغص بهم الجامع .. قدم لعنيزة طالب من مدينة الطائف اسمه محمد العباد.. وقد سبق أن رأيته في الطائف قبل قدومي لعنيزة.. دون أن اعرفه باسمه أو أن احتك به.. هذا الطالب ترى من وجهه الجد والصرامة ويشع من عينيه بريق الفطنة والذكاء.. بعد صلاة العشاء وخروجنا من الدرس المعتاد.. لحق الأخ محمد بشيخنا وكنت معهما أسير كما هي عادتي.. انتظر انتهاء الطلاب من أسألتهم ثم أبدأ بقراءة ما عندي من أسئلة وغيرها.. تناقش الأخ محمد مع شيخنا في مسألة فقهية .. وكان في الأخ محمد حده فكان شيخنا يرد على كلامه فيرد الأخ محمد على الشيخ بإيرادات جميلة تدل على فطنته.. غير أن أسلوبه كان فظا فهذا ما جعل شيخنا يحتد معه أيضا.. اذكر أن الأخ محمد رد على الشيخ فقال له: هذا قول ابن حزم الظاهري في المحلى.. فاستشط شيخنا غضبا وقال : وهل المحلى كتاب منزل من السماء؟؟ ثم أورد عليه كلام ابن القيم في ابن حزم في كتاب إعلام الموقعين.. فرجع الأخ محمد وبقيت مع الشيخ وحيد ا وكأنه شعر بحدته فقد كان شيخنا رحمه الله سريع الفيئة!! فقال لي: يبدوا على هذا الطالب النباهة والفطنة .. في اليوم التالي .. وكنت جالسا في مكتبة السكن .. جاءنا اتصال من مستشفى الملك سعود في عنيزة .. فرد مشرف المكتبة على المكالمة.. فكان المتحدث من المستشفى يقول : حصل حادث لمجموعة من طلبة الشيخ .. فصعدت فورا لغرفة مشرف السكن وهو حينها الأخ صالح المرعشي الحربي فأيقظته من النوم.. ففزع ،وأذكر أنه كان يتحدث مع نفسه من الروعة.. فتوجهت معه للمستشفى .. فقابلنا مشرف شئون المرضى حينها وهو الدكتور محمد الحركان فقال لنا : لقد توفي في الحال سائق السيارة وسائق السيارة الأخرى.. فقلت له : ما اسم السائق ؟؟ فقال: لم نعرف هويته حتى الساعة .. ولكن دعونا نتوجه للثلاجة فلعلكم تعرفون الميت..!! حينما دخلنا ثلاجة الموتى أصابتني قشعريرة وخوف وارتباك فلم يسبق لي أن رأيت موقفا كهذا .. وهممت بتركهما .. رأينا شخصا ممدا على سرير ومغطى بشر شف أبيض .. وعلى جهة الصدر بقع كبيرة من الدم .. فتقدم الدكتور محمد للجثة من جهة الرأس ونظر لوجهي ووجه مرافقي كأنه يقول: هل أنتما مستعدان للتعرف على الميت؟؟ فتسارعت نبضات قلبي وكدت أن أتراجع .. فنزع الغطاء فتأملت الميت فإذا هو الأخ محمد العباد الذي كان يتجادل بالأمس مع شيخنا رحمه الله !! ويؤمل شيخنا فيه ما يؤمل!! رحمه الله وعفا عنه وأسكنه الفردوس الأعلى تنبيه للأسف فإن تسلسل الأحداث عندي قد لا يكون فيه انضباط ودقة كما ينبغي.. قد يحصل ان اذكر أحداثا ولا استطيع التأكيد عن وقت حصولها هل بعد رمضان ام قبله هل في فترة الإجازة ام في وقت الدراسة .. أصل الأحداث معلوم وميقن منه لكن تحديد الزمن بدقة صعب للغاية فارجوا ممن اطلع على حدث ولديه ملاحظة حول الزمن أو التسلسل أن يسارع بتنبيهي حتى أعدل تلك المعلومة.. الحلقة الواحدة والخمسون حضر مجموعة من طلبة الشيخ درس الشيخ سليمان العلوان حفظه الله في مدينة بريدة .. الشيخ سليمان العلوان لمن لا يعرفه كان في تلك السنين شابا في مقتبل عمره .. آتاه الله من العلم الراسخ خاصة في علم الحديث .. والفهم الثاقب وسعة الإطلاع ما يبهر الأبصار ويحير الألباب تسامع به طلبة العلم فتقاطروا عليه من كل مكان .. ولقد رأيت في درسه وحضرته مرة واحدة فقط رأيت من يكبره مرة أو مرتين ويحمل أعلا الشهادات العلمية وقد ثنى ركبتيه بين يديه.. وكان درسه بعد صلاة الفجر .. حضره عدد من طلبة الشيخ وبعد رجوعهم من الدرس وكان ذلك يوم خميس أعترضتهم فجأة سيارة يقودها رجل مسن ومعه مرافق مسن أيضا.. فاصطدموا به فتطاير الركاب من السيارتين .. وضرب مقود السيارة على صدر محمد العباد فمات في الحال.. وتوفي أيضا قائد السيارة الأخرى رحمه الله.. وتهشمت السياراتان حتى تلفتا تماما ولم تعد تصلحان للانتفاع بتاتا.. كانت تلك الحادثة المروعة مجزرة بما تعنيه العبارة من معنى!! فقد خطف الموت طالبا مجدا وهو الأخ محمد العباد رحمه الله وأصوله من اليمن وفقد أحد الطلبة إحدى عينيه وكاد يعمى ومكث في الإنعاش أسابيع عديدة وهو الأخ محمد الأمين السوداني وكسر أللحي السفلي لأحدهم وكاد يتلف ويهلك.. وهو الأخ عبد الله حافظ الباكستاني والآخر أوشك على الموت فقد تكسرت أضلاعه وشل شللا نصفيا وهذا للأسف نسيت اسمه وهو من سكان جده ومن قبيلة حرب وقد كان الأشد تضررا من الحادث أعانه الله وخلف الله عليه خير حينما سمع شيخنا بالخبر .. أراد الذهاب للمستشفى في عصر ذلك اليوم للاطمئنان عليهم بنفسه .. وقال لي : جهز سيارتك سأذهب معك للمستشفى!! سيارتي من نوع الجالنت اشتريتها من أخي الكبير بسعر زهيد و هي سيارة شبه متهالكة!! و وهيئتها وما وضع عليها من زخارف لا تليق بي أنا كطالب علم فكيف بشيخنا !! قد مضى على وجودها معي أياما معدودات ولم أتمكن من تغيير ما عليها من زخارف وعبارات مخجله !! حتى أن أخي سامحه الله قد هبط هيكل السيارة بحيث توشك أن تحتك بالطريق !! تفهمون ما أعنيه جيدا !! عندما قال لي الشيخ: سأذهب معك بسيارتك.. قلت له: ياشيخي سأستعير سيارة من احد الزملاء .. فقال: ولما ؟؟ أبي أشوف سيارتك ونجربها!! توكل على الله وجهزها لي بعد الصلاة عند باب المسجد!! وقعت في حرج شديد واستحييت أن أركب شيخنا على مثل هذه السيارة المريعة !! بعد العصر سبقت الشيخ لخارج المسجد وجهزت له السيارة .. فلما جاء واقترب مني وركب فيها قال لي: مبارك !! هل هذه سيارتك؟؟ فقلت له : لا ،ياشيخ هذه ليست سيارتي هذه لأحد الزملاء!! فقام شيخنا مغضبا من فوره وخرج من السيارة وأشار لطالب آخر فركب معه وتركني!! لحقتهم للمستشفى فوجدت سيارتي التي تركتها مع صاحب السيارة التي أقودها .. فأرجعتها له وأخذت تلك العجوز المريعة.. فأوقفتها أمام باب المستشفى !! فإذا كانت هذه رغبة الشيخ فليكن!! لحقت بشيخنا وتجولت معه على المرضى .. وكان في استقبال الشيخ الرجل الشهم والكريم المفضال الدكتور عبد الله البداح المشرف العام على المستشفى وعدد من الإداريين .. حينما زرنا الأخ محمد الأمين وكان في غيبوبة تامة قال لنا الممرض: هذا الرجل طوال الوقت في غرفة العمليات.. كان يقرأ القرءان ويسبح ويهلل وهو في غيبوبة تامة ..!! وقف شيخنا على رأسه ودعا له وقرأ عليه ونفث.. ثم تنقلنا في غرف الإخوة الآخرين عبد الله والأخ الذي نسيت اسمه.. وكان وضع الأخير حرج للغاية مما استلزم نقله لجدة بعد عدة أسابيع كانت حاله كما ذكرت خطرة للغاية وكانت معرضة للتطور في أي لحظة وكان في غيبوبة .. وبعد فترة تحسنت حالته نوعا ما وصار يفتح عينيه ولكنه لا يعرف من حوله ولا يعقل .. وفي إحدى الزيارات حيث كان شيخنا يزور المرضى دوم حدث موقف عجيب وغريب .. عندما وقف شيخنا على رأس أخينا الكريم واقترب منه ودعا له وقرأ عليه كما يفعلها كل مرة.. حينها نظر الأخ في وجه الشيخ فتأمله وكأنه عرفه فابتسم وضحك !! فقال الشيخ وهو ممسك بيده : هل يعرف من حوله ؟؟ فقال الطبيب: أبدا هو لم يفعل هذا من قبل !! وكنا كلما زرناه مع الشيخ يكرر ما فعله دوما فيضحك ويتهلل وجهه .. فسبحان من ملأ قلوب عباده حبا لهذا العلم الجليل وخصوصا تلاميذه الذين يرونه في مقام الوالد الرحيم بل اشد من ذلك!! وليخسأ الخاسئون!! همس أحد الطلاب في أذن الشيخ وقال له: ياشيخ نريد رؤية الأخ محمد العباد فقال الشيخ : هو ميت !! فقال : ياشيخنا لا بأس للاعتبار!! الشخص الذي همس في أذن الشيخ وقال له ما قال .. حدث له حادث بعد سنوات على طريق المدينة القصيم وكانت معه زوجته وأبناؤه فتوفي رحمه الله من فوره .. وسلمت زوجته وأبناؤه.. وقد بلغني الشيخ بموته حينما اتصلت عليه من البوسنة.. فقال لي: هل سمعت بفلان لقد صار عليه حادث وصلينا عليه اليوم.. حينها والله تذكرت كلمته حينما قال لشيخنا : نريد الاعتبار.. واسمه عبد الرحمن داود رحمه الله.. من خيرة الطلبة وأكثرهم حرصا على التحصيل والطلب عفا الله عنه وجعل مثواه الجنة.. دخل الطلبة على جثة الأخ محمد وقد وضعت في داخل الثلاجة.. ولما رفع الغطاء عن وجهه تأمل الشيخ وجهه وسكت قليلا .. وهز رأسه ثم دعا له و انصرف.. خرجنا من المستشفى وكان الشيخ قد رأى على وجهي كرها لما فعله معي فقال لي: هل أحضرت سيارتك؟؟ فقلت بخجل وحياء: نعم.. استحييت والله من الطلبة ومن مدير المستشفى أن يروا دابتي!! وصلنا للباب وخرج الشيخ .. وودع مرافقيه وفتحت له باب السيارة.. وقال قبل أن يركب: هذه هي؟؟ قلت : هي والله !! فدخل فيها وقرأ دعاء الركوب وأخذ يلمس مراتبها ويمسح على مقدمها ويقول: مبارك يا أبا عبد الله لتهنأ لك وجعلها عونا على الطاعة!! فخرجنا من المستشفى واعتذرت من شيخنا عما بدر مني فقال : لا تخجل السيارات كلها سواء المهم توصلك لحاجتك.. ثم انشغل رحمه الله بتقليب المذياع والنظر في سقفها والتبريك والدعاء وكأنني أقود أفخم وأرقى طراز .. رحمه الله ما ابسطه وأكرمه وألطفه.. في اليوم التالي صلينا على الأخ محمد العباد بعد صلاة الجمعة.. وأمنا شيخنا رحمه الله .. ثم خرج بنفسه وتقدم الجنازة راجلا .. وقد حملت على الأكتاف حتى المقبرة والتي تقع في الجهة الشمالية من عنيزة وكأن الإخوة الذين يحملون الجنازة استعجلوا في السير ليلحقوا الشيخ فقال لهم معاتبا : سيروا على مهل هل تريدون الجنازة أن تسقط؟؟ وصلنا للمقبرة وجلس شيخنا على التراب .. حتى يصلي على الجنازة من لم يصل.. وحتى يحضر الميت ويدفن .. وضع الأخ محمد رحمه الله في القبر .. وكان والده موجودا ومتأثرا جدا من فقد ولده .. وقرة عينه .. خلف الله عليه خيرا .. وجعله فرطا له إلى الجنة..
    7 "




  8. كود:
    بكى والده على قبره فأبكى من حوله .. نظرت للقبور ذلك اليوم وكانت على مد البصر.. رأيت رجلا يسير بعيدا من بين القبور وكنت اعرفه .. فسالت : أين يذهب؟؟ فقالوا: يزور قبر شيخه عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله جاء والد الأخ محمد وسلم على شيخنا وقبل يده وبكى بكاء كما تبكي الثكلى فصبره شيخنا ودعا له ولولده محمد وقال : يخلف المولى سبحانه عليك في إخوان محمد.. فلا تتحسر فكلنا موتى وهذا آجال .. الخ كلامه رحمه الله ولقد واساه شيخنا ودعاه في بيته واستضافه طوال بقاءه في عنيزة .. مرت الأيام تترى وبوتيرة سريعة .. وما أسرع ما جاء موسم الاستعداد للحج.. حيث أوقف شيخنا الدروس المعتادة .. وشرع في دورة مركزة في القراءة من أبواب الحج من الزاد ومن كتب المناسك وكذلك كتابه الصغير في حجمه الكبير في قدره المتعلق بالأضاحي .. وقد قرأناه عليه وشرحه شرحا وافيا .. فخرجت بفوائد عظيمة واستطعت الإحاطة بتوفيق المولى بجميع ما يتعلق بالحج والمناسك والأضحية من تلك الدروس.. فجزى الله شيخنا خير الجزاء ورضي عنه وجعل قبره روضة من رياض الجنة في الأيام الأخيرة من شهر ذي القعدة .. وقبل رؤية هلال ذي الحجة توجهت مع شيخنا لأداء الحج.. وكان في استقبالنا الشيخ صالح الزامل والأخ علي السهلي وجمع كريم من الإخوة المحبين.. توجهنا لمكة شرفها الله لأداء العمرة وتحللنا بعد ذلك .. فقد كنا متمتعين كما هو معروف من أنواع النسك.. أرجعنا السيارة التي كانت معنا للشيخ صالح الزامل واستبدلناها بسيارة جديدة تركت تحت تصرفنا ..!! سألت شيخنا: ما هذه السيارة هل هي مهداة؟؟ فقال: كلا ، هذه السيارة تابعة لوزارة الشئون الإسلامية حيث أشرف سنوي على الدعوة في صالة الحجاج والميناء !! الحلقة الثانية والخمسون برنامج شيخنا في فترة الحج برنامج شاق ومرهق بما تعنيه الكلمة من معنى حيث يحتوي على برامج متتابعة من دروس ومحاضرات وفتاوى وتنقل بين المخيمات قبل وبعد الحج وأثناءه .. ولقد كان يصيبني الفتور والإعياء من كثرة البرامج وشيخنا في قمة نشاطه!! في الحج كنت أنا رديف شيخنا ولم يرافقنا أحد من أقارب الشيخ أو أصحابه وكنا طوال فترة بقاءنا في مكة وكذلك في مخيم الحج في ضيافة شهم سأتحدث عنه لاحقا.. توجهنا بسيارتنا الجديدة (وهي جيب تايوتا لون رمادي) لمكتب التوعية الإسلامية الواقعة في حي الششة والذي يقابله جامع سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله حيث كان شيخنا يمكث كثيرا في ذلك المكتب لاستقبال الزوار من العلماء والمشائخ والمستفتين وأمامه هاتف لا يتوقف عن الرنين لأربع وعشرين ساعة للفتاوى.. ولسائل أن يتساءل كيف يعرف الناس رقم تلفون الشيخ في مكة أو في جده أو غيرها من المدن؟؟ والجواب: أن شيخنا قام بطريقة جميلة وسهلة بحل هذا الإشكال!! وذلك أن جهاز التلفون في عنيزة فيه خاصية تحويل المكالمات .. فمثلا لو اتصل شخص لعنيزة على رقم الفتاوى المعروف فسوف يرد عليه التلفون بصوت الشيخ يقول له : اتصل على الرقم كذا .. فمرة يعطيهم رقمه في الرياض ومرة في جده ومرة في المدينة وهكذا.. وكان رقم التلفون يتغير في بعض الأحوال يوميا وذلك بالاتصال على الجهاز وإدخال شفرة معينه فيملي الشيخ بصوته الرقم الجديد.. وللمعلومية فشيخنا لديه اهتمام كبير بالتقنيات وخصوصا أجهزة الاتصالات وكل من أراد أن يدخل السرور على شيخنا ويفرحه فعليه أن يخبره بجهاز اتصال جديد نزل في السوق فستجده بعد أيام في بيته أو مكتبته !! أذكر مرة أنني طلبت من الشيخ أن يعطيني مبلغا من نفقتي التي يرسلها الوالد لي على حساب الشيخ حيث أن شيخنا يحتفظ بها عنده وينفق علي منها كما ينفق الوالد على ولده .. فقال لي : تعال عندي في البيت وسأعطيك الجهاز الذي تحتاجه..!! فجئته ودخلت معه للبدروم حيث مكتبته الثانية .. فأراني دولابا كبيرا به رفوف كثيرة وقد حشرت به عشرات الأجهزة من كل الأنواع والأصناف ..!! علما أن غالبها مهدى لشيخنا من قبل أحد أصحابه الذين اعرفهم جيد وبمناسبة ذكر الأجهزة أذكر هذا الموقف.. كنا مرة في جده وبعد صلاة عصر .. ذكر أحدهم للشيخ محمد أن هناك أجهزة للاتصالات جديدة وفيها من المواصفات كيت وكيت .. وهي متوفرة في معرض تجاري لشركة سوني في سوق حراء الدولي فقال الشيخ لي: توجه لذلك السوق وكان لدينا فراغ بسيط من الوقت .. فانطلقنا للسوق وترجلنا ودخلنا ذلك المعرض.. فتجول شيخنا فيه دون أن يعرفه أحد من البائعين أو المشترين .. فاختار جهازا أو جهازين .. فقال البائع: للأسف لا يوجد لدينا جهاز جديد وهذا الجهاز للعرض ولكن لو تعطينا عنوانكم فسوف نبعثه لكم .. فقال الشيخ: أنا مقيم في عنيزة!! فقال : سنبعثه لك لعنيزة وستتكفل أنت بقيمة الشحن.. فقال الشيخ : لا بأس بذلك .. فأعطاه العنوان ورقم الهاتف.. ودون له الاسم : محمد بن صالح العثيمين !! وخرجنا من المحل.. يقول الشيخ لي : بعد وصوله لعنيزة بأيام تلقى اتصالا هاتفيا من مالك المحل وكان يبكي في التلفون ويقول: والله ياشيخ لو علمت أنك ستأتي لمحلي لتشرفت أنا باستقبالك .. وقد بعث الجهاز للشيخ وأهداه له ورفض رفضا باتا أن يأخذ قيمته من الشيخ.. في مكة حيث كنا نمكث في مكتب التوعية .. كان شيخنا يجلس في صالون بجوار مكتب كبير مكتوب عليه ( مكتب معالي النائب)؟؟؟؟ فقلت لشيخنا : مكتب من هذا ؟؟ فقال : هذا مكتب الشيخ إبراهيم بن صالح آل الشيخ نائب الشيخ عبد العزيز بن باز ... هذا الرجل تعجز والله كلماتي المختصرة عن الثناء عليه .. ويكفي أن أقول عنه أنه رجل بما تعنيه تلك الكلمة.. تواضع في تعامله .. سماحة في نفسه.. حسن المعشر.. حلاوة الحديث.. الطرافة الكرم الطيبة الحنان التفاني .. بارك الله في أبي صالح ولا عجب فهو سلالة كريم بن كريم بن كريم بن كرام.. فجده هو شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله .. وأبوه هو الشيخ صالح آل الشيخ قاضي الرياض المشهور وشيخ العلماء الكبار.. صاحب المواقف المشهورة مع الملك عبد العزيز رحمه الله .. وأقرؤوا سيرته العطرة في كتاب (علماء نجد خلال ثمانية قرون) للشيخ العلامة عبد الله البسام عليه رحمة الله.. في ذلك العام والذي يليه مكثنا في ضيافته في الحج قبله وخلاله وبعده في أيام فضيلة وذكريات ممتعة ولحظات مباركة لو لم يكن مكسب لي من صحبة شيخنا ومرافقته سوى معرفة أمثال الشيخ إبراهيم لكان والله ذلك كافيا لي.. فكيف إذا اجتمع لنا في تلك اللحظات فوائد ونكت علمية ودقائق يندر أن يتمكن الإنسان من تحصيلها من جوف و أعماق بطون الكتب..!! والله لقد سمعت من العلم واستفدت من الفوائد والمسائل في تلك السفرات ما قد يحشى في رأس طالب علم فيستحق أن يسمى عالما!! ولكن كم بقي لي منه وكم احتفظت به وكم عملت به ؟؟ هل العلم بالمعرفة فحسب ؟؟ هل العلم أن تحيط بالمسائل دون أن تفقه فتصير مثل حمار الفروع!! يؤسفني أن أقول مثل هذا الكلام ولا أحب ترديده وذكره والله .. ولكن بعض الجهلاء وفاسدوا القصد اتهموني ظلما وزورا بأنني اصحبه لأغراض وأهداف دنيئة .. حسبهم الله ... والموعد بين يديه تعالى ... نزلنا في بيت الشيخ إبراهيم بن صالح والكائن في حي العزيزية بجوار جامع الحارثي والذي كان إمامه حينها الدكتور ناصر الزهراني وفقه الله فكنا نصلي في المسجد ويلقي شيخنا فيه درسا بعد صلاة العصر ودرسه الآخر يلقيه في جامع فقيه المعروف.. ولم يكن شيخنا يصلي في الحرم سوى الجمعة ولم يكن يلقي فيه الدروس لتعذر ذلك بسبب الزحام الهائل في الحرم وحوله.. وغالب من يحضر تلك الدروس هم من الحجاج من الدول العربية وغيره والعجيب والغريب .. هو حضور عدد من أصحاب العمائم السوداء !! من الروافض لدروس الشيخ...!! ولقد تساءلنا حينها : هل يفهمون العربية وهل يسمعون الدروس ليستفيدوا؟؟ في درس جامع الحارثي كان أحدهم يداوم الحضور وكان يناقش شيخنا كثير وشعر شيخنا منه رغبة في البحث عن الحقيقة أو هكذا بدا ؟؟؟ عرف نفسه للشيخ أنه مدرس في إحدى الحوزات العلمية في قم في إيران وطلب من الشيخ أن يجلس معه جلسة خاصة في بيته ليتجادل مع شيخن حول بعض المسائل العقدية والمختلف فيها بين الروافض وأهل السنة والجماعة دعاه شيخنا لبيت الشيخ إبراهيم .. فحضر الرافضي وكان ذلك بعد درس العصر أظهر الفرح وتملق في كلامه وأنه باحث عن الحقيقة فجاراه شيخنا حتى يبلغه الحجة الناصعة.. قدمنا له القهوة والشاي وكنت أنا حاضرا وكذلك الأخ أحمد البغدادي قام بإيراد عدد من المسائل المشهورة والمتعلقة بالصحابة رضي الله عنهم وخصوصا عن أمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله عنه وخليفته أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه .. وكذلك عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وتنوقش أيضا عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.. وكان يقول ويؤكد أن الخلاف على هذه المسائل ليس من أصول الدين فقال له شيخنا: بل هي من أهم المهمات فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم نقلة الوحي وخير أصحابه.. فالقدح فيهم قدح في رسول الله عليه الصلاة والسلام وقدح في دين الله جل وعل ومن خلال الحديث لمز الرافضي عثمان ابن عفان .. فدحر الشيخ كلامه ودحض حججه وترضى عن عثمان .. وقال أيضا : لا أظن أحد يختلف في كفر معاوية وابنه يزيد !! فبين له شيخنا فضل معاوية رضي الله عنه وأنه أحد كتبة الوحي ونقل له موقف أهل السنة والجماعة من الفتنة التي وقعت بينه وبين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه و أن ما وسع العلماء والسلف يسعنا.. فيهما رضي الله عنهم وكذلك موقفهم من ابنه يزيد ونقل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فيه .. فقال الرافضي: تمنيت أن اطلع على كتب ابن تيمية.. فقد سمعت أن الرجل له مؤلفات في الرد علينا وفيها قوة حجة وجزالة ألفاظ!! فقال الشيخ: إن شئت اشتريت لك كتب ابن تيمية .. لتحملها معك إلى إيران فتقرأها فلعل الله تعالى بفتح على قلبك فيظهر لك الحق.. فأظهر الفرح وشكر الشيخ .. وبعد استكمال الحوار والنقاش .. خرجنا معه من السكن وتوجهنا به وبرفقة شيخنا للمكتبة .. ويا للعجب !! رافضي في صحبة ابن عثيمين في سيارة واحدة؟؟ اشترينا له كتاب منهاج السنة وكتاب درء تعارض العقل والنقل.. فتعجب من كبر حجمهما فقال له الشيخ: إن قرأتهما قراءة بحث وطلب للحق فسوف تجد بغيتك إن شاء الله أما إن قرأته لتنقده ولتبحث عن زلاته فلن تستفيد منه شيئا.. فقبل الرافضي رأس الشيخ وشكره وقال : هذا رقم هاتفي ولعلكم تتصلون علي بعد شهر أو شهرين فأعطيكم رأيي وما وصلت إليه فحفظت الرقم عندي وبعد مرور شهرين .. ذكرت شيخنا به .. فاتصلنا عليه .. فردت علينا امرأة فرطنت بكلام لا نفقهه..!! فقلت لها : نريد فلان .. وكررت اسمه .. فما فهمت كلامي فأغلقت السماعة في وجهي !! ولعل الله تعالى أن يكون هداه !! الحلقة الثالثة والخمسون لم يكن البرنامج في تلك الأيام يسير على نمط واحد كما هو في رمضان بل كان لكل يوم برنامج على حده .. كان شيخنا يجلس في مكتب التوعية الساعات الطويلة يجيب على الفتاوى وحيث أنني لا يمكنني الاستفادة من بقائي .. استأذنت شيخنا لكي أقضي فراغي في المكتبة التابعة للتوعية.. وجدت أن المكتبة ليست غنية بالمراجع المتنوعة بل غالب كتبها حول صنف أو صنفين من أصناف العلوم .. و كان قد كلفني شيخنا سابقا بتدوين بعض البحوث فاحتجت أن اطلع على عدد كبير من المراجع .. فلم تشبع تلك المكتبة نهمي ولم تكن مناسبة لخصوص البحث.. فاخترت كتابا وقعدت لقراءته وكنت أحيانا من الإعياء يسقط رأسي على دفة الكتاب وأنا لا أشعر... لاحظت رجلا يداوم الجلوس في المكتبة .. ووضع أمامه مجلدات ضخمة يراجع فيها ويقرأ منه ويبدوا أنها رسائل علمية ويشرف هو عليها أو هي له ..!! وجهه مستدير ولحيته بيضاء ووجهه أبيض وممتلئ الجسم وليس بالطويل ولا بالقصير.. طويل الصمت واضح عليه شدة الحياء .. ولقد جاورته ساعات طويلة دون أن أسمعه ينطق أو يهمس بكلمة..!! سألت عنه فقيل : هذا العالم الجليل الشيخ صالح بن خزيم .. ولقد توفي بعد سنوات في حادث مروري في بريدة رحمه الله وعفا عنه زارنا في يوم الأيام وكنت مع شيخنا .. رجل طالما أحببته وقدرته .. إنه شيخي وأستاذي الدكتور الشيخ أحمد بن موسى السهلي.. أحد تلاميذ علامة الجنوب الشيخ حافظ الحكمي .. داومت على حضور دروسه في الطائف لأكثر من عامين ومع ذلك فلم يكن يعرفني فقد كان عدد الطلبة كبيرا ولم يكن لي مع الشيخ احتكاك مباشر.. دخل على الشيخ محمد وسلم عليه وتحدث معه.. حيث هو أيضا من المشاركين في برامج التوعية في الحج .. وبعد انتهاء لقاءه وحديثه مع الشيخ .. استأذنت شيخنا محمد ولحقت الشيخ احمد.. فعرفته بنفسي ورويت له أنني أحد تلاميذه السابقين.. قال لي : ظننتك ابن الشيخ!! وفرح بذلك وسر ودعا لي حيث أنني لم انقطع عن الطلب وقال لي: استمسك بغرز هذا العالم الجليل .. وأنا والله أغبطك على هذه المزية فاحرص على الاستفادة من علمه فهو فقيه نادر الطراز .. صارت لي علاقة وثيقة بالشيخ أحمد استمرت حتى هذه الأيام وإن له الفضل علي بعد الله في حبي للعلم وطلبه أول الأمر فجزاه الله عني وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.. بجوار منزل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في الششة .. تقع عمارة جميلة ذات طوابق عديدة .. أوقفها أحد المحسنين وهو الشيخ صالح التو يجري عليه رحمة الله أحد الأخيار والوجهاء من سكان مكة.. أوقف هذه العمارة على الدعوة والدعاة فكانت في أيام الحج تغص بالعلماء الأجلاء والدعاة و طلبة العلم الكبار والصغار .. وكانوا جميعا في ضيافة مكتب التوعية الإسلامية .. ومن هناك يكون انطلاق المجموعات الدعوية للمخيمات والمساجد والتجمعات السكنية وغيرها كانت تلك العمارة كأنك ترى فيها خلية نحل..!! فهم جنود الإسلام وحماة العقيدة .. جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.. كان لشيخنا أيضا غرفة خاصة في ذلك السكن .. ولكنه حسب علمي لم ينزل فيها مطلقا.. والسبب أن لشيخنا مراجعين كثر وحتى لا يشق على الناس رأى أن يستقل في مكان خاص له .. فكان زوراه ومراجعوه يرتادون مكانه السابق الذكر.. من المشائخ الذين ينزلون ذلك السكن .. سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ المفتي العام الحالي.. ومنهم فضيلة الشيخ صالح الفوزان.. ومنهم أيضا الشيخ محمد الدريعي .. ومنهم الشيخ عبد الله القصير.. والشيخ سليمان الشبانه رحمه الله.. والشيخ عبد الله الشبانه ... وعدد من مدراء الدعوة في الداخل والخارج وغيرهم كثر ممن أعجز عن عدهم .. ولا تحضرني أسماؤهم وظني أن المشائخ يتجاوز عددهم المائة..غير الطلبة والدعاة.. ذات مرة دعانا أحد المحبين لشيخنا للغداء في ذلك السكن.. وكان رفيقه في الغرفة الشيخ صالح الفوزان.. كان الغداء الموضوع لنا هو عبارة عن علب بروست !! أي والله هذا هو الغداء..!! والسبب أن الغرفة ضيقة والمشائخ عددهم كثير فأين يضع لهم طعاما وفير فكان اختياره اضطرارا قد فهمه الجميع وما لا موه عليه والظاهر أن ذلك من عادتهم طوال تلك الأيام .. حصل في ذلك اليوم موقف ظريف.. حيث جلس المشائخ منحشرين بجوار الأسرة المتواضعة .. وكان أمامي في صف واحد كأنني أراهم أمامي .. شيخنا ابن عثيمين رحمه الله وبجواره عن يمينه الشيخ عبد العزيز آل الشيخ وبجواره عن يساره الشيخ صالح الفوزان .. بالإضافة لعدد من المشائخ والمرافقين .. وقد وضع الطعام بين أيدينا .. و لم نضع يدنا في الطعام انتظارا لأحد المشائخ.. انتظرناه وطال الانتظار.. وكاد الطعام يبرد.. وكان الشيخ المنتظر هو الشيخ محمد الدريعي.. والشيخ الدريعي لمن لا يعرفه رجل كفيف وهو رجل صاحب نكتة وطرفة ومزاح.. وشيخنا يحبه وقد زال بينهما حاجز التكلف .. قال شيخنا للمضيف: اتصل لي على الأخ محمد وسوف أستعجل حضوره.. فأحضر جهاز الهاتف واتصل على غرفة الشيخ الدريعي .. فلما رفع الدريعي السماعة .. وهو جهوري الصوت و ربما من قوته لا يحتاج لميكرفون !! غير شيخنا صوته وفخمه وصار يغمغم ويقول: هل أنت محمد الدريعي ؟؟ فقال : من معي؟ فقال: يا أبا فلان أنزل وإلا فلن ننتظرك .. وتبادلا الحديث والتعليقات وضحكنا من حديثهما .. ولقد رأيت المشائخ يتمايلون من الضحك وخصوصا الشيخ عبد العزيز آل الشيخ حتى دمعت أعينهم من الضحك!! ولم يعرف الدريعي حتى أغلق سماعة الهاتف أن شيخنا هو محدثه .. وعلق بتعليقات ساخرة على شيخنا وصوته وقال: من هذا البزر الذي يكلمني ؟؟ وقال: الحين أنزل أؤدبك بعصاي!! وحين نزل لنا وسمع صوت شيخنا وعرف انه هو من كلمه انكب على شيخنا يقبله وضمه واعتذر منه .. رحمهم الله وعفا عنهم.. وكما قلت فقد نزعت الكلفة بين شيخنا وبين الشيخ الدريعي .. وعلى النقيض منه تماما شيخ آخر لم أرى شيخنا يتعامل بمثل هذ الأسلوب سوى معه ومع شيخه سماحة الشيخ ابن باز.. حيث يجله إجلالا كبيرا ويتبسط معه في الكلام ويقوم له !! فسألت شيخنا ذات مرة.. قلت:لاحظت عليكم حينما تقابلون هذا الشخص أنكم تجلونه وتقدرونه تقديرا كبيرا؟؟ فقال لي: أنت لا تعرف هذا الرجل فله في قلبي مهابة ومحبة واحترام وأخذ في الثناء عليه وذكر أعماله الجليلة ومواقفه في الحق حتى والله أحببته.. وهذا الرجل المعني هو الشيخ عبد الرحمن الفريان رحمه الله مدير جمعية تحفيظ القرءان الكريم في الرياض .. وهو علم من أعلام مدينة الرياض عليه رحمة الله.. ذات ليلة في تلك الأيام ألقى شيخنا درسا في العقيدة في جامع فقيه.. في العزيزية بمكة شرفها الله.. فلما انتهى الدرس قال لي الشيخ : هل سجلت كلامي؟؟ فقلت : لا والله ولم أكن احمل معي مسجلتي تلك الأيام!! فقال: الدرس اليوم كان مفيدا فلعلك تبحث عمن سجله حتى ننسخه منه .. فلحقت بشاب رأيته قد سجل الدرس .. وهو طالب علم من دولة لبنان فقلت له: اسمح لي أن ننسخ شريطكم .. فقال لا بأس .. وحينما ركب في السيارة معي .. ففوجئ أنه سينسخ الشريط لشيخنا .. ؟؟ ولا عجب فشيخنا حريص على نشر علمه ويتعبد لله بذلك.. وتوجهنا لإحدى التسجيلات الإسلامية ونسخناه .. وبعد رجوعنا لعنيزة سلمت لمؤسسة الاستقامة تلك الأشرطة وغيرها لكي يضيفوها لآلاف الشرطة التي قاموا بتصفيتها ونشرها في الآفاق.. كنا في المساء نرجع لسكننا في منزل الشيخ إبراهيم آل الشيخ حفظه الله وكان برفقته عائلته الكريمة ومنهم ابنه البكر الشيخ صالح بن إبراهيم آل الشيخ والذي ورث عن والده صفاته وأخلاقه وسمته قال لي : لم لا تستغل هذه الفرصة بوجودك مع الشيخ وتقرأ عليه بعض الكتب؟؟ فعرضت الأمر على الشيخ فرحب بذلك وقال : كونك تركز على كتاب واحد أفضل لك من أن تتنقل بين الكتب يمنة ويسرة فعليك بضبط متن معين ضبطا كاملا ثم تنتقل لكتاب آخر.. وهكذ فطلبت من الشيخ أن يختار لي كتابا هو يراه.. فاختار أن اقرأ عليه كتاب الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية الذي جمعه علاء الدين أبو الحسن البعلي رحمه الله والمتوفى عام 803 للهجرة وهو كتاب جليل عظيم النفع جمع فيه اغلب آراء شيخ الإسلام ابن تيمية من خلال كتبه وفتاويه ونظمها في مجلدة واحدة ورتبه على أبواب الفقه المعروفة .. وقد سبق أن صور لي هذا الكتاب واحتفظ بتلك الصورة عندي وهي التي قرأتها على شيخنا ودونت عليها تعليقاته وشروحه .. كنت أقرأ على الشيخ في البيت أو المكتب أو في المسجد بين الأذان والإقامة أو في الطائرة أو في السيارة إن كنا مع سائق غيري حسب ما يتيسر من وقت فيعلق ويشرح على المسألة ثم يعطي رأيه في قول شيخ الإسلام فيوافق أو يخالف .. ولقد ظننت قبل أن أقرأ عليه هذا الكتاب أن شيخنا لايخالف شيخ الإسلام ابن تيمية سوى في مسائل معدودة .. حصرها احد الطلبة بستة عشر مسألة !! ولكن تبين لي أن شيخنا يبحث عن الدليل ولا يتعصب لقول الشيخ فإذا رأى انه خالف الدليل رد قوله كما هو عادة العلماء المجتهدين .. الحلقة الرابعة والخمسون كون شيخنا مشرفا على الدعوة في صالة الحجاج وكذلك في الميناء فقد توجهنا لجدة لزيارة الميناء والصالة .. حيث عينت الوزارة عددا من المشائخ والدعاة يقومون بتوعية الحجيج القادمين من البحر والجو .. في أحكام الحج والدين والعقيدة وغير ذلك .. ويوزعون عليهم آلاف بل ملايين المناشير والكتب والمصاحف والأشرطة.. من الدعاة في صالة التفويج في الميناء صاحب الفضيلة الشيخ عبد الله القصير وأكرم به وانعم من عالم جليل لقد تعجبت والله حينما رأيته يقف بنفسه يوزع على الحجيج الكتب ويجيب على أسئلتهم .. رغم شدة الحر والزحام الخانق وانبعاث الروائح الكريهة بسبب القرب من أحواض السفن ... جاءه رجل من السودان يعترض عليه في مسألة عقدية ذكرت في كتاب قرأه تتعلق بالقبور والزيارة ونحو ذلك.. فوقف له الشيخ عبد الله يحاوره بهدوء وأدب ويستمع لاعتراضاته .. دون أن يضجر من كلامه وخزعبلاته!! فلله در دعاتنا فما أحسن ما يقدمونه للأمة .. ثم حظهم من البعض النيل من أعراضهم والقدح فيهم!! يذكرني هو وأمثاله من الرجال بقول الشاعر : وليس أخو الحاجات من بات نائما ولكن أخوها من يبيت على رحل!! جعل الله ذلك في موازين حسناته هو وعشرات الجنود المجهولين الذين يعملون تحت إشرافه.. أطمأن شيخنا على أحوالهم وتشاور مع المشائخ فيما يقترحون من برامج ومناشط وكتب ونحو ذلك .. ثم انطلقنا لزيارة صالة الحجاج في المطار.. كانت في تلك الأيام معرفتي بالطرق في جدة ليست بذاك.. ولقد تهنا في الوصول للصالات لأكثر من ساعتين.. أستغرقها شيخنا بقراءة ورده حتى تعب ونام !! وصلنا لمدينة الحجاج أخيرا وقد بلغ بنا التعب مبلغه .. وهي مدينة بما تعنيه الكلمة من معنى.. تقوم لعدة أسابيع ثم تختفي بين عشية وضحاها.. كما قامت!! فيها أسواق وبنوك ومحال تجارية ومستشفيات وجوامع وكل الخدمات العامة التي يحتاجها حجاج بيت الله .. وصلنا هناك .. وكان ذلك بعد صلاة الظهر .. وقد خرج الناس من المسجد الكبير في وسط الصالات.. حيث كان اللقاء متفق عليه في الجامع وسيلقي شيخنا كلمة للحجيج .. ولكن لتأخرنا فقد خرج الناس وبقي المسجد شبه خال.. توضأنا ودخلنا للمسجد وصلينا الظهر .. كان شيخنا مجهدا ومرهقا بسبب ضغط الأيام الماضية .. كان الجو لطيفا في المسجد وبرودته معتدلة .. فاستغل شيخنا تلك الدقائق ولف عمامته على وجهه وتوسد يده ونام..!! فجاء المشائخ فأشرت لهم من بعيد !! فأشاروا لي: هل هذا الشيخ ؟؟ فحنيت رأسي وقلت لهم : نعم ودعوه ينام قليلا.. فغط في نومة هنيئة حتى شخر ..!! فسعدت بذلك.. واغتبطت .. وجلست مع المشائخ في زاوية المسجد حتى لا نزعج الشيخ.. ذكر لي شيخنا رحمه الله .. أنه كان في سنوات ماضية يلقي دروسا للحجاج من جميع الجنسيات وغالبهم من أفر يقيا.. تقدم له رجل أفريقي ويتكلم العربية وقال للشيخ: أنت تعلم الناس مسائل مهمة في العقيدة والأحكام ولكن يحول بينك وبينهم اللغة !! فغالبهم لا يفهم العربية فما رأيك أن أترجم كلامكم بلغة قومي؟؟ فقال الشيخ : لا بأس .. فترجم ذلك الرجل لشيخنا مدة من الزمن .. وفي خلال كلام شيخنا سمع لغطا من خلف الصفوف .. وقام رجل وقال: ياشيخ إن هذا المترجم رجل كذاب !! فهو يحرف كلامكم ويبدله بعمد لفساد معتقده .. فقام مجموعة من الناس وأكدوا كلام الرجل.. فالتفت شيخنا للمترجم وقال له: قم .. وسوف أتكلم بالعربية فمن يفهم فليفهم وأمري على الله !! روى لي احد طلبة العلم الثقات يقول: اجتمعت يوما في الحرم في شهر رمضان بعدد من المسلمين الأفارقة من نيجيريا والذين تحلقوا لاستماع درس شيخن محمد رحمه الله في الحرم.. وكان بعضهم يبكي بحرقة ويرفع يديه بالدعاء بكلام لا افهمه!! فسألتهم : لماذا يبكون ؟؟ فقالوا : كنا مجموعة من النصارى أهدانا أحد طلبة العلم في نيجيريا شريطا للشيخ محمد في العقيدة فأسلم بسبب ذلك الشريط ثمانية عشر شابا ومنهم هؤلاء الفتية الذين يبكون فرحا لرؤيتهم للشيخ ويدعون الله له فالفضل له بعد الله في إسلامهم !! وأذكر مرة أنه زار شيخنا في الحج مجموعة من الأمريكان السود .. وكانوا يتكلمون العربية بفصاحة مطلقة وكأنهم عرب أقحاح؟؟ قالوا للشيخ : نحن تلاميذك!! فقال: لا أذكر أنكم درستم عندي!! فقالوا : ياشيخ لقد سمعنا شروحك من الأشرطة في الواسطية وكتاب التوحيد وغيرها فنحن نعتبر أنفسنا تتلمذنا عليك!! ذات ليلة قال لي الشيخ مازحا : لدي درس الليلة الساعة التاسعة في أمريكا!! فقلت له ضاحكا ومتعجبا: أتسخر مني؟؟ فقال: هل تريد ترى هذا بنفسك؟؟ فدخلت معه لملحق بيته ، واتصل عليه شخص من أمريكا على هاتفه وقال ياشيخ : نحن جاهزون ؟؟ فإذا هي محاضرة عبر الهاتف يلقيها شيخنا و يستمع لها في أكثر من خمسين مركزا إسلاميا في الولايات المتحدة !! استيقظ شيخنا من نومه وتلفت حوله ومسح بيديه على وجهه فلما رآه المشائخ قاموا إليه.. وسلموا عليه وتحلقوا حوله واستمع لهم ولبرامجهم وحصروا بعض النواقص والاحتياجات من كتب وغيرها .. ثم رجعنا لمكة لكي نستعد لأداء مناسك الحج.. تكفل الشيخ إبراهيم آل الشيخ بتنظيم كل ما يتعلق بحجنا من تنقل وسكن وخدمات وتغذية فجزاه الله خير الجزاء. حيث أن لديه فريقا كبيرا من الرجال المخلصين كل قد حدد له عمله ووظيفته أمرني الشيخ ذلك اليوم بالاغتسال للباس الإحرام كما هي السنة واغتسل الشيخ ولبس إحرامه وتدهن بقارورة كاملة من الطيب دهن بها شعر رأسه ولحيته حتى رأيت الطيب يتقاطر من لحيته.. ولقد فعل شيخنا ذلك تعبدا لله تعالى واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم كما روت عائشة رضي الله عنها في إحرامه عليه السلام .. ركبنا الباص الصغير المخصص لنا وبرفقتنا عائلة الشيخ إبراهيم في الخلف كان شيخنا يلبي ويرفع صوته بالتلبية حتى بح صوته .. كما كان يفعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.. كان السائق محترفا وخبيرا بالطرق .. فأوصلنا لمخيمنا في منى والملاصق لمخيم سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله فأنعم بها من جيرة .. يحتوي المخيم على عدد كثيرة من الخيام جزء منه مستقل للنساء تتوسطه خيمة كبيرة للصلاة والدروس.. يلقي فيهنا الشيخ الدروس والكلمات بعد كل صلاة .. ولا يجد شيخنا في تلك الأيام الفضيلة وقتا للراحة إلا ما ندر فهو كما قال الشاعر: فلو لم يجد في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله.. فو الله لم ترى عيني ولا ادعي أنه لا يوجد!! لم ترى عيني رجلا يبذل وقته للعلم والتعليم وتفقيه الناس مثل شيخنا خلا شيخه وإمام الجميع الشيخ ابن باز رحمهما الله كان الشيخ ابن باز رحمه الله يجل شيخنا ويحبه حبا جما وكان شيخنا يبر بشيخه ويصله كما يفعل الولد مع أبيه .. ويفرح الشيخ ابن باز حين يعلم بوجود تلميذه البار.. ذات مرة جئنا لمنزل سماحة الشيخ ابن باز في مكة فسلم عليه شيخنا وقبل رأس شيخه .. ثم جلس شيخنا في مكان بعيد عن الشيخ قليلا.. وكان بجوار الشيخ ابن باز يجلس أحد المشائخ الفضلاء.. فقال الشيخ ابن باز: وين الشيخ محمد ؟؟ وضرب بيده على الكرسي الذي بجواره .. فقام الشيخ الذي عن يمينه من مكانه واستبدله بمكان شيخنا.. فلا تسل عن الأنس وفرح الشيخ ابن باز بأن يوضع شيخنا في موضعه الذي يستحقه ويقدر التقدير الذي يليق به.. لا اعلم أن شيخنا ذهب لمدينة يعلم أن شيخه ابن باز فيه إلا وابتدأ بزيارته والسلام عليه قبل أي شيء آخر.. أذكر مرة ذهبنا لمكتب الشيخ ابن باز في الرياض.. فقيل لشيخنا : هو في اجتماع مع اللجنة الدائمة .. فيهم سماحة الشيخ وكذلك الشيخ عبد العزيز آل الشيخ المفتي الحالي والشيخ ابن غديان والشيخ الفوزان والشيخ بكر أبو زيد.. حينما دخلنا عليهم .. رأيت الشيخ ابن باز مادا رجليه على طاولة وضعت أمامه و حاسر الرأس.. فأراد المرافق أن يلبسه شماغه فقال الشيخ ابن باز: لا .. لم يدخل علينا غريب!! كما قلت كان التلميذ بجوار شيخه في المخيم.. وتحابا في القلوب وتجاورا في قبريهما بمكة في مقبرة العدل.. وأرجو المولى سبحانه أن يتجاورا في القصور في الفردوس الأعلى الحلقة الخامسة والخمسون منذ اليوم الأول لوصولنا لمنى ولا ترى شيخنا إلا في درس أو إجابة فتوى أو عبادة وذكر وتلاوة .. وفي فراغه إن وجد ليلا بعد العشاء كنت أجلس معه وأقرأ عليه مما ييسره الله كانت الوفود والزوار لا تنقطع طوال تلك الأيام عن التوافد للمخيم .. ممن سعدنا برفقتهم تلك الأيام في الحج الأخ الشيخ خالد الشريمي حفظه الله وهذا الرجل من أصحاب شيخنا ومن محبيه لأكثر من عشرين سنة .. قمت بتسجيل تلك الدروس والفتاوى طوال مكوثنا في منى في التروية وكذلك في أيام التشريق .. وقد سلمت تلك النسخ لا حقا للإخوة في مؤسسة الاستقامة كنت أتلوا على الشيخ أسئلة الناس وغالبها يتعلق بالحج والمناسك .. وكانت بعض الأسئلة تحتاج لنقاش مع السائل لاستيضاح بعض التفاصيل فكان الشيخ قبل أن يجيب على الفتوى يقول أين السائل ؟؟ فإن رفع السائل يده أجابه وإلا تركه !! من المواقف التي أذكرها في تلك الليالي : حيث صادف أن سأل أحد الناس سؤالا وكان من ضمن الحضور الأمير بندر بن عبد العزيز.. ومعه مجموعة من حرسه وجنوده وحاشيته.. وكلهم جلوس منصتون لشيخنا وحديثه .. يقول ذلك السائل في أول سؤاله : أنا رجل مقيم في المملكة من سنتين وليس لدي إقامة وأكمل سؤاله ... فقال الشيخ وهو يضحك: أين السائل ؟؟ فضج الناس بالضحك .. حيث علموا أنه لن يجرأ برفع يده !! في اليوم التالي توجهنا بالباص إلى عرفات .. وكان ذلك اليوم شديد السخونة والزحام حول المخيم هائلا .. وتفرغ شيخنا ذلك اليوم كله تقريبا للتعبد والذكر وقراءة القرءان ولا أذكر أنه ألقى دروسا أو محاضرات .. أحضر لنا مذياع واستمعنا لخطبة مسجد نمرة .. وبعد انتهاءها أمنا شيخنا بالظهر والعصر جمعا وقصرا بعد صلاة العصر وانتشار الظلال وضعت بسط خارج المخيم .. وجلس شيخنا عليها واستقبل القبلة ومكث رافعا يديه يدعوا ويستغيث حتى غربت الشمس.. همست في أذنه وهو يدعو بكلام .. وأرجوا الله تعالى المولى أن يستجيب لدعائه رحمه الله !! بعد ذلك ركبنا سياراتنا وتوجهنا لمزدلفة .. صلينا المغرب والعشاء وأوترنا ونمنا .. عند منتصف الليل استيقظ الشيخ وتعشى .. بعد ذلك افترقنا فرقتين الكبار في السن العوائل تذهب مبكرا للرمي كما رخص بذلك والمجموعة الأخرى تمكث لترمي في اليوم التالي.. وكنت أنا والشيخ مع العوائل وكبار السن .. قبل أن نصل للجمرة الكبرى أمر الشيخ سائق الباص بالتوقف .. ثم قال لي: انظر هل غاب القمر؟؟ فخرجت ونظرت فرأيته على وشك الغياب.. فقال الشيخ : إلى أن نصل يكون قد غاب .. توجهنا للجمرة ورمينا ثم توجهنا للحرم وطفنا الإفاضة وعدنا للمخيم بعد الصبح .. حلقنا وتحللنا ولبسنا الثياب .. ولا أدري هل حلقنا بعد الرمي مباشرة أم بعد رجوعنا للمخيم ؟؟ ومع ذلك فكله مباح !! اغتسلت ذلك اليوم ولبست أحسن ثيابي ولم يكن معي سواه..!! وتبخرت بالعود الذي أحضره الشيخ إبراهيم جزاه الله خيرا.. قال الشيخ لي: اتصل علي الملك ودعاني لقصره للمعايدة .. فقلت له : هل ممكن أن أرافقكم؟؟ فقال : إن أردت!! فقلت : بلى أريد.. وبما أننا متمتعون فقد بقي علينا الهدي.. وقد كلف شيخنا أحد رجال الشيخ إبراهيم العقلاء بشراء كبشين أحدهما عن شيخنا والآخر عني.. جزا الله شيخنا عني خير الجزاء فقد تكفل عني بكل شيء.. فهل لمعاتب لي ، حق أن يلومني بكتابة هذه الرواية عن هذا الرجل الكريم ؟؟ ألا قاتل الله الظلم والبغي!! قال الشيخ : هيا تعال اذبح هديك!! فقلت له : والله لم يسبق لي أن ذبحت دجاجة فكيف تريدني أذبح هذا المخلوق الكبير؟؟ فقال : اذبحه وغيرك يتولى سلخه وتقطيعه.. فقلت : أعفني.. فقال: أبدا لا أعفيك تعال وسأعلمك وافعل مثلما افعل أنا.. فقدم الكبش الأول ووضع شيخنا الشفرة على حلقه فذبحه ولم يبد لي ذلك عسيرا .. !! فتشجعت وقلت أنا لها!! فأمسكت بالشفرة وقرب لي كبشي ووضعت الشفرة على حلقه .. فلما رأيت عيون الكبش تزيغ من هول ما يقدم عليه ترددت!! فقال الشيخ ومن حوله : هيا اذبح وسم وكبر .. فحركت الشفرة فشخر الكبش وهاج وكاد يفلت فكبسه من بجواري وقال : أجهز عليه !! فأكملت ذبحه وتطاير الدم حتى امتلأ ثوبي ووجهي بالدم .. وسكن الكبش .. فنظرت لشيخنا فكان وجهه مضيئا كالصفيحة وهو مبتسم رحمه الله ورضي عنه.. قلت له : لا أملك غير هذا الثوب حتى أرافقكم للملك.. فقال: مرة ثانيه إن شاء الله .. تمنيت رفقة شيخنا فهي التجربة الأولى لي في رؤية هذه الشخصية الكبيرة ولكن هذا قدر الله.. ولقد دخلت مع شيخنا للملك فهد رحمه الله عدة مرات .. أذكر مرة أن شيخنا قال لي: سنذهب الليلة للملك فهد في جده .. ولم يسبق لي رؤية الملك عيانا قبل ذلك اللقاء.. وكان ذلك بعد اجتماعات هيئة كبار العلماء في الطائف.. رجوت شيخنا أن يبدل ملابسه لذلك اللقاء فهي شبه بالية ولديه ما هو أنظر منها وعباءته معرفطة!! و نعله تليك مخيطة الأطراف!! فأبى وقال : أقابلهم بما أقابل به ربي!! وأردت أن أبدل ثيابي فقال لي: ثوبك جميل ولا داعي لتغييره !! فقلت في نفسي: يسعني ما يسعه .. رحم الله هذا المربي والزاهد .. نزلنا لجده ووصلنا للقصر ..قريبا من منتصف الليل.. حينما وقفنا على البوابة نظر الضابط في وجه الشيخ فعرفه ولم يطل .. وقال للجنود : افتحوا الباب للشيخ ابن عثيمين .. دلفنا للقصر الفخم والكبير والذي لم أشاهد له مثيلا حتى هذه الساعة في بهائه وجماله وفخامته .. رزقنا الله وإياكم القصور في الفردوس الأعلى.. بحثنا عن موقف لسيارتنا بجوار السيارات الفخمة والبهية .. وبالكاد وجدت ولقد سبق أن رجوت الشيخ أن انزله أمام بوابة الإيوان لكي ينزل هو وسوف ألحقه فرفض وقال : ندخل معا ونخرج معا!! وصلنا لبوابة الإيوان وكان الحرس وخدم القصر ورجاله كالذر عددا عن اليمين والشمائل.. كل من رآنا جاء للشيخ وسلم عليه .. فاجأني شيخنا بسرعة خطوه وعجزت عن مسايرته و كان يمر من تحت أجهزة كشف المعادن ولا يتوقف لها ولا يعبأ بها .. بالنسبة لي أنا فقد أمسك بيدي العسكر مرتين ليردوني للتفتيش فكان الشيخ يشير لهم فيتركوني إكراما له .. دخلنا الإيوان الأول ومن بعده إلى إيوان ابهر منه وأجمل وأفسح.. ومنه دخلنا لمجلس كبير وهائل .. يكاد ضوءه وتوهجه يخطف الأبصار.. ومع كبر حجمه وفساحته واتساعه إلا أنه بلا أعمدة تحجب الرؤية!! قد رصت في جميع أطرافه المقاعد الوثيرة والفخمة وعليها من البشر والخلق من لا يحصيهم إلا الله .. في صدره كان يجلس الملك .. وعرفته منذ أن رأيته ومنذا يخفاه ؟؟ رحمه الله وعفا عنه .. حينما رأى الملك شيخنا قام فقام كل من في المجلس وهذا من عاداتهم فخجلت واستحييت وهبت ذلك المنظر.. فدخلت عن يمين المجلس واختفيت خلف الصفوف.. وكنت أراقب ما جرى.. كنت أرى شيخنا يسير لوحده في وسط المجلس الفسيح .. وتقدم له الملك فالتقيا في وسط المسافة .. فاحتضنا بعضهما بعضا .. وقبل الملك على انف شيخنا كما هي عادتهم.. في إكرام العلماء.. سمعت رجلا بجواري متعجبا يقول: من هذا ؟؟ فقال الآخر وكان متكئا ويحرك سبحته قال: هذا المهندس ابن عثيمين!! نرجع لمنى!! من السنن أن لا يأكل المتمتع شيئا قبل أن يذوق من هديه كما هو الحال في الأضحية.. طبخ لنا من كبد الكبشين فافطرنا عليهما .. ثم خرج الشيخ من الخيمة ودخل على المخيم المجاور للسلام على شيخه ابن باز للمباركة له بالعيد .. فاستعرت ثوبا من احدهم ولحقت به .. فوجدته مع الشيخ ومعهما الشيخ حمد الموسى رفيق الشيخ ابن باز في حله وترحاله.. قال لي مرة الشيخ حمد: أغبطك على صحبة الشيخ محمد !! قبلت رأس الشيخ ابن باز فسأل : من أنت ؟؟ فقال له شيخنا: هذا أحد تلاميذنا واسمه فلان بن فلان.. فدعا لي الشيخ .. رحمهم الله ورضي عنهم وجمعنا بهم في جنات النعيم الحلقة السادسة والخمسون لم يطل شيخنا الغياب عند الملك .. قال لي الشيخ ذلك اليوم: أنه فقد السائق الذي يوصله للمخيم فبقي واقفا محتارا ولا يدري ما يفعل .. فلمحه الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية وهو ذو علاقة ومعرفة عميقة بشيخنا .. فسلم عليه وقال : هل تنتظر أحدا ؟؟ لاحظتك واقفا لوحدك؟؟ فقال شيخنا : سائقنا تأخر.. فنادى الأمير سعود الفيصل على سيارته الخاصة وأمر سائقه بتوصيل الشيخ فحمده شيخنا على ذلك وأكبرها منه .. كنا في أغلب الأوقات نبقى في المسجد لاستماع الدروس والفتاوى .. وهذا هو غالب أمرنا .. وأما في الأوقات الأخرى فنجتمع بالشيخ في خيمة كبيرة عبارة عن مجلس للضيوف ويستقبل فيها الوفود الزائرة من داخل وخارج المملكة.. جاء رجل في تلك الأيام وزعم للشيخ أن المسالخ التابعة للبنك الإسلامي للتنمية في منى لا تقوم بنحر الإبل كما هي السنة وكذلك ذكر ملاحظات حول التذكية الشرعية للأغنام.. فلم يرد شيخنا أن يجيبه على زعمه حتى يتأكد مما نقله له.. فكلفني أنا وشخصين اثنين بالذهاب لزيارة المسالخ والإدارة المشرفة للتأكد من صحة تلك المعلومات خاصة وأن البنك يشرف سنويا على مئات الألوف من الأضاحي والهدي ذبحا وتخزينا وتوزيعا حول العالم.. وصلنا للمسلخ بعد معاناة وبحثنا عن موقع نحر الإبل فقالوا لقد انتهوا من ذلك فلما نتمكن من رؤيتها على الطبيعة .. توجهنا للإدارة فأحالونا لشخص وقالوا : هو مدير هذا القسم .. فدخلنا عليه مكتبه فاستقبلنا ببرود ولم يعرنا أي أهمية وكان يدخن بشراهة طوال جلستنا معه.. شرحنا له هدفنا من الزيارة ومن كلفنا بذلك فازداد تجاهلا لنا!! ولم يفدنا بشيء ولم يرد إعطائنا أي معلومات .. فخرجنا من عنده وقد بلغ الحنق بالأخوين الآخرين مداه.. رجعنا للشيخ وشرحنا له ما حصل .. فاسترجع وقال : خيرا إن شاء الله !! في اليوم الثاني وهو الأول من أيام التشريق .. زارنا في المخيم الدكتور محمد علي مدير عام البنك الإسلامي بنفسه!! وقدم اعتذاره للشيخ عما حصل ولا ادري كيف بلغه الموضوع.. وأصر على شيخنا أن يرافقه بنفسه للمسالخ لرؤية الموضوع على الطبيعة والدكتور محمد علي رجل مؤدب ومتواضع وخلقه وبشاشته تأسر القلوب وهكذا كان!! انطلقنا بسيارته وأصر على الشيخ أن يركب هو في الخلف وشيخنا بجوار السائق وكانت لفتة كريمة منه .. قبل دخولنا للمسالخ مر بنا الدكتور على مكان الذبح العام حيث يقوم الحجاج بذبح هديهم وهذا خارج إشراف البنك .. ويا للعجب!! رأينا ذلك اليوم منظرا لا أنساه ما حييت .. حيث تكدست عشرات الألوف من الأغنام المذبوحة على مد البصر والملقاة بعضها على بعض وقد تعفنت وتجمعت عليها الحشرات وصدرت منها روائح قاتلة .. وكان غاية الدكتور أن يري الشيخ دور البنك في محاولة القضاء على تلك المشكلة المزمنة .. حيث رفع عن الناس حرجا شديدا واوجد لهم بديلا ملتزما بالضوابط الشرعية ويبرئ الذمة .. قال لنا الشيخ ذلك اليوم : قبل سنوات بعيدة في شبابي اشتريت أنا وعدد من الإخوة والأصحاب جملا لكي نهديه عنا جميع وكنا سبعة.. وكان عدد الأضاحي ليس بالكثرة الآن والحجاج اقل.. يقول شيخنا نظرا لوجود عدد كبير من الفقراء حولنا وكل واحد منهم احضر سكينه وساطوره بيده!! فقد حاولنا الابتعاد عنهم حتى يسهل علينا النحر والسلخ وتقطيع الذبيحة.. قال الشيخ : ما إن سقط جملنا حتى تساقط الناس علينا من كل مكان فقطعوا البعير وجزءوه في دقائق معدودة !! أما الحال ألان فهذا الذي نراه والله مأساوي !! تجولنا في المسالخ وتأكد الشيخ بنفسه من سلامة طريقة الذبح والنحر وأن العتب على الناقل سامحه الله.. ونحن نتجول في المسلخ جاءنا رجل وعيونه غارقة بالدموع .. فتأملت وجهه فإذا هو صاحبنا الذي دخلنا عليه بالأمس وتجاهلنا وقد كان كسيرا حزينا فسلم على شيخنا واعتذر منه واعتذر منا جميعا أخذه شيخنا على انفراد .. وتحدث معه وابتسم في وجهه وتهلل وجه الرجل وضحك ..!! وأخبرني الشيخ لا حقا انه نصحه بترك الدخان فوعده بذلك ولعل الله تعالى عافاه.. مرت تلك الأيام بوتيرة واحدة .. كنا نذهب لرمي الجمرات مشيا على الأقدام .. حيث أن مخيمنا ليس ببعيد عنها.. وفي الطريق يجيب شيخنا عن أسئلة الناس .. أذكر أننا في عودتنا ذات مرة من الرمي وكان ذلك قبل الغروب بدقائق.. وكانت منى شبه خالية حيث عجل كثير من الحجاج كما هي العادة.. فمررنا على رجال يشدون أمتعتهم على سياراتهم.. فلما رأى أحدهم شيخنا وكان في أعلى السيارة الجيب يربط متاعه نادى على الشيخ مستفتيا ويشير بيده: ياشيخ محمد إحنا معجلين ومثل ما ترى قد يؤذن علينا وما أكملنا متاعنا هل يجوز لنا التعجيل ؟؟ فقال الشيخ : لا باس عليكم إن شاء الله .. فهذا رجل استفتاه وهو على سيارته دون أن يتكلف عناء النزول!! ولا أدري هل سألهم هل طافوا للوداع أم لا ؟؟ روى لي أحد الطلبة الثقات يقول : مرة كنا نسير مع الشيخ بعد الصلاة من مسجده لبيته .. فنادى رجل من سيارته على الشيخ : ياشيخ محمد ياشيخ محمد أريد أن أسألكم ؟؟ فقال الشيخ له : تعال أنت وسأل فالعلم يؤتى إليه وحق عليك إكرام العلم وأهله.. ولم يرد الرجل على الشيخ حياء من جوابه .. ولكن شيخنا لمح في خلف سيارة الرجل عكازا فعرف أنه مبتلى.. فرجع للرجل ودنا منه واستمع لأسئلته حتى انتهى .. لم نعجل كما هو المتبع من شيخنا في كل عام وخلى المخيم وحوله تقريبا جاءنا ذلك اليوم ضيف كريم وهو الأمير ممدوح بن عبد العزيز وفقه الله كنت أنه وهو مع الشيخ ثلاتنا لا رابع لنا في السيارة وقال لشيخنا كلمة أراد منها أن يشد من عضد الشيخ قال له في كلام طويل أذكر بعضه : (ياشيخ محمد أنت وشيخنا ابن باز أقدما ولا تترددا فوا لله إن إخوتي الكبار من الملك وإخوانه الكرام الآخرين يقولان دائما للوزراء والمسئولين أطيعوا العلماء ولا تعصوهم وخصوصا هذين العالمين الجليلين ابن باز والعثيمين فنحن بالله قمنا ثم بهما !!) جزى الله الأمير ممدوح خير الجزاء فهو صادق النصح إن شاء الله ولا يبتغي من ذاك شيئا بارك الله فيه شهدت منه موقفا أكبرته منه .. حيث أذكر مرة أنه بعث رجلا لشيخنا يستفتيه في أمر وهو: أن هناك مشروع يدر على الأمير مدخولا كبيرا ولكنه يحتاج لهذا المشروع لرخصة وكونه أميرا ومن أبناء الملك عبد العزيز فلن يعسر عليه الحصول على تلك الرخصة .. ولكنه تحرج من ذلك خوفا من أن يجامل كونه أميرا !! وهذا بلا شك سيكون!! فقال شيخنا للوسيط : سلم على الأمير وبلغه أن الورع أن يتركه والله يخلف عليه بخير فتركه رغم أن ربحه مضمون وأرباحه كبيرة للغاية والله يخلف عليه خيرا منه في ماله وولده وأهله .. زار الأمير ممدوح القصيم في سنة من السنوات وكان في اغلب بقاءه في القصيم تلك الأيام يكون في عنيزة إما في بيت الشيخ أو في جامعه أو عند أحد المضيفين له من عنيزة.. طلب الأمير ممدوح من شيخنا أن يزور بيته الطين والذي حتى تلك السنوات لم يهد وبقي شامخا في المكان المعروف ألان .. شمال مسجد الجعيفري على شارع الشريمية .. التقينا شيخنا والأمير وأنا وجمع من الإخوة أمام باب المنزل ضحى .. وفتح شيخنا باب بيته القديم .. وأخذ يشرح لنا تفاصيل البيت وتقسيماته .. حينما تدخل من باب المنزل تواجهك ساحة في وسطها نخلة طويلة .. وعليها حبل للتسلق .. وذكر الشيخ انه كان يصعد لأعلى تلك النخلة فيلقحها أو يحصد تمره فقال لي الأمير مازحا: هل تستطيع الصعود لأعلاها يافلان؟؟ فحاولت الصعود وما عرفت طريقة شد الحبل خلف الظهر وهي تسهل كثير ا الصعود.. فقام شيخنا بنفسه وشده وصعد حتى وصل قريبا من وسطها ونزل.. صعدنا من الدرج ليرينا مكتبته .. فدخلناها فإذا هي غرفة متوسطة الحجم وفيها رفوف قديمة وشبه بالية مكتوب عليها 1381 للهجرة ولعله تاريخ التركيب!! وجدنا في زاويتها سلكا كهربائيا قويا قد عقف أعلاه على شكل عصى وهو متماسك ومغلف ببلاستيك اسود قال الشيخ : هذه عصاي كنت استعملها وأنا أسير في الظلام إلى المسجد قبل انتشار الكهرباء.. فحملها الأمير وكانت ثقيلة .. واستأذن من شيخنا أن يهبه إياها ففعل.. وكذلك رأى الأمير سجادة صلاة قديمة قد حفر مقدمها من اثر السجود عليه فقال للشيخ : هل هذه سجادكم ؟؟ قال: نعم .. فاستو هبه إياها ففعل!! خشيت أن يستو هب الأمير الشيخ كل شيء فهمست في أذنه وقلت : أريد دواليب الكتب إن كنت لست في حاجتها !! فقال: هي بالية !! فقلت : حتى!! فوافق.. فنقلتها لبيتي واحتفظت بها سنوات عديدة حتى سرقت مني!! ولقد أعطاني الشيخ بناء على طلبي عددا من عباءاته القديمة جدا وما زالت عندي حتى الآن .. واحتفظ بها للذكرى لا للتبرك أو شيء آخر والحمد لله ..
    7 "




  9. كود:
    الحلقة السابعة والخمسون رجعنا لبيت الشيخ إبراهيم في العزيزية بمكة شرفها الله بعد انتهاء المناسك وكالعادة يشعر المرء بأثر الحج من جهد وكلل وإرهاق .. خاصة أن شيخنا يبذل جهدا أكثر ممن سواه.. استرحنا قليلا يوما أو يومين .. من عادة سماحة الشيخ بن باز رحمه الله في كل عام أن يقيم شبه احتفال للدعاة الذين شاركوا في برنامج التوعية في الحج بمناسبة انتهاء برنامج التوعية السنوي في الحج ويحضر ذلك الاجتماع بالإضافة للدعاة نخبة من العلماء والمفكرين من العالم العربي والإسلامي .. يتم في ذلك اللقاء التعريف بالمناشط التي تمت وذكر بعض الإيجابيات والسلبيات وطرح الأفكار الجديدة.. أذكر ذلك اليوم أن سماحة الشيخ بن باز رحمه الله وشيخنا ابن عثيمين رحمه الله .. والشيخ صالح الفوزان حفظه الله .. كانوا متجاورين وعليهم أثر الجهد والتعب.. ولقد رأيت رؤوسهم ثلاثتهم تخفق وتعلوا من النعاس عفى الله عنهم.. وبهذا الاحتفال يكون ختام برنامج التوعية السنوي اسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنهم والحمد لله .. أوصلت شيخنا لجده ومنها سيواصل على القصيم أما أنا فقد رجعت لعائلتي في الطائف لكي اقضي لديهم فترة نقاهة فقد كنت مصابا بالزكام والحمى الطائف جوه منعش وجميل طوال العام تقريبا .. ففي الصيف حرارته معتدلة ولا تتجاوز حدود المعقول!! كما في القصيم والرياض مثلا.. أما في الشتاء فإن برودته ليست بشديدة كبرودة أبها والباحة مثلا.. أذكر أنني قرأت في كتاب المطالعة في إحدى سني الدراسة عن عالم غربي مر على الطائف فمدح مناخها وقال هو من أفضل المناخات في العالم!!! ولا يظنن ظان أني أمتدحها لأنني كنت يوما من أهلها أو عشت سنواتي الأولى فيها .. !! أنا أحكي شيئا معلوما ومعروفا للجميع .. مكثت أياما قليلة في الطائف ثم رجعت للقصيم .. وصلت لعنيزة ليلا.. حيث غبت عنها حوالي الشهر.. وكان السكن كئيبا بسبب قلة الحركة وشعرت بانقباض وضيق .. وهذا شيء طبيعي حيث يشعر الإنسان بتلك الآثار بعد الغياب الطويل القصيم بالنسبة لي تلك الأيام هي موطني فقد كنت أتم صلاتي فيها وحينما كنت أذهب للطائف فأنا أعتبر نفسي غير مقيم ..فتحل لي رخص السفر منذ اليوم الأول لدخولي لغرفتي في السكن وأنا اشعر أن هناك اختلافا فيها؟؟ بلغت الشيخ بذلك .. فاستغرب وقال : لعلك واهم ؟؟ فتشت في أغراضي وأوراقي وأمتعتي وكتبي فاكتشفت التالي: وجدت عددا من كتبي قد سرقت !! وهي عبارة عن كتب صورتها من شيخنا وعليها تعليقاته وحواشيه بخط يده وهي كتب ثمينة جدا واحملها طوال تلك السنوات في حلي وترحالي.. وكذلك فقدت عددا من أوراق الشخصية وتزكيات سبق أن كتبها لي شيخنا في مناسبات معينة.. وكذلك افتقدت بعض الأمتعة المهداة أيضا من شيخنا!! وكذلك افتقدت عددا من الرسائل التي كانت بيني وبين الشيخ ومم كان يكتبه الشيخ للوالد وأحتفظ بنسخ منها.. توجست في الموضوع وقلت في نفسي: لا يملك مفتاح غرفتي سوى أنا وشيخنا ورفيقي في السكن !! ورفيقي رجل ثقة وهو الشيخ محبوب وما حاجته لمثل تلك الأغراض وما مصلحته من أخذها؟؟ ولم ابلغ شيخنا حتى تأكدت أنها سرقت !! وعلمت من سرقها وشهد شاهد على ذلك لي.. أبلغت شيخنا بالحاصل .. أذكر ملامح وجهه حينما أخبرته الخبر .. لقد حزن وتأثر ابلغ تأثير ..واسترجع وكأنه عرف الفاعل فورا ؟؟ دعا بهذا الدعاء: اسأل الله تعالى أن يضيق صدره كما ضيق صدري حتى يرجع تلك الأشياء.. جميعكم من خلال القراءة السابقة للحلقات سيعرف من هو الفاعل؟؟ لقد أشترى الأستاذ أدوات لفتح الأبواب ودخل غرفتي في فترة الحج وقلب كل حاجياتي ليبحث عن السحر المخفي في متاعي !!! فلما لم يجد شيئا ولن يجده سوى في مخيلته المريضة التي أملاها عليه شياطين الجن والإنس عليه !! حينما لم يجد شيئا سرق تلك الحاجيات !! لما؟؟ لا أدري .. ولكن التفسير الوحيد لذلك واضح وضوح الشمس لمن له عينان .. استجاب الله لدعاء شيخنا فلقد بلغني المؤذن عن ذلك الرجل انه مرض وأصيب بصداع شديد في رأسه وتغيب عن الدرس فترة طويلة .. دعاني الشيخ يوما بعد الصلاة وسلمني كرتونا به جميع حاجياتي .. فبحثت فيها فوجدت جميع الأشياء المسروقة كاملة موجودة سوى بعض الأوراق والخطابات وجدت صورها ولم أجد النسخ الأصلية استعادها لي شيخنا لاحقا وسلمها لي جزاه الله عني خير الجزاء.. أسمحوا لي أيها القراء الكرام أن أنقل لكم هذه الرسالة التي كتبها لي شيخنا رحمه الله .. واسترجعتها من يد ذلك المعتدي وهي موجودة عندي ولعل في نشرها نفعا لمن تأمل وتدبر معانيه وقد ذكر شيخنا في الرسالة ذاتها سبب كتابتها .. يقول شيخنا رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد الصالح العثيمين إلى الابن (.... ) حفظه الله تعالى السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فقد سألتني بارك الله فيك أن أضع لك منهجا تسير عليه في حياتك... وإني لأسال الله تعالى أن يوفقنا جميعا لما فيه الهدى والرشاد والصواب والسداد وأن يجعلنا هداة مهتدين صالحين مصلحين فأقول: أولا : مع الله عز وجل 1- احرص على أن تكون دائما مع الله عز وجل مستحضرا عظمته متفكرا في آياته الكونية مثل خلق السموات والأرض وما أودع فيهما من بالغ حكمته وباهر قدرته وعظيم رحمته ومنته . وآياته الشرعية التي بعث بها رسله ولا سيما خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم. 2- أن يكون قلبك مملوءا بمحبة الله تعالى لما يغذوك به من النعم ويدفع عنك من النقم ولا سيما نعمة الإسلام والاستقامة عليه حتى يكون أحب شيء إليك. 3- أن يكون قلبك مملوءا بتعظيم الله عز وجل حتى يكون في نفسك أعظم شيء.. وباجتماع محبة الله تعالى وتعظيمه في قلبك تستقيم على طاعته قائما بما أمر به لمحبتك إياه تاركا لما نهى عنه لتعظيمك له. 4- أن تكون مخلصا له جل وعلا في عباداتك متوكلا عليه في جميع أحوالك لتحقق بذلك مقام (إياك نعبد وإياك نستعين). وتستحضر بقلبك أنك إنما تقوم بما أمر امتثالا لأمره وتترك ما نهى عنه امتثالا لنهيه فإنك بذلك تجد للعبادة طعما لا تدركه مع الغفلة وتجد في الأمور عونا منه لا يحصل لك مع الاعتماد على نفسك. ثانيا : مع رسول الله صلى الله عليه وسلم 1- أن تقدم محبته على محبة كل مخلوق وهديه وسنته على كل هدي وسنة . 2- أن تتخذه إماما لك في عباداتك وأخلاقك بحيث تستحضر عند فعل العبادة أنك متبع له وكأنه أمامك تترسم خطاه وتنهج نهجه. وكذلك في مخالقة الناس أنك متخلق بأخلاقه التي قال الله عنها(وإنك لعلى خلق عظيم). ومتى التزمت بهذا فستكون حريصا غاية الحرص على العلم بشريعته وأخلاقه. 3- أن تكون داعيا لسنته ناصرا لها مدافعا عنها فإن الله تعالى سينصرك بقدر نصرك لشريعته. ثالثا : عملك اليومي غير المفروضات 1- إذا قمت من الليل فاذكر الله تعالى وادع الله بما شئت فإن الدعاء في هذا الموطن حري بالإجابة واقرأ قول الله تعالى( إن في خلق السموات والأرض ) حتى تختم سورة آل عمران وهي عشر آيات. 2- صل ما كتب لك في آخر الليل واختم صلاتك بالوتر. 3- حافظ على ما تيسر لك من أذكار الصباح . قل مئة مرة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. 4- صل ركعتي الضحى. 5- حافظ على أذكار المساء ما تيسر لك منها. رابعا: طريقة طلب العلم. 1- احرص على حفظ كتاب الله تعالى واجعل لك كل يوم شيئ معينا تحافظ على قراءته ولتكن قراءتك بتدبر وتفهم . وإذا عنت لك فائدة أثناء القراءة فقيدها. 2- احرص على حفظ ما تيسر من صحيح سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن ذلك حفظ عمدة الأحكام. 3-احرص على التركيز والثبات بحيث لا تأخذ العلم نتفا من هذا شيء ومن هذا شيء لأن هذا يضيع وقتك ويشتت ذهنك. 4- أبدا بصغار الكتب وتأملها جيدا ثم انتقل إلى ما فوقها حتى تحصل على العلم شيئا فشيئا على وجه يرسخ في قلبك وتطمئن إليه نفسك. 5- احرص على معرفة أصول المسائل وقواعدها وقيد كل شيء يمر بك من هذا القبيل فقد قيل: من حرم الأصول حرم الوصول. 5- ناقش المسائل مع شيخك أو من تثق به علما ودينا من أقرانك ولو بأن تقدر في ذهنك أن أحدا يناقشك فيها إذا لم تمكن المناقشة مع من سمينا. هذا وأسال الله تعالى أن يعلمك ما ينفعك وينفعك بما علمك ويزيدك علما ويجعلك من عباده الصالحين وحزبه المفلحين . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته كتبه محمد الصالح العثيمين في 3 رجب 1412 هـ التوقيع. رحمة الله على شيخنا وجزاه الله عني خير الجزاء إن كلماته تلك تحمل في كلمة منها معاني سامية خرجت من قلب رجل امتلأ علما وإيمانا وتقى احسبه كذلك والله حسيبه.. الحلقة الثامنة والخمسون لا أرغب في الاسترسال حول التصرف الذي حدث من قبل صاحبنا فبفضل المولى سبحانه منذ ذلك التصرف الأهوج الذي بدر منه لم أتلقى أي تصرفات أخرى ملموسة من قبله سواء بالكلام أو الفعل والله ربي وربه وحسيبي وحسيبه مطلع على الخفايا وعالم بالسرائر.. ويبدوا أنه شعر بخيبة أمل كبيرة حيث لم يصل لمبتغاه بفضل الله أول ثم بفضل شيخنا الحصيف والعاقل والمؤمن والعالم الراسخ.. فأين تجد مثل هذا ؟؟ ذلك فضل الله.. توقف النزاع والخصام ولعله إلى الأبد والحمد لله .. وأؤكد للجميع أنني لم أسعى وأهتم بذكر هذا الرجل بعينه بسوء!! أمام أحد من الناس كائنا من كان .. مقابلة لجرمه بحقي وكذبه علي .. ولو أنني أذكر أعماله وتصرفاته فليست سوى للعبرة .. والله يهدينا ويهديه لصراطه المستقيم .. حينما كتبت بالأمس تلك النصيحة التي وجهها شيخنا لي .. تذكرت أنني قرأتها في تلك الأيام ولا شك أنني استفدت منها .. وحرصت على العمل بها بقدر ما آتاني الله من بصيرة ..!! ولكنها اليوم ذات طعم خاص ومذاق مختلف.. منذ فترة بعيدة جدا لم أقرأها ولعل هذا من حسنات هذه المقالة أن جعلتني أتذكر تلك الوديعة الثمينة.. قرأتها بالأمس قراءة تمحيص وتدقيق.. تأملت حروفها .. حيث كتبها بيده وبخطه الجميل.. شممت عطرها الزكي.. على ذلك الورق المتواضع .. أصغيت لها فتردد في سمعي رنينها العذب... و ضعتها على صدري فامتزجت همساتها في الفؤاد .. تذكرت الوقت الثمين الذي قضاه في تدوينها.. تذكرت كم أنه تأمل وفكر فيما هو يصلح حالي في ديني ودنياي فرقمه.. تذكرت يده حينما قبضت على القلم وأخذت تخط تلك الكلمات الصادقة.. تذكرت كيف كان قلبه في تلك اللحظات ينبض بالرحمة والشفقة علي.. خرجت بأمر واضح كالشمس: أيقنت أنها صدرت من قلب كبير.. رحمك الله يا أبا عبد الله .. رضي الله عنك ياشيخنا محمد.. فوا لله ما قدرتك حق قدرك وما أوفيتك الوفاء الجميل.. والله لو كان لي سبيل إليك لرأيت مني غير ما رأيت .. ووالله ياوالدي لو تمكنت من رؤيتك والاجتماع بك لتعبدت ربي سبحانه أن أكون خادمك المطيع حتى الممات.. أنت والدي فعلت بي ما يفعله الوالد بولده وأكثر.. كم مرة سمعت أبي أحمد رحمه الله يقول لي بحضور شيخنا: هذا والدك دوني !! قلت له : مه !! فقال: لقد قدم لك كيت وكيت وفعل لك كذا وكذا.. إن للأمة حق على هذا الرجل حق عام!! أما أنا وغيري فعلينا له حق خاص.. يجب علينا أن ندفعه له حتى الممات.. أقله الدعاء وهو من الوفاء له .. ونشر علمه .. وتعريف الناس بفضائله وهذا الذي سماه خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام( واجعل لي لسان صدق في الآخرين) وهاأنذا أحكي بعض جميله .. كنت في تلك الأيام رغم بري به والحمد لله والجميع يعرف ذلك قليل الإدراك وهكذا المرء في فتوته وشبابه .. قد يدرك ولا يدرك ..!! يرى الأمور ويبصرها ولكن لا يفهم معانيها ومضامينها وروحها إلا، لاحقا.. لا يقرأ بين السطور.. وبالأحرى لا يملك آليات تلك القراءة !! وهذه هي البصيرة الحقة.. أي منا لم تسهر والدته يوما بجواره وهو صغير حينما يئن من المرض ؟؟ أي منا لم يرى كم كان والده يخرج باكرا من منزلهم ويعود في المساء وقد بلغ به الإعياء والتعب مبلغه.. كنا نرى تلك التصرفات ولكننا لا ندرك جوهرها ولا عمقها.. إنه الحنان .. إنها الرحمة .. والمحبة والشفقة والفداء والتضحية .. وكل المعاني السامية تنبعث من تلك التصرفات جملة واحدة.. تلك المعاني تكتشفها للأسف لاحقا .. بعد سنوات طويلة .. وغالبا بعد رحيلهم.. فتبقى في القلب حسرات وآهات .. وأقول : يا إخوتي وأخواتي من وفقه الله فأبصر الحقيقة وعلم ذلك علم اليقين وما زال صاحب الفضل حوله وقريبا منه.. فهذا والله المحظوظ فلا تفلت منه الفرصة.. فدونه الجنة فهي أقرب له من شراك نعله..!! بعد موت والدي عليه رحمة الله .. بشهر تقريبا كنت أسير بسيارتي بين الطائف والرياض.. وكنت حينها لم أستيقظ بعد من هول الصدمة بفقدانه.. كنت أقود السيارة وارى الطريق أمامي ولكن قلبي وعقلي معه رحمه الله يسترجع شريط الذكريات الطويل .. من الذكريات المحزنة.. وحصل ذلك قبل أسبوع من موته رحمه الله.. حيث أنني أثقلت عليه في موضوع ما!! وأذكر أنه اتصل علي وعاتبني على ذلك.. حيث وقف ساعات وعانى من هذا الأمر .. وكان ذلك على غير قصد مني.. ومع ذلك فإنني شعرت بألم في قلبي وحزن فأوقفت سيارتي وبكيت حتى كدت افقد وعيي من البكاء والله .. رحمهم الله ورضي عنهم وجمعنا وإياهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر مرت الأيام والساعات وتوالت الليالي والحمد لله استزدت تحصيلا.. من رعايته رحمه الله بي حيث درسنا في تلك الأيام مادة المواريث وهذه المادة من أصعب علوم الفقه كما هو معلوم.. فكان شيخنا يهون علي المر ويقول : هي سهلة جدا!! أذكر مرة أنني حضرت في مدينة الطائف درسا في علم المواريث ( الفرائض) عند الشيخ علي بن محمل العتيبي وهو قاضي متقاعد من المحكمة والشيخ علي متقن للغاية لهذا الفن.. حينما استمعت لكلامه طوال ساعة وأزيد لم أستطع فهم كلمة واحدة ..وأغلق علي وعسر ذلك العلم من ذلك الدرس فخرجت وأنا مصدوم من هذا العلم المعقد للغاية.. ولكن شيخنا رحمه الله كما هي قاعدته (الكيف لا الكم).. جرد لي هذا العلم من كل تلك العقبات فصار ميسرا وسهل التناول بحمد الله تعالى.. فكنت ادرس عنده في الليل مع الطلاب .. وفي الطريق لبيته يملي علي المسائل ويختبرني ويكلفني بالبحوث حتى أدركته جميعا.. وما زلت حتى الآن أحتفظ بتلك الواجبات وعليها تصحيحاته وتعليقاته بالقلم الأحمر.. علمت أن شيخنا يعاني من قضية المساعدات التي يقدمها للناس حيث يأخذ ترتيب تلك الأمور وتدوينها وجردها وقتا ثمينا منه.. فعرضت عليه أن أساعده في ذلك.. وأراد مرة أن يختبر جديتي في الموضوع!! حيث اتصل علي شيخنا ذات يوم في السكن.. وقال لي : أريدك تحضر للبيت احتاجك في أمر.. فوصلت لبيته فخرج إلي وفي يده كيس ..وقال: هذه النقود تذهب بها للبنك وتودعها في حساب الزكاة.. ولم يكن المبلغ كبيرا ولكنني لم احمل مثله من قبل!! ذهبت للبنك مرورا بالبيوت الطينية الواقعة بين شارع الشريمية والبنك في شارع الضليعة.. كانت الشوارع والأزقة خالية من الناس والمارة.. فكنت استعجل الخطى حتى أمر من تلك الدور المهجورة والمخيفة.. دفعت للبنك ذلك المبلغ .. ومنذ ذلك اليوم ولسنوات صرت احمل نقود الزكوات والصدقات وغيره من البنك للشيخ والعكس.. ولقد كانت تبلغ المبالغ أحيانا أرقاما كبيرة ومخيفة .. ومع ذلك فلم يحصل أي حادث يذكر سوى موقف وحيد وتافه لا يستحق الذكر!! في تلك الأيام حدثت حادثة غريبة لي .. الحلقة التاسعة والخمسون شعرت في تلك الأيام بألم شديد في الجزء الأيسر من رأسي.. ظننته صداعا عابرا ..فاستعملت المهدئات.. ولكن الألم استمر وزاد حتى صار عذابا لا يطاق.. توجهت لقسم الطوارئ في مستشفى الملك سعود.. قال لي الطبيب: يجب أن تنوم في المستشفى لنرى ما القصة؟؟ لا أشك أنه قد ظن أن في الأمر شيئا خطيرا فقرر تنويمي.. اتصلت على شيخنا وبلغته بالحاصل.. فقلق علي رحمه الله واتصل على المشرف العام ليستبين الموضوع.. وضعت في غرفة جميلة وهادئة وكنت فيها وحيدا .. وهذه من جمائل الدكتور عبد الله البداح المشرف العام.. بعد صلاة العصر.. جاءني في المستشفى للزيارة شيخنا رحمه الله ومعه جمع كبير من الطلاب .. لم أكن اشعر بشيء خطير سوى تلك الآلام التي تأتي ثم تروح .. ولم يكن يوقفها سوى المهدئات والمسكنات والتي سيكون لها آثار جانبية في المستقبل كما سترون..!! إن مجرد رؤية هذا الرجل الشهم والعالم الجليل وهؤلاء الكرام حوله من طلبته الأخيار .. أشعرني بالفخر والشرف أن أنتسب لتلك الطائفة الصالحة رضي الله عنهم زارني المشرف العام مرارا ومعه المدير الطبي ورئيس شئون المرضى وفي بعض الأحيان عدة مرات يوميا جزاهم الله خيرا.. كثرت علي التحاليل والأشعة حتى أيقنت أن في الأمر شيئا ما !! قلت في نفسي: أخي الكبير محمد رحمه الله سبق وأن مات بسرطان في دماغه فهل ياترى توارث المرض لي؟؟ كنت كلما تذكرت العذاب الذي وجده والداي ونحن الأبناء من مرض أخين الكبير محمد أصاب بالقلق والخوف.. ماذا لو تكرر الموضوع؟؟ أخي محمد رحمه الله له قصة أستميح القراء في روايتها وإن طالت .. هذا الشاب الذي اذكر عنه أشياء بسيطة ،توفي رحمه الله وأنا ما زلت في سن السابعة أو قريبا منها.. وذلك في سنة 1402 للهجرة .. حيث شعر بآلام شديدة في رأسه .. وتعب الأطباء وعانوا في اكتشاف سبب ذلك .. فقائل : هو ورم غير مرئي!! وقائل : هو مرض نفسي .. وقائل:هو دلع وتدلل صبياني!! نقل على أثرها إلى الرياض لمستشفى الملك فيصل التخصصي .. وهناك شخص المرض بأنه ورم خبيث في الدماغ.. أستأصل الأطباء الورم وادعوا نجاح العملية .. ولكن الآلام لم تتوقف .. يئس الوالد رحمه الله من ذلك المستشفى ونقله لمستشفى عرفان في جده واستعملوا الإبر الصينية معه وأنفق مبالغ طائلة وبلا طائل!! لم يسمع أبي بطبيب في شرق المملكة أو غربها أو قريبها وأقصاها إلا وذهب إليه وتعب هو وشقي كما شقي أخي محمد أو كاد.. أستعمل الأدوية الشعبية والكوي.. أذكر مرة أنهم كووه المسكين حتى سمعت صراخه وأنينه ونحن في السيارة وكنا نبكي لبكائه رحمه الله .. أما الوالدة فلا تسل عن حالها ولا عن كربها خلف الله عليها خيرا.. كنا نتقل بين مدن المملكة لعلاج أخينا أينما حل فقد كنا صغارا ولا راعي لنا بعد الله سواه.. أشار على الوالد عدد من أصحابه أن يعالجه في الخارج.. فتردد الوالد ولكنه أخيرا عزم ولكن أين وكيف وكم؟؟؟؟ جمع الوالد مبلغا وفيرا من المال وأظنه استدان جزءا منه .. وسافر بأخي والوالدة واثنين من إخوتي الصغار لأمريكا .. إلى مدينة هيوستن بولاية تكساس( ولا أدري هل نطقتها صحيحة).. بقي أخي محمد لشهرين تقريبا مدركا لما يجري حتى دخل في غيبوبة .. لم يستيقظ منها أبدا.. قرر الأطباء أن الوقت تأخر كثيرا !! وقالوا للوالد : لو أتيت به مبكرا لأمكن استئصال الورم ولكنه الآن انتشر في دماغه ولو حاولنا إزالته فنجاح العملية فقط 1% (واحد في المائة )!! ولك القرار؟؟ احتار الوالد ماذا يفعل واستخار ربه وأخيرا قرر أن لا يجري له العملية فهي مخاطرة كبيرة وموت ابنه في بلده وبين أهله أهون على نفسه من موته في أمريكا .. وسلم أمره لله تعالى.. طالب المستشفى الوالد بتسديد ما بقي عليه من مبالغ متأخرة.. فأخبرهم أن ما لديه لا يغطي مصاريفهم ومصاريف السفر.. فقالوا له : أدفع مبالغنا المتبقية ولا يعنينا كيف ترجع لبلدكم هذه مشكلتك.!! اتصل الوالد على عدد من شركات الطيران لكي يرتب للعودة.. وجميعها رفض أن يوافق على النقل بسبب خوفهم من موت أخي وهم في السماء!! قال لهم الوالد: أنا اكتب لكم إقرارا أنكم لا تتحملون أي مسئولية عن ذلك وتقع كل المسئولية علي إن مات.. فأبوا وأصروا على الرفض!! خوفا على سمعة شركاتهم.. تقول الوالدة : أخذت الحيرة بابيك ولم يدر ما يفعل.. كانت هناك مترجمة لبنانية وعملها الأصلي التمريض في نفس المستشفى .. قالت لأبي : يا أخ أحمد يوجد أمير من العائلة المالكة السعودية يتعالج في القسم الذي تحتنا مباشرة ..فلماذا لا تذهب لتتحدث معه عن مشكلتك!! توجه والدي دون أن يرد عليها فورا إلى القسم المذكور .. وبحث عن أناس بسحنات عربية .. فوجد مجموعة من الشباب ومعهم رجل كبير في السن ويظهر عليه أنه ذو غناء وسلطة !! سلم عليهم الوالد فردوا التحية وخصوصا ذلك الكبير منهم ورحبوا به ترحيبا كبيرا .. وزاد سرورهم حينما علموا أنه من المملكة ومن أبناء بلدهم.. واستفسروا عن سبب وجوده ؟؟ فقال لهم : لأجل هذا جئتكم.. !! وروى لهم حال الأخ محمد ووضعه مع المستشفى وشركات الطيران.. فقال له الأمير: هون عليك يا أخي واعتبر الموضوع منتهي وجهز حقائبك للسفر غدا.. أي تيسير من الله تعالى هذا التيسير ؟؟ الحمد لله على نعمه.. سدد الأمير كل رسوم المستشفى وتكفل لهم بطائرة تنقلهم مباشرة إلى الرياض.. جزاه الله خيرا .. بخصوص اسم الأمير ذاك فإن كنت اذكر قال لي الوالد رحمه الله أن اسمه : محمد بن سعود الكبير فجزاه الله خيرا إن كان هو أو غيره !! بقي أخي في الرياض لأسبوع واحد ثم نقل للطائف لمستشفى القوات المسلحة في الهدى.. وفي صبيحة يوم خميس بعد أسبوع تقريبا من وصوله للطائف.. تقول أمي: كان أخوك ينظر إلى ما حوله دون أن يتكلم .. فهو لا يشعر بمن حوله ولكنه يشير بأصبعه أحيانا.. في تلك اللحظات وحوالي الساعة التاسعة صباحا .. جرك إصبعه وأشار إليها فنظرت في وجهه .. فرأت اختلافا في ملامح وجهه .. وكأنه يريد أن يقول لها شيئا ولكنه عاجز عن الكلام .. قالت له : يامحمد ياقرة عيني ماذا تريد ياوالدي ؟؟ خرجت من عينيه دموع بسيطة ولكنها ذات معنى.. قبضت على يده وبقيت ترقب نبضه فقد كان يضعف ويضعف.. حتى فاضت روحه عليه رحمة الله وأسكنه جنات النعيم.. دار في مخيلتي وأنا في عنيزة تلك القصة وتلك المعاناة هل ستتكرر معي.. دخل علي المشرف العام على المستشفى ومعه شخص أو شخصين.. وطلبوا رقم شيخنا وكأنهم يريدون تبليغي بأمر والشيخ يسمع!! قال له الدكتور عبد الله : ياشيخنا الفاضل فلان يجب نقله بطائرة الإخلاء إلى الرياض فورا !! قال شيخنا: هل حالته تستلزم ذلك ؟؟ قال : نعم ، فقد ظهر لنا من خلال الأشعة وجود ورم في رأسه !! كان الوالد والوالدة والعائلة تتصل علي يوميا للتابع الأخبار.. حينما أبلغت الوالد أنهم سينقلونني بطائرة الإخلاء.. طلب مني الانتظار حتى يقدم .. وصلت طائرة الإخلاء والوالد معا في نفس الوقت.. نقلت بالإسعاف للمستشفى العسكري في الرياض.. لم أكن أشعر بآلام تلك الأيام ولكن يبقى رأي الأطباء هو الحكم هنا.. رجوت الوالد أن يرجع للطائف فقد كنت أعلم المعاناة والمشقة عليه في بقاءه معي وترك عمله وعائلته خلفه .. أستفسر من الأطباء عن وضعي فقالوا له : الموضوع هو اشتباه واطمئن ولا تقلق.. رافقني أحد زملائي وهو الأخ سعود الحربي وأنعم به وأكرم من أنيس ومعين.. كان يخدمني في تلك الأيام محتسبا جزاه الله عني خير الجزاء.. رغم أني أستطيع السير والتنقل .. كان بجواري شاب مصاب بشلل نصفي مؤقت.. أصيب به في أمريكا وعاد للملكة للعلاج.. كان شيخنا رحمه الله يتصل علي في اليوم عدة مرات ليطمئن علي ويسمع المستجدات.. سمعني ذلك الشاب وأنا أذكر اسم شيخنا فرجاني أن يكلم الشيخ ولو لكلمتين إن اتصل علي مرة أخرى، وهذا ما حصل.. قال لي: هل هو والدك؟؟ قلت : نعم أنا لي والدين اثنين !! والد بالنسب والدم .. ووالد بالبر والرحمة وكلاهما عزيز على قلبي ولهما حق الأبوة علي.. رحمهما الله وأسكنهما الفردوس الأعلى .. مكثت في المستشفى لأسبوعين اثنين .. وكانت النتائج والحمد لله أنه مجرد اشتباه والورم هو انتفاخ في أوعية الدماغ .. والآلام التي كنت أشعر بها هي مرض وصداع يسمى طبيا الصداع النصفي وتسميه العرب الشقيقة .. الحلقة الستون حينما رجعت لعنيزة .. استفسر شيخنا رحمه الله مني عن طبيعة الألم الذي أشعر به.. فشرحت له وفصلت فقال لي : مرني اليوم بعد صلاة العصر في المنزل.. وكان والدي قد قدم لعنيزة مرة أخرى للاطمئنان علي.. وكانت ضيافته طوال بقائه هناك في عنيزة في منزل شيخنا عليه رحمة الله.. ونشأت بينه وبين شيخنا محمد علاقة حميمة مليئة بالاحترام والتبجيل.. والدي رحمه الله رجل حيي وخجول ولكنه إن نطق فلسانه عذب ولبق رحمه الله.. ولقد أعجب شيخنا به وبأخلاقه وبساطته في هيئته ولباسه وذكر ذلك لي عنه وكأنه وشيخنا في هذا الخصوص صنعا من طينة واحدة!! كما تقول العامة عندنا.. مررت أنا والوالد على شيخنا بعد العصر فناولني كيسا في يده وكان يتلفت حوله وكأنه يستعجلنا بالذهاب وهذا ماكان.. فتشت الكيس فوجدت فيه بقايا طعام !! من عظم وبقايا بطيخ مأكول ونحو ذلك!! لحقنا الشيخ للسيارة وقال لي : أخلط بقايا الطعام في ماء واغتسل به واغسل به رأسك على الخصوص!! وهذا ما فعلته ولم أسأله لمن ذلك الطعام ولا أدري هو لمن حتى هذه الساعة.. كلفني شيخنا رحمه الله في تلك الأيام بعد اعتدال صحتي والحمد لله .. بترتيب مخزن المكتبة الوطنية .. وقال لي: إن وجدت كتابا مكررا فخذ نسخة منها لك.. فتحت المخزن فوجدت الأرضة قد أكلت جزءا لا يستهان به.. استعنت بعمال المسجد ونظفنا الكتب ووضعناها على الرفوف .. وألقينا بالتالف جدا والأوساخ خارج المخزن.. حصلت على عدد لا بأس به من الكتب المكررة وكذلك أخذت بعض الكتب بإذن شيخنا.. وأنا أقلب في تلك الكتب كان يلفت نظري تعليقات ورسائل قليلة أجدها موضوعة بين دفتي الكتب.. قرأتها وكان غالبها بخط الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله.. ومؤرخة ..وتاريخها قديم يتجاوز الخمسين سنة وأكثر.. والظاهر أن مكتبة الشيخ ابن سعدي أوقفت أو أنه أهدى شيئا من كتبه للمكتبة العامة والمسماة ( مكتبة عنيزة الوطنية) وجدت كتيبا اسمه ( صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم)تأليف أبو عبدالرحمن ناصر الدين نوح نجاتي الألباني الساعاتي!! عرفت أنه كتاب صفة الصلاة المشهور والذي كتبه علامة الحديث الشيخ الألباني رحمه الله .. وهذه هي الطبعة الأولى وكتب عليها الشيخ الألباني وبخط يده (هدية المؤلف إلى حضرة الشيخ عبد الرحمن ابن ناصر السعدي 7/12/72هـ ناصر الدين نوح نجاتي الألباني) .. الشيخ الألباني علم الحديث وشيخ العصر في ذلك .. وليس مثلي من يثني عليه أو يسأل عنه .. رحمه الله قرأت مرة كتابا منذ مدة ألفه الأستاذ الأديب عبد الله بن خميس يروي فيه إحدى رحلاته للشام قبل حوالي الخمسين سنة وكان برفقته علامة الأنساب والأدب وصديقه الحميم الشيخ حمد الجاسر رحمه الله .. وأظن أن ثالثهما هو الأديب عبد الكريم الجهيمان .. ذكر في كتابه أنه زار المكتبة الظاهرية في دمشق .. و ذكر أنه شاهد هناك رجلا منهمكا في البحث والمطالعة وذكر اسمه وقال كلاما بمعناه :ذلك هو علامة الشام المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني . وكذلك قرأت للشيخ حمد الجاسر قريبا من هذا الكلام في مذكراته وقال عنه: هو من أحلاس المكتبة الظاهرية.. كان مرة بيني وبين الشيخ علي الحلبي تلميذ الألباني المشهور اتصال ونقاش حول بعض التخريجات الحديثية.. وكنت أشعر في نفسي أن هناك جفوة غير مفهومة بين شيخنا والشيخ الألباني والظاهر أن سببها هو ما يثيره بعض المفسدين في الأرض بين الشيخين .. مما سبب شيئا من تلك الجفوة وانقطاع التواصل.. ولا يأتيني قائل ويزعم أنني أختلق الموضوع من طرفي .. فمن عاصر قضية حرب الخليج وما حصل فيها من اختلاف وشقاق وجفاء بين رجالات الصحوة والعلم ،فهم ما أعنيه جيدا!! قلت للشيخ علي: ما رأيك أن نرتب مكالمة هاتفية بين شيخنا محمد والشيخ الألباني ..؟؟ ففرح بذلك وأثنى على الفكرة وأيدها وقال سوف أرتب مع الشيخ الألباني وأنت رتب مع الشيخ محمد وسنرى ما يكون.. عرضت الأمر على الشيخ فقال فورا : لا بأس بذلك وأثنى على الفكرة ورغب في ذلك.. وذكر لي أنه لم يراه من مدة بعيدة حيث كان آخر لقاء بينهما في جده أو قال في مكة.. ( نسيت التاريخ ) و ذكر أنه تناقش معه حول موضوع الحجاب .. ومن طرف الحلبي فقد كان التجاوب مماثلا والحمد لله.. حددنا الاتصال أن يكون في يوم من الأيام الساعة العاشرة صباحا ضحى .. ولا أذكر التاريخ بالتحديد.. وأظنه كان يوم جمعة !! حيث من عادة شيخنا في ذلك اليوم الاتصال على أقربائه والتواصل معهم.. قلت لشيخنا : هل تسمح لي بتسجيل مكالمتكما ؟؟ قال: لا بأس بذلك.. حضرت لبيته وثبت له جهاز التسجيل وأخبرته كيف يديره .. في اليوم الثاني بعد صلاة الظهر ناولني شريطا وقال : هذا هو تسجيل المكالمة .. توجهت للغرفة مسرعا واستمعت للشريط.. كان التسجيل رديئا وصوت الشيخ الألباني خافتا نوعا ما .. ولكنني استوعبت كل ما فيه .. أستفتح شيخنا كلامه وهو المتصل بعد السلام عليه قائلا له : معكم أخوكم محمد بن صالح العثيمين .. فرد عليه الألباني: قديما قال الفقهاء : المعرف لا يعرف .. وفيه من التحية والسلام والدعاء والنصح بين العلماء كما عهدنا فيهم ذلك وهو ظننا في مشائخنا جزاهم الله عنا خير الجزاء.. تحدث كل منهما عن نشاطه وقال الألباني: لدينا الحمد لله صحوة سلفية وإقبال على طلب علم الحديث .. الخ كلامه وتكلم شيخنا عن دروسه وقال : أدرس كتاب البلوغ ويحضره بحمد الله عدد كبير .. الخ كلامه .. ذكر الشيخ الألباني في آخر مكالمته أنه اتصل عليه اليوم شخص وزعم أن لديه رسالة من الشيخ ابن عثيمين موجهة إليه !! فقال الشيخ محمد : أبدا والله أنا لم أبعث أحدا برسالة لكم؟؟ فتعجب الشيخ الألباني من ذلك وقال : الله أكبر عليه!! سوف أراه اليوم بعد صلاة الظهر أو قال الجمعة في جامع صلاح الدين وأرى ما عنده!! قال شيخنا : ما أكثر ما ينقل الناس عني الكذب ويلبسونه على الناس ، وأرجو منك تتصل علي وتخبرني ما يقوله الرجل عني.. واتفقا على ذلك .. ولا أدري مالذي حصل بعد ذلك وهل جاء ذلك الرجل برسالته المزعومة للشيخ الألباني أم لا !! وانظر أخي القارئ أختي القارئة لحفظ الله تعالى لهذين الرجلين الصالحين فلربما كان في تلك الرسالة شرا وفتنة حيكت بينهما فقدر الله تعالى كشف ذلك بتوفيق من عنده .. والله أعلم وأحكم سبحانه .. ليس هذا هو الموقف الوحيد الذي أحتفظ به بين هذين العلمين الجليلين .. كنت مرة في جبال البوسنة والهرسك وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله .. التقيت برجل أسمر البشرة يكني نفسه بابي عبد الله الليبي هذا الرجل أسد في شجاعته وإقدامه وكان أميرا من أمراء المجاهدين قتل على يد قناص صربي شل الله يده .. روى لي الأخ أبو عبد الله رحمه الله قال: هل تعرف الشيخ الألباني ؟؟ قلت له : ومن لا يعرف الألباني هو علم ومشهور.. قال : أريدك أن تحمل له هذه الرسالة !! قلت له : وأي رسالة ؟؟ قال : رؤيا رآها أحد الصالحين وطلب مني أن أنقلها للشيخ وأنا كما ترى عاجز وقد أقتل في أي لحظة!! قلت له :حدثني.. قال : كان هناك شاب مصري اسمه وحي الدين حافظا لكتاب الله تعالى وكان أميرا على جميع المقاتلين العرب في البوسنة وكان غاية في الشجاعة رغم صغر سنه فقد قتل غدرا وعمره حوالي 23 سنة رحمه الله .. كان وحي الدين هذا محنكا وداهية وكان يوجه المجموعات الكبيرة ويخرجها من بين المصاعب المهلكة بتوفيق الله تعالى.. ذات مرة قادنا وحي الدين وكان أميرا علينا وعلى الجيش البوسنوي معا في تلك العملية التي انتزعت فيها مناطق شاسعة في وسط البوسنة من يد الكروات الخونة.. يقول أبو عبد الله : في تلك العملية قصفتنا مدفعية ولا ندري ما هي الجهة التي تقصفنا فاحتار الجنود من ذلك وكثر فينا الإثخان والقتل فاكتشفنا أن الذي يقصفنا هو الجيش البوسنوي خطأ!! وسبب ذلك عدم توفر أجهزة للتوجيه وتحديد مواقع الأعداء .. واستمر القصف علينا ولم نستطع التقدم لمطاردة الأعداء الهاربين .. عندها أمر وحي الدين الجنود بإحراق كومات كبيرة من الحشائش .. فانتشرت كومة كبيرة من الدخان واتصل على الجيش وقال لهم: نحن خلف تلك الكومة المحترقة وبهذا نجونا من موت محقق !! يقول أبو عبد الله : روى له ذلك الشاب وحي الدين أنه في ليلة من الليالي وقبل قتله من قبل الكروات بفترة وجيزة رأى في ما يرى النائم رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته الشرعية المعروفة .. وتحدث معه في أمور وسأله عن أشياء وفي نهاية رؤياه قال له : يارسول الله دلني على رجل أتعلم منه حديثك وسننك أو بهذا المعنى .. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : أذهب إلى محمد ناصر الدين الألباني أو قال له : عليك بكتب محمد ناصر الدين الألباني .. وأثنى عليه وعلى علمه ودينه.. عندما رجعت للمملكة .. حكيت لشيخنا ما رآه ذلك الشاب رحمه الله وكنا حينها في الطائف.. فقال لي الشيخ : هذي بشرى وينبغي عليك أن تبلغها الأخ الألباني .. فقلت له : لدي رقمه !! فناولني التلفون وقال : اتصل عليه الآن .. اتصلت فردت عليه امرأة فرجوتها أن تعطيني الشيخ لأتحدث معه.. فاعتذرت من ذلك وقالت : الشيخ مريض ولا يستطيع أن يجيب على أحد.. بعد سنة أو أكثر رويت تلك الرؤيا لأحد طلبة العلم من الأردن يقول : ولقد بلغ بها الشيخ الألباني في جمع من الناس فتأثر جدا وشهق وبكى ودع لشيخنا وتأثر من موقفه وحرصه على أن ابلغه .. ففرحت أنني أوصلت تلك الأمانة ولو بعد سنوات .. وبلغته البشرى والله يغفر له ويرحمه هو وشيخنا وجميع علمائنا .. الحلقة الواحدة والستون على ذكر المكتبة اتصل علي شيخنا رحمه الله يوما وقال: سيأتيك أحد الأكاديميين ويريد تصوير بعض المخطوطات .. حيث تحتوي المكتبة على خزانة بها عدد بسيط من المخطوطات القديمة وبعضها كتبت منذ ثمانية قرون.. وقد سبق وقمت بفرزها وترتيبها وفهرستها بأمر شيخنا رحمه الله.. عجيب أمر المخطوطات!! ما زلت أتذكر أنني كنت أجلس في جوف الليالي الهادئة والناس نيام والشوارع ساكنة .. كنت أشعل ضوء المكتبة الخافت وأجلس أتصفح تلك المخطوطات فأشعر بسكينة عجيبة حيث أنني أنتقل لخمسة قرون خلت أو أكثر وأجلس مع ذلك الشيخ أو ذلك الطالب الذي حنى ظهره وكلت يده في شدة الحر والجوع والمخمصة وهو يدون تلك التحفة العظيمة .. لا أدري لو أن الله تعالى قدر على طلبة علم هذا الزمان المترفين !! أن يرجعوا لتلك الأزمان الغابرة مدة شهر واحد فقط ماهم فاعلون؟؟؟ جاءني ذلك الأكاديمي المذكور .. وجهه أبيض مشرب بحمرة يلبس مرآة نظر الوجه عذب اللسان بسيط أنيس .. انشرح له قلبي منذ أن رأيته .. عرفني بنفسي قال : أنا أخوك عمر السبيل !! والذي صار لا حقا إمام الحرم الشريف .. وفجعنا بموته رحمه الله بعد سنوات جعل الفردوس الأعلى مثواه.. كان يريد مخطوطة عن الألغاز .. فتشت له عنها واستخرجتها له .. أقفل المخطوطة ونسينا أمرها وبقينا في المكتبة نتحدث ولم نشعر حتى انتصف الليل.. أمثال الشيخ عمر جلست معهم ساعات معدودة ولكن كلماتهم الصادقة ولطفهم وسماحة نفوسهم تبقى خالدة في النفس حتى الممات .. ووالله لو كنت أنظم النثر لرثيته فنعم الرجل عمر .. رحمة الله عليه وخلف الله على والديه خيرا فيه.. استدعاني الشيخ في تلك الأيام وأدخلني لملحق بيته وقال لي وكان صارما: أريدك أن تكون صادقا معي فيما أسألك عنه!! نظرت في عينيه وقلت له : والله سأكون معك صادقا إن شاء الله .. وانتابتني قشعريرة وخشيت أن يكون أحدهم ( وما أكثرهم) قد لبسني تهمة جديدة!! قال : هل تجيبني عما أسألك عنه مهما كان ..؟؟ قلت : أفعل إن شاء الله .. قال : بلغني من أحدهم أن عليك دينا لبعض الأشخاص في الطائف قبل قدومك لعنيزة هل هذا صحيح؟؟ خجلت والله واستحييت أن أكلم الشيخ في مثل هذه الأمور .. وكنت أعلم أن الشخص الذي نقل له الخبر هو الأخ محمد زين العابدين .. وقد أخبرت محمد منذ مدة عن ذلك حينما كانت الفتنة بيني وبين صاحبنا حامية .. ولا أذكر مناسبة ذكر هذا الموضوع ولكنه الشخص الوحيد الذي أخبرته.. رفعت رأسي وتشجعت وقلت له : نعم علي دين .. أرخى رأسه وأحنى جفنه وأخفض صوته معاتبا.. قال : لم لم تخبرني ؟؟ ألم اقل لوالدك أنك تحت رعايتي ؟؟ لم أستطع الجواب واحترت !! استجمعت قواي وقلت له: يا شيخنا تلك أمور حدثت في الماضي قبل قدومي عليك ولم أكن تشرفت بمعرفتك .. قال مقاطعا: ولكن المال ما زال في ذمتك .. والناس لن تتركك فكيف تريد أن تطلب العلم وأنت مشغول بهم؟؟؟ آمرك بكتابة تلك الديون وسوف أسددها عنك .. قلت له : أبدا والله !! قاطعني وقال: يجب أن أسددها حتى تريح بالي وبالك .. ثم قال:وثق تماما أنني سأوفي دينك من مالي الخاص وليس من أموال الزكاة أو الصدقة حتى لا أكون مجاملا معك من أموال المسلمين!! ثم ناولني ورقة وطلب مني تدوين تلك الأسماء ومالهم علي .. فكتبت ودخل لبيته ولم يطل الغياب ثم ناولني المبلغ كاملا وزاد عليه وقال لي :هذا هو المبلغ ومعه نفقتك تسافر اليوم وتسدد للناس مالهم.. ثم اتبع ذلك قائلا لي وأشار بيده : أنت في حرج مني إن احتجت ريالا أو مئة ألف إلا طلبت مني فأنا في مقام والدك فلا تتحرج مني!! قبلته بين عينيه وقبلت يده .. وخرجت من عنده وأنا محتار من كرم هذا الرجل .. كنت أتساءل من قبل ولعلكم أنتم تساءلتم مثلي: نرى كثيرا من المشائخ وأهل العلم ولكن قليل منهم من لهم قبول في القلوب لماذا؟؟ حينما اختلطت بشيخنا وعاشرته كنت أراه رغم علمه وجلالة قدره بشرا .. يأكل وينام ويمشي في الطرقات ويتعب ويمرض ويغضب ..الخ ولكن حينما رأيت أفعاله وتصرفاته معي ومع غيري عرفت أن الله تعالى المطلع على أفعال العباد في السر والشهادة هو الذي يبعث القبول للصالحين في قلوب البشر..وغير البشر!! لا تتعجبوا من ذلك إخوتي أخواتي .. ذكر لي الشيخ بنفسه قال لي : جاءه رجل من قراء عنيزة المعروفين وذكر له أنه قرأ على احد الممسوسين بالجن وأنه تحدث معي الجني ومن حديثه انه قال له ( أي الجني): إن جدي مطوع يحضر درس ابن عثيمين في الجامع!! مرت الأيام والليالي وانتهى موسم الدراسة وجاءت الإجازة الصيفية.. حيث يتكثف برنامج الدروس .. وتأتي لعنيزة كوكبة و دماء جديدة ووجوه أخرى من مناطق المملكة وخارجها .. غالبها تأتي للدراسة في إجازة الصيف ثم ترجع لموطنها.. ومنهم من يحالفه الحظ فيبقى وإنه لذو حظ عظيم !! وقد كان شيخنا يهتم بهؤلاء الطلبة كون غالبهم لا يستطيع المكوث طويل فيخصهم بمادة نحو الفرائض أو متن في الأصول أو النحو أو نحو ذلك بحيث يرجع الواحد منهم وقد درس متنا كاملا بالإضافة للدروس الأخرى أذكر أنه جاءنا في سنة من السنوات طلاب من دولة روسيا يدرسون في الجامعة الإسلامية .... وفي سنة من السنوات جاءنا حوالي العشرون شابا اهتدوا للسنة بعد أن كانوا على المذهب الإسماعيلي الضال.. وقد اهتم بهم شيخنا جدا حتى أنه خصهم بدرس في بيته كل صباح في العقيدة.. استمعت مرة لشريط لشيخنا حيث أنه زاره في مسجده في عنيزة عدد من الجنود الأمريكان الذين أسلموا في حرب الخليج يقول لي الشيخ عن تلك الجلسة.. كانوا ضخام الأجسام طوالا وأجلستهم في مكان الدرس المعتاد .. وحيث أنهم يبدوا لم يعتادوا الجلوس على الأرض فقد تمدد بعضهم واتكئ على يده أمام الشيخ ..!! يقول الشيخ :ولم أرد أن أعلق على أن ذلك من سؤ الأدب رأفة بهم لحداثة إسلامهم.. يستمر ذلك البرنامج الصيفي حوالي الشهر تقريبا بعده يسافر شيخنا لمدينة الطائف لحضور اجتماع هيئة كبار العلماء كما هو معروف.. وكنت رفيق شيخنا في تلك السفرة للطائف.. توجهنا لجده ومنها توجهنا لمكة لأداء العمرة.. وكان في رفقتنا في تلك العمرة الأستاذ عبد الرحمن العثيمين أخا الشيخ وكذلك ابنه الصغير عبد الرحيم.. بالإضافة للأخ علي السهلي.. انتهينا من أداء المناسك سريعا ثم توجهنا بعد العصر للطائف.. وكان مسيرنا عن طريق المسيال وليس عن طريق جبل الهدى .. كان الجو ممطرا وكنت فرحا مسرورا للغاية وذلك أن شيخنا سوف يزورن في منزلنا في الطائف.. قلت له: والله بتنور بيتنا ياشيخ بقدومكم .. فرد علي ابن الشيخ عبد الرحيم : بتنور كل الطائف مو بيتكم فقط!! فضحكنا من جوابه ونباهته رغم حداثة سنه.. وصلنا فكان الوالد رحمه الله في استقبالنا عند باب البيت.. ولا تسل عن فرحه وابتهاجه بنزول الشيخ محمد عندنا.. كان الوقت عصر تقريبا .. حينما وضع شيخنا قدمه في البيت .. قلت في نفسي : ياسبحان الكريم الخالق .. ابن عثيمين إمام المسلمين وعالمهم وفقهيهم بنفسه يدخل بيتنا .. كأنني أقول لأبي حينها : قد أغضبتك أنت ووالدتي بهروبي وهاأنذا اثبت لك يا أبي أن الله تعالى تولاني ورحمني ومن علي .. فهذا الشيخ ابن عثيمين يأتيك زائرا بنفسه إكراما لك ولابنك وأهل بيتك فهل تريد برهانا انصع من هذا البرهان؟؟ ولكأن أبي قال في نفسه : تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين !! استغفر الله من زلل القلم فعفوا إخوتي .. إن لطعم ذلك اليوم مذاق خاص .. تستمر حلاوته كلما استذكرته فاللهم اغفر لأبي وشيخي يا ارحم الراحمين حينما دخل شيخنا لمجلس المنزل وكان في صدره صورة كبيرة معلقة لأخي الكبير محمد رحمه الله وكنت جهدت من قبل مع أبي أن ينزع تلك الصورة كون تعليقها محرما ويمنع دخول الملائكة كما هو المشهور من كلام أهل العلم. ولكنه رحمه الله كان يتحجج بحجج كثيرة ويرفض رفعها.. حينما دخل الشيخ لفت نظرة تلك الصورة .. فقال لأبي : يابو محمد أطمس هذه الصورة .. فقام أبي من فوره وأخفاها عن نظر الشيخ ولم يرجعها ابدا !! الحلقة الثانية والستون أذكر مرة أن التاجر المعروف في مكة علوي تونسي دعا شيخنا ابن عثيمين للعشاء في بيته العامر.. وكان الأستاذ علوي قد دعا عددا كبيرا من وجهاء مكة وعلماءها وتجارها احتفاء بشيخنا.. سبقت شيخنا للدخول للمجلس حيث الناس تصافحه وتسلم عليه عند الباب حينما دخلت رأيت صورة بشرية وتكاد تملأ الجدار من ضخامتها.. توقعت أن ينكر شيخنا ولا يسكت فهو كما عهدته لا تأخذه في الحق لومة لائم.. بقيت أنتظره وتساءلت في نفسي : مالذي سيحصل؟؟ وضعت في خاطري عددا من الاحتمالات .. قطع صوت سلام الشيخ حبل التفكير وركزت النظر على عينيه ما هو انطباعه وتصرفه.. حينما توسط المجلس الفسيح لا حظ تلك الصورة فتأملها ثم أطرق وهو يمشي واحمر وجهه فهو بين خيارين اثنين : إما أن ينكر ويرضي ربه ومعنى هذا إما أن تنزع الصورة أو أن يخرج من المجلس!! فالأول متعذر وفيه مشقة هائلة وحرج والثاني أشق وأنكى !! أو أن يسكت وهذا ما يأباه عليه دينه وخوفه من ربة ثم اقتداء الناس به.. هذا ما تخيلته أنا .. قال الشيخ : يا أخ علوي تعليق هذه الصورة لا يجوز ويمنع دخول الملائكة فأي بركة في مجلس لا تحضره الملائكة؟؟ رأيت وجه علوي تونسي تلون بألوان لا أميزها من الحرج والحياء.. أسعفه شيخنا وقال له : أحضروا لنا غطاء أو شرشفا وغطوا الصور .. فتفرجت أساريره وكأن الشيخ أزاح جبلا هائلا عن صدره .. فأمر أحد خدامه فغطى الصورة واسترحنا وانتهى الحال على ذلك .. أذكر مرة أن شيخنا دخل بيت أحد أقرباءه وكان رجلا موسرا وفيه تعال وإسراف على نفسه ..فأراد شيخنا تأليف قلبه ودعوته .. زرناه في منزله في جده وكان مجلسه مليئا بالتماثيل والمجسمات الحيوانية وغيرها .. لم يتكلم شيخنا معه حول هذا الموضوع فيما بدا لي ..بل أنه ركز معه على الأمر الأهم والذي له الأولوية وهو هداية هذا الرجل وإنقاذه من براثن الضياع والضلال.. ولقد رأيت شيخنا يتألفه في الكلام ويتبسط معه ولكأنه يتكلم مع أعلى الناس منزلة وسلطة .. فكسب بذلك قلبه وأحب الرجل ذاك شيخنا من ذلك المجلس مع أنه استقبلنا في أول الأمر بفتور وتعال.. وما خرجنا من بيته بعد ساعات إلا وقد امتلأت أسارير وجهه بشرا وحبا وإجلالا للشيخ .. ولقد زرناه في المرة التالية بعد شهور فلم أر تلك التماثيل والمجسمات أبدا .. وهكذا هي الدعوة ياعباد الله !! أكسبوا الناس وتألفوا قلوبهم دون أن تتنازلوا مثقال ذرة عن دينكم !! فالحمد لله الأمر فيه سعة لمن هداه الله ووفقه .. جعلني الله وإياكم منهم.. كنا مرة في دعوة من الدعوات في جده وحضرها عدد كبير من المثقفين ومنهم وزير الإعلام الحالي إياد مدني وكان حينها مديرا لتحرير جريدة عكاظ.. و كذلك حضر عدد من التغريبيين من كتاب الصحف المشهورين والمحسوبين على تيار العلمنة .. دار بينهم وبين شيخنا نقاش طويل وعميق .. كان شيخنا يلقمهم بكل حجة من حججهم عشرا .. كان مستند شيخنا قال الله قال رسوله وهم يستندون للواقع وقال فلان وفلان.. قال إياد مدني لشيخنا بكل فظاظة : لماذا تحتكر العلم في شخصكم هل الدين ما تراه أنت أو ابن باز فقط؟؟ فرد عليه شيخنا وأفحمه بكلام كثير وطويل ستملون من ذكره .. وكنت أستغرب كيف مثله ومن هو في منصبه وحاله يقول مثل هذا الكلام الساقط عن مشائخنا ؟؟ إن أصغر مثقف يستطيع الرد على مثل هذا الكلام البائس والذي خرج من واهم أو صاحب هوى .. كما قال ربنا ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ) أشفقت على شيخنا بسبب كثرتهم وكثرة لجاجهم وهم كما قال الأول: حجج تساقط كالزجاج تخالها ذهبا وكل كاسر مكسور ولم يكن من الأدب أن يشارك احد بحضور الشيخ فقد كنا جميعا تلاميذ له وليسوغ لنا المشاركة معه فبقينا صامتين .. ولكن حينما انتهى النقاش وقدم العشاء وفض المجلس لحقت بإياد مدني عند المغاسل .. فأسمعته كلاما شديدا فوقف ينظر إلي وقد اتسعت حدقة عينه حتى كادت تسقط من وجهه ..!! فلم يكن يتوقع أن يتلقى هذه الصفعة مني فقد كنت موتورا ولا أدرك حينها التصرف الأمثل في مثل هذه المواطن .. نرجع لتسلسل رحلتنا !! عرض الوالد على شيخنا أن نستضيفه في بيتنا طوال بقاءه في الطائف.. فقال الشيخ : والله إنني أعتبر نفسي في بيتي ولكن يمنعني من ذلك بعد المسافة فمنزلكم يا أبا محمد في الضواحي وهذا فيه مشقة علي فأنا أبحث عن مكان قريب من مكان دروسي ودوامي اليومي في الهيئة .. ألحيت على الشيخ وألح الوالد ولكنه أصر على ذلك.. وكانت غايتنا أن نتشرف بوجوده في بيتنا فأي شرف مثل هذا الشرف!! ملاحظة: هذا آخر حلقة أنزلها وأنا مضطر للتوقف عن الكتابة لأمر طارئ وأعدكم بحول الله أن أعود لإكمال الحلقات لا حقا إن كتب الله في العمر بقية .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    7 "




  10. كود:
    تكملة ... بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله رب العالمين والصلاة على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه الطاهرين وبعد.. تشاجرت في هذا الصباح مع قلمي ودار بيني وبينه الحوار التالي: قال لي وهو غضبان أسفا .. قلي يا مالك في رحلتك إلى النور متى ستلج النور ياهذا ؟؟ أما زلت تسير ولم تصل إليه بعد ؟؟ ثم ما هو النور الذي تبحث عنه ؟؟ أهو شيء محسوس أم هو هوس بالمغامرات واقتحام لدروب ومجاهل في الحياة عجيبة ؟؟ متى ستنتهي حكاياتك ؟؟ متى ستتوقف روايتك.. قلت لقلمي: أليست الحياة مواقف ..؟؟ قال: بلى ولكن كل شيء له نهاية.. قلت : ما دام في العمر بقية فستبقى الحياة دروسا وعبر.. قال : أليس للناس شغل إلا بك وبحياتك ؟؟ قلت : بالتأكيد أن لدى الآخرين مثل ما لدي وقد لا تجتمع لهم بعض ما عندي ولكن يبقى لكل قصته.. ولكن أعاهدك يا قلمي أن لا اكتب سوى ما أراه مفيدا لي وللآخرين .. أحس قلمي بالملل فهو يدرك أنه لن يخرج بفائدة من المراء معي.. و قال هات ما لديك فإني أوشك أن أنعس .. قلت له : أكتب يا صديقي .. اتكأت على الأريكة ..ووضعت يدي على موضع جرح العملية الجديدة .. فأحسست بوخزة الألم .. وأغمضت عيني فعادت بي الذكرى .. فسبحت في عالم بعيد .. عاد بي لعشر سنوات تقريبا ثم بدأت أملي عليه يقول لي خالد وهو جندي بوسني يبلغ من العمر خمسة وخمسون سنة بالله عليك يا مالك اقرأ لي تلك الورقة .. قلت له أنا لا أفهم حروف قومك .. زم شفتيه التي لا أسنان تحتها حيث لم يعد في حلقه ريق من العطش؟؟ عطش في سراييفو؟؟ حيث الأنهار تجري من حولنا ؟؟ لا تعجبوا يا أخوتي .. فخالد روى لي في تلك الليلة عجبا.. قال لي خالد : تصدق يا مالك .. أنني حوصرت ومعي مائة وخمسون من أبناء قريتنا من كتيبة صربية لمدة ثمانية أيام وما معنا سلاح سوى بنادق الصيد وشيئا من الفؤوس والسلاح الأبيض.. وكنا نسمع خلفنا في القرية بكاء الصبية وصراخ النساء من الجوع والخوف.. والقائد المسلم الذي يقودنا يقول :لو غادرنا القرية فسوف يستبيح الصرب ما تبقى لنا من كرامة .. ستغتصب النساء وسيذبح الأطفال وسيذبح الشيوخ .. صبرنا يا مالك والصرب من حولنا يصرخون ويزمرون .. أين إخوانكم المسلمين ؟؟ سنبيدكم ونبيد الإسلام من سراييفو إلى مكة .. ثمانية ليال لم نذق النوم ولم نطعم فيه لقمة ولم نشرب فيه شربة بلى شربنا .. شربنا البول يامالك.. .. ثم هز رأسه كأنه لا يريد إكمال الحكاية . قال لي خالد.. أرجوك إقرا الورقة.. قلت هات .. أخرج الورقة من جيبه وكانت ملفوفة بعناية ففتحتها وأضأت نورا خافتا من ساعتي خوفا أن يرقبني القناصة الصرب الذين لا يبعدون عنا سوى عشرات الأمتار.. حينها دوى في الوادي صوت المدفع الصربي.. حيث يقصفنا الأصراب كل نصف ساعة .. ليتأكدوا أننا ما زلنا مستيقظين؟؟ لم نعبا بالصوت فقد اعتدنا عليه .. فالقذائف تمر من حولنا وترتطم في البيوت الهالكة خلفنا فتتشظى ولا تكاد تصيب أحدا.. الورقة مكتوبة بالعربية ..!! يا خالد؟؟ خرجت من وجهه الكئيب ابتسامة أضاءت ما تبقى من شحوبة وجهه الكهل.. قال : أعلم ذلك..اقرأها لي أرجوك.. فقرأت.. الحاج عثمان هوتشش 1123 هـ الفاتحة آمين!! لم افهم منها شيء.. سحب خالد مني الورقة ونظر في وجهي نظرة افتخار وهز الورقة ثم طواها وأدخلها في جيبه.. وقال لي حينما لم يجد الصرب شيئا في قريتنا قصفوا القبور فوجدت على قبر جدي جصا حفرت عليه تلك العبارات فنسخت ما كتب عليه حتى أعيده بعد ننتقم من هؤلاء الأوغاد.. قلت له يا خالد ..ألا تحكي لي قصة حصار تلك الليالي المرعبة .. نظر في وجهي نظرة غريبة وأرخى رأسه وتدحرجت من عينه الغائرة دمعة أكاد اشعر أن الأرض اهتزت لها حينما ارتطمت بها.. قال : يا مالك يابني .. بما ذا أحدثك والله ما عاد لي عقل يذكر شيئا .. ثم مسح رأسه بكفه التي ترجف ورفع حاجبه للقمر المحاط بكومة من السحب كأنه يستلهمه شيئا .. وقال غدا سأرويها لك إن شاء الله.. قال لي خالد وكأنه يريد تغيير الحديث .. بالأمس يا مالك حدث موقف غريب .. قلت : وهو؟ كنت جالسا في مكاني هذا أراقب الجبهة أمامي وأتبادل السباب مع الصربي الذي يسمعني واسمعه .. وفجأة سمعت جلبة خفيفة خلفي .. فرأيت رجلا عجوزا يسير راكعا في الخنادق المحفورة .. ويحيط به رجلان جلدان تكاد تظنهما أسدان من استواء اجسامهما !! متأهبان بالسلاح تساءلت في نفسي من هذا الرجل؟؟ رأيته يتقدم ببطيء في الخنادق يمر على العسكر ويتكلم معهم ويهمس في آذانهم ويربت على ظهورهم.. قال لي خالد .. من تظن الرجل..؟؟ قلت وما يدريني؟؟ قال خالد: اقترب مني ذلك الكهل .. فقال : السلام عليكم.. فرددت عليه السلام.. حاولت أن أميز وجهه ولكنه أدرك خطورة الموقف فجلس بجواري وأشار لي حرسه بالجلوس والصمت .. وخلع قبعته العسكرية ... وتجلت لي صورته .. إنه علي عزة بيخوفيتش ؟؟ رئيس جمهورية البوسنة والهرسك؟؟ حدثنا يا مالك .. ارجع بنا للخلف لماذا قفزت بنا بعيدا .. ارو لنا عن شيخك فأنت لم تنهي القصة بعد.. يقول لي القلم ذلك بعد أن أخذته الحماسة هيا أكمل ياهذا .. حدثنا عن فوزي عسيري ؟؟ ذلك الشاب الصالح المؤمن الذي يقيم في مستشفى القوات المسلحة في الهدى في الطائف من عشرات السنين ؟؟ والذي كنت في زياراتك له تستمع إليه يقول: أمنيتي في الحياة أن أرى الشيخ ابن عثيمين.. أرو لهم كيف كانت مشاعر فوزي عسيري حينما يرى نفسه في غرفته الصغيرة في المستشفى أنا وهو والشيخ ابن عثيمين .. وبعد أيها القراء الأفاضل .. يتجدد بكم اللقاء ويعود بنا القلم لأكمل الحكاية سائلا المولى سبحانه أن يلهمني الحق والصواب وان يجنبني الزلل ويصلح النية ويجعلها خالصة لوجهه الكريم .. كم تزدحم الذكريات في رأسي.. والله من يومين لم أذق للنوم طعما حيرة ترددا. بما ذا أبدأ ؟؟ مع ما في القلب من شواغل وما في الجسد من آلام بسبب الأدوية الكثيرة فالعذر يتقدم لكل قاريء عزيز أن يدرك الحال ويتفهم الوضع وعلى الله التكلان سبحانه وأخيرا عزمت على الكتابة كيفما يكون وكيفما يرد .. أيها الأخوة الكرام قبل عدة أيام وهو الخامس عشر من شوال وافق ذلك التاريخ يوم رحيل شيخنا محمد بن صالح العثيمين رحمه الله وذلك في الساعة الخامسة وربع عصر يوم الأربعاء الخامس عشر من شهر شوال سنة 1421 للهجرة في مدينة جده .. وستأتي تلك القصة مفصلة في حينها إن شاء الله تعالى .. فاللهم اغفر لشيخنا وارض عنه واجعل قبره روضة من رياض الجنة واجمعنا به ووالدينا وذرياتنا وأهلنا في فردوسك الأعلى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.. أخوكم مالك الرحبي الحلقة الثالثة والستون كان منزلنا في ذلك العام قريبا من منطقة البلد .. في وسط الطائف وأظن أن المنزل كان مستأجرا من عائلة نسيب الشيخ الشيخ خالد المصلح .. مكث الأخ علي معنا طوال الأيام تلك وغادرنا ابنه وأخوه الأستاذ عبد الرحمن.... كنت في الغالب أنا من يتولى قيادة الشيخ في مشاويره.. فأنا ابن الطائف.. تعجب الناس والأصحاب من هذه الإنتقالة الهائلة في وضعي من الشيخ.. ومن قرأ منهم ما سطرته هنا سيفهم تماما ما الذي حدث !! فالحمد لله الذي كفاني مئونة تفسير ذلك؟؟ على كل تقبل الناس سريعا هذه الوضعية الجديدة.. أذكر أنه في إحدى زيارات الشيخ لبيتنا حضر حوالي الخمسين شخصا.. تلون وجه أبي وتلبدت على وجهه غيمة حياء فمن سيضيف هؤلاء .. وأين سيجمعهم.. أصعدناهم للمجلس ولا تسل عن عناءنا وحرجنا .. ويعلم المولى سبحانه أننا ما ضقنا بعددهم ولا بوجودهم فهذه ضريبة صحبة العلماء ولكن لم نكن مقدرين لتلك الزيارة المفاجئة.. ولذلك فهمت ما لذي كان يعنيه شيخنا من إصراره على عدم السكنى في منزلنا أو غيره وفضل المكوث قريبا من أحد الجوامع الكبيرة .. ليتمكن مريدوه من إيجاده والاستفادة من علمه .. وأفضل مكان لا شك هو الجامع.. كنا نصلي في الجامع الواقع شمال مواقف التكاسي المسماة مواقف مكة.. ويلقي شيخنا هناك دروسه بعد العصر.. وكان إمام الجامع من إخواننا اليمنيين ويظهر أن شيخنا يعرفه حيث اعتاد إلقاء الدروس في مسجده في السنوات الماضية.. لم يكن بالجامع الفسيح واقترحت على شيخنا أن يجعل درسه في جامع آخر.. قال الشيخ : بعد العصر سأستمر بالتدريس في هذا الجامع للعامة .. أما الدروس اليومية بين العشاوين ( أي المغرب والعشاء) فقال لي وللأخ علي أنتما اختارا الجامع المناسب وعجلا علي.. ذكر لي الأخ علي جامع ابن سند .. قلت له إن طلبة العلم في الطائف اعتادوا على الدروس لكبار المشائخ في جامعين معروفين بكثرة مرتاديه الأول جامع ابن عباس الكبير والثاني جامع الأمير احمد.. والأخير فيه دروس شيخنا احمد السهلي ويحضر فيه عدد كبير من طلبة العلم .. أستقر رأينا أخيرا ذلك العام أن تكون دروس شيخنا في جامع الأمير احمد وحينما رأى الشيخ كثرة الحضور وامتلاؤه بالحضور فرح بذلك وأثنى على رأيي فالحمد لله .. تساءل الناس عن ذلك الشاب الصغير والذي هو مالك!! يجلس بين يدي شيخنا ويقرأ عليه أسئلة المستفتين !! يا للعجب!! لا تسل عن حيائي وعن ضعفي أمام نظرات الناس التي لم اعتد عليها إلا بعد حين.. قائل يقول : هذا من أبناء الشيخ!! وقائل يقول : هو نسيبه!! وقائل يقول : هو من اليمن !! ولم يصل للحقيقة سوى من قرأ كلامي هذا كله !! كلمات سمعتها من هنا وهناك ولكن مع الزمن لم اعد أعيرها أي انتباه.. في تلك السنة انتشرت حمى الدشوش أو ما يسمى الأجهزة اللاقطة.. والتي تكلم عنها الشيخ ناصر العمر بارك الله فيها قبل سنوات في شريطة المشهور البث المباشر والذي طبع لاحقا في كتاب وانتشر.. حذر شيخنا منها كما حذر غيره وناصح الناس والمسئولين وراسلهم ولقد رايته مهموما بهذا الشأن وكأنه رحمه الله ثكل من كثرة ما يتكلم وينصح من هذا الشر المستطير.. استأذنته مرة ونحن في السيارة لأسمعه مقطعا من شريط للشيخ عبد الوهاب الطريري حول موضوع الدشوش.. فقال اسمعني: كان اجتماعا بين الطريري وعدد من المثقفين أو الأكاديميين قال أحد المتفيقهين !! يا إخوان أنتم كبرتم المسالة وأعطيتموها اكبر من حجمها !! إن مجتمعنا متماسك وعقيدتنا صلبه ولا يمكن أن تهتز بمثل هذه اللواقط وثوابتنا راسخة الخ كلامه .. فرد عليه الطريري بكلام معناه : إذا ليكن الانفتاح شاملا !! قال كيف ؟؟ قال ليشمل الانفتاح في الأمور التي تهدم الدين وتهدم سياسات الدول فأنت تعرف أن المتربصين بالدولة والحكومة وخاصة حكومتنا كثير فهل ستسمح لك انفتاحك بفتح المجال في كل شيء؟؟ فأسقط في يد الرجل وصمت .. وأعجب شيخنا بجواب الطريري وفي اليوم التالي حث الناس على سماع شريطه ذاك وأثنى عليه!! لا شك أن الأمور تغيرت الآن وبعد دخول الانترنت وامتلاء فضائنا بمئات القنوات الفضائية قد لا يتصور بعضكم وقع المصيبة حينما بدأت بما يقارنه الآن من حال.. في تلك الليالي حصل لنا موقف طريف.. حيث نسينا مفتاح شقتنا في داخل المنزل .. ولم يكن سوى شيخنا للأسف يحمل مفتاحا للباب رغم حرصه الشديد وتيقظه في مثل هذه الأمور.. فهو يحمل در زانة من المفاتيح ويضعها في جيبه ومرتبة بنسق عجيب قلت لعلي لا بد أن نحضر شخصا ليفتح الباب.. رافقنا الشيخ بالطبع !! توجهنا بسيارتنا الكراسيدا وتوقفنا أمام محلات المفاتيح .. توسمت في وجوه الناس.. فرأيت شابا قصيرا عليه مرآه يظهر عليه أنه هادئ الطباع .. فوقفت بين يديه ولم يكن عنده أحد وقلت له الحاصل .. فقال لي : وما يدريني أن هذا منزلكم؟؟ نظرت للأخ علي وقلت له: يا أخي نحن ثلاثة أشخاص نقيم في منزل مضيفنا .. قال : دع مضيفكم يأتي !! لاطفناه بالعبارة وقلنا سنصور لك هوياتنا إن شئت .. وبعد تردد حمل حقيبته وركب في سيارتنا .. حينما رأى ذلك الشاب شيخنا كأنه ارتاح واطمأنت نفسه ..!! ولكنه لم يعرف من يرافق على كل حال.. أخذ شيخنا يسأله عن نفسه .. ويسأله عن أحواله .. أذكر انه قال أنه من قبيلة بني مالك وأظن اسمه نايف أو شيئا من هذا القبيل.. وصلنا للشقة ثم نظر إلي كأنه يريد مني شيئا فوضعت بطاقة أحوالي في يده فنظر فيها .. ثم أرجعها لي .. كان اختياره موفقا فما عن وضع يده على الباب حتى فتحه باحترافية عجيبة .. أرجعته لدكانه فسألني من هذا الرجل الذي وجهه يشع نورا ؟؟ قلت له هذا الشيخ ابن عثيمين!! قال لي : حرام عليك يارجل هلا أخبرتني من قبل والله لن آخذ منك ريالا مقابل ذلك!! كانت للشيخ محاضرات ودروس في الأقاليم المحيطة بالطائف .. في الحوية والهدى والشفا وجمعيات التحفيظ والمراكز الصيفية والمعاهد ويجتمع في مدينة الطائف سنويا في تلك الفترة كوكبة كبيرة من العلماء والمشائخ ممن لا يكاد يحصرهم عاد.. كنا في الجمع ننزل للصلاة في الحرم وكان شيخنا يتعجب من الناس ويقول لو كنت مقيما في جده أو الطائف لما فاتت علي مائة ألف جمعة في الحرم!! نسقنا مرة محاضرة للشيخ في جامع الملك فهد في الهدى وكان يوم جمعة .. وانطلقنا من مكة بعد صلاة العصر حيث لا يستغرق وصولنا للهدى سوى ساعة وربع تقريبا .. ولكن حدث مالم يكن في الحسبان .. حيث نزلت الأمطار على الهدى وحين وصولنا لجبل الكر.. أوقفت الدوريات السيارات وإمرتها بالرجوع لمكة والذهاب للطائف من طريق المسيل.. وقال الطريق خطر ولا يمكن السماح للسيارات بالعبور.. فاسقط في يد الشيخ وتحرج وكان من أصعب الأمور على نفسه أن يفوت وعدا وخاصة أنها محاضرة عامة .. ولم يكن لدينا وسيلة اتصال.. قال لي : لا ترجع ودعنا نمكث لعل وعسى الطريق يفتح.. هممت أن انزل للجندي واستأذنه واشرح له الوضع .. ولكن هيهات فلو سمح لنا بالعبور لثارت عليه مئات السيارة من حولنا فدوني نجوم السماء !! بقيت والشيخ حتى قريبا من العشاء.. حتى اطمأنت نفسه وعرف انه لا حيلة لنا .. وبعد وقت يسير سمح لنا بالعبور.. فلم يكن هم الشيخ إلا أن نذهب للجامع ونبلغ الناس بما حصل.. وصلنا للجامع وقد خرج الناس من الصلاة .. توجهنا للإمام .. فلما رأى الشيخ انكب عليه واحتضنه وقال والله لقد قلقنا عليك والناس تساءلت ما لذي حصل لكم .. وبعضهم ذهب للشيخ ابن باز يسأل عنك.. وأجرينا اتصالات عديدة بالمسئولين !! بلغه الشيخ بما حصل .. وكان الرجل نبيها!! قال يا شيخ محمد: لا يعوضنا منك سوى أن تشرف أهل المنطقة بعشاء!! فقال يا ولدي : أنا متعب لو تعفيني!! أصر الرجل ورتب عشاء في إحدى مزارع منطقة الهدى الجميلة وحضرها جمع كبير من الناس يكادون يبلغون المئة!! ولا تسل عن فرح الشيخ باجتماعهم حيث شعر انه عوضهم بتلك المحاضرة لتطيب نفوسهم بتلك الجلسة التي لم تخل من فوائد وتوجيهات.. يتبع إن شاء الله الحلقة الرابعة والستون أذكر مرة بعد سنوات من موقفي مع الشيخ حينما أغلق جبل الهدى بسبب الأمطار.. موقفا لن أنساه حيث تجرعت فيه مرارة اسمحوا لي بروايتها لكم ولو طالت.. فقد يكون فيها شيء من الطرافة .. كنت عائدا من جده وكنت في ضيافة أحد الزملاء .. وقد حملت في جيبي مبلغا بسيطا من المال.. أظنه لا يتجاوز المئة وخمسون ريالا.. ولم تكن تلك الأيام قد شاعت في الناس بطاقات الصراف الآلي بل اظنها معدومة.. والمال وفير والحمد لله ولكن لم يكن يدر بخلدي أن احتاج للقليل منه فلا أجده.. في الطريق من بيت صاحبي .. أشار لي رجل مسن بالتوقف .. وكانت حالته مرثية ويظهر عليه البؤس والإعياء بل كان يمشي بثقل على عكازين.. فتوقفت بجواره ..وقلت له : نعم ياعم.. فقال : لو قدمتني معك يا ولدي لأطراف المدينة.. ففتحت له الباب وجلس بجواري.. أخذ يدعو لي ويشكرني فقلت له: لا داعي أنا لم افعل شيئا يستاهل الشكر ومقصدك على طريقي.. قال لي: وددت أنك كنت معي في جيزان فأكرمك كما فعلت معي فانا من ساعة أشير للناس فلم يتوقف لي احد يظنني الناس أتسول.. سكت قليلا ثم تنهد وكأنه يريد أن يروي لي معاناته .. يقول من أي المناطق أنت ؟؟ قلت له :أنا حاليا أقيم في منطقة القصيم قال :من أي القبائل .. ثم قال: أنا من قبيلة كذا من جيزان وأحترف الزراعة وعندي بستان فيه ما لذ وطاب من الفواكه والأشجار الظليلة ..ياليتك إن جئت لجيزان تعرج علي فأكرمك .. قلت له : وهل عندك أحد تقيم عنده في جده .. قال : أبدا أنا كما ترى رجل كبير ومريض جئت هنا لأحد الأمراء لكي احصل منه على توصية للعلاج في إحدى مستشفيات جده .. ولكن للأسف لم أتمكن من الوصول للأمير مباشرة لكثرة الناس فوضعت مظروفا مع الناس وسأرجع أدراجي لجيزان الآن.. قلت : ولماذا لا تمكث في جده حتى تنتهي معاملتك؟ قال : أبنائي صغار ولا يقوم عليهم احد سواي ومزرعتي تحتاج لرعاية فلا بد أن ارجع لهم وبعد أسبوع سأعود لمكتب الأمير لأرى النتيجة!! قلت له :ولماذا لا ترجع بالطائرة إلى جيزان فأنت مثقل وطريق العودة طويل.. قال : لم اركب الطائرة في حياتي ولست اقدر على قيمتها.. والحمد لله سأقف على الطريق العام وسوف أجد من يتجه على جيزان وسأركب معه !! تأسفت في نفسي لحال هذا المسكين وتمنيت في تلك اللحظات لو كنت احمل مالا أتوجه به للمطار فلا أغادره حتى يرجع لأولاده وينام معهم تلك الليلة ولكن هيهات.. حينما وصلنا لمقصده قال لي : يابني كم تطلبني؟؟ قلت له : لا شيء.. ثم أخرجت محفظة نقودي فسحبت منها مبلغا دون أن أراه وقلت له خذ هذا المال استعن به في طريقك.. فدعا لي وشكرني حتى كدت أذوب من الخجل منه .. ما إن غادر ذلك المسكين حتى أضاءت إشارة نفاذ الوقود في سيارتي.. وجدت محطة وقود قريبة فأشرت للعامل وقلت له أملأه!! تفقدت محفظتي فوجدت فيها مبلغا لا يتجاوز الخمسة عشر ريالا!! فقفزت خارج السيارة وأطفئت مكينة البنزين وقلت للعامل يكفي فقط خمسة عشر ريالا!! وسيارتي من نوع المرسيدس و بالتأكيد لن توصلني إلى مكة بهذه الكمية فكيف إلى الطائف!! وهنا تبدأ الحكاية !! خرجت من جده وأنا أراقب عداد البنزين وسرعتي متوسطة وأطفأت جهاز التكييف وبقيت استغفر واهلل وأقول في نفسي ما الذي سأفعله لو انتهى بي الوقود؟؟ لاحظت أن البرق يضيء على جبال الهدى والتي ترى للداخل إلى مكة فتوجست خيفة .. وقلت في نفسي ماذا لو أغلقوا الطريق؟؟ قبل أن ادخل لمكة أضاء العداد بقرب نفاذ الوقود!! مررت على مكة وأخذت أبحث في رأسي عن حل لهذه الورطة فلم أشعر إلا وأنا في أطراف مكة على طريق الطائف السريع.. لاحظت من بعيد دورية مرور تقف في وسط الطريق ..ورأيت كثيرا من السيارات تعود أدراجها على مكة!! وقفت أمام الجندي ففتل شواربه وقال : وين رايح؟؟ قلت : الطائف .. قال الطريق مغلق رح من المسيال!! قلت له : ومتى سيفتح ؟ قال : والله ما أدري يمكن ساعة يمكن يوم يمكن يومين؟؟ قلت له : وهل يمنع الذهاب للجبل ؟؟ قال : أفضل لك تروح من المسيال ، وإذا تبغى تروح على مسئوليتك تفضل.. شكرته وتوجهت للجبل.. وليتني سمعت نصيحته وبقيت في مكة حتى يفرجها المولى سبحانه.. بقيت أسير بهدوء وأراقب العداد وأقول في نفسي ماذا لو توقفت بي في منتصف الطريق الموحشة المظلمة ؟؟ ما لذي سأفعله ؟؟ بمن سأتصل ؟؟ وبالتأكيد سوف يقلق علي أولادي ولا وسيلة اتصال لدي !! وصلت للجبل وفي ذات الموقع الذي توقفت أنا وشيخنا بجواره قبل سنوات ولكنني هذه المرة وحيدا فريدا وبلا مال!! وجدت عشرات السيارات متوقفة وكلهم مثلي يأمل أن يفتح الطريق في ساعة أو بضع ساعات أما أنا فكنت احمل هما اكبر هو هم الوقود!! نزلت من سيارتي وتوجهت للعسكر لعلي أجد عندهم حلا لمشكلتي التافهة!! كانوا في جدال وجلبة مع الناس وكل يروي مأساته يقول أحدهم دوامي والآخر يقول أنا مواصل للجنوب وثالث يقول: أريد أن أوصل أبنائي للمدرسة.. فيرد عليهم الجنود عودوا للمسيال !! والمسيال لمن لا يعرف المنطقة هو الطريق الآخر للطائف وهو أبعد قليلا من طريق الهدى .. يقول الجنود: الطريق خطير والسيول قد جرفت الصخور والأوامر تقضي بمنع التحرك حتى تصلح الإعطاب ويزول الخطر.. عدت لسيارتي وأطرقت أفكر في حل لهذه المشكلة .. ومرت حوالي الساعتين وكانت كعشر ساعات على نفسي.. شعرت بالهدوء من حولي وخفت جلبة الناس وعاد كثير منهم لطريق المسيال .. رفعت رأسي فرأيت الجنود قد جلسوا على بسط في وسط الطريق وأخذوا يتبادلون الحديث وشرب القهوة والشاي وكان الجو عليلا ونسيم الرياح بعد منتصف الليل أضفى على المكان الأنس.. تشجعت وقلت في نفسي: لما لا أذهب إليهم فأحكي لهم حالي!! فالناس لبعضها والخطب يسير وهونت الأمر على نفسي .. نزلت من السيارة وقصدتهم .. فلما اقتربت منهم أطفأ احدهم سيجارته وصافحته وقال : ليش ما تنام يا مطوع؟؟ ولم يدعني للجلوس .. قلت له : هل من جديد ؟؟ التفت وراءه للجبل فلمعت في السماء أضواء البرق .. وقال : شوفت عينك ما اظنك بتمر الليلة !! قلت له : لعله بكره الصباح بدري !! قال : لين تجي الشركة في الصباح وتنظف الطرق لعله الظهر بكره!! وأفضل لك تروح من المسيال !! هممت أن أقول للعسكري سبب تأخري ولكنني استحييت وخجلت فرجعت من عنده وأنا في هم لا يعلمه إلا الله.. قلت في نفسي كيف يجرأ الناس على السؤال ؟؟ أعوذ بالله من الذل.. رغم أني محتاج ومستحق ولكن لا أدري !! الحمد لله على المعافاة.. رجعت لسيارتي وفتحت نوافذها وتوسدت يدي ونمت نوم المتوجس والمهموم.. أذن علينا الصبح .. فتوجهت للمسجد الواقع بجوار محطة البنزين .. وقدمني المؤذن البنجلاديشي للصلاة .. وصليت بالناس الفجر.. بعد الصلاة بقيت في المسجد والعامل ينتظر خروجي حتى يغلق المسجد .. وكنت أتكلم معه وألاطفه واسأله عن بلده وكل ذلك أنني هممت والله أن اطلب منه أن يقرظني أو يهبني عشرين ريالا !! لكي أملأ السيارة بوقود يرجعني لمكة ولكن هيهات كيف لهذا المسكين أن يثق بشاب عليه اثر الترف وسيارته فارهة يطلب منه عشرون ريالا .. أو حتى عشرة ريالات.. ومرة أخرى منعتني كرامتي وصون وجهي عن السؤال .. فالحمد لله على المعافاة.. تكاثرت السيارات بعد صلاة الفجر وجاءت من كل حدب وصوب وصار المكان غاصا بالخلق وطلبة المدراس والمعلمون وتدافع الناس على العسكر .. وزاد الأمر سوءا انه مر موكب رسمي فلم يتردد الجنود بالسماح لهم بالمرور فضج الناس وارتفعت الأصوات وقالوا : ونحن أليس لدينا مصالح ؟؟ فقالوا هذا موكب رسمي .. فقال الناس ونحن نذهب على مسئوليتنا دعونا نمر.. فلم يفلح ذلك في إقناع الجنود.. بقيت ارقب الموقف وبدأ الجوع يدب في بطني .. كنت أسير وأهيم بين السيارات وأتفرس وجوه الناس لعلي أجد أحدا اعرفه لم يحفل بي احد فكل بهمه اشتغل.. توجهت لمحطة الوقود.. وهممت أن اكلم العامل أن يضع لي وقودا على أن أرجع له بعد يوم بماله .. فتوسمت في وجهه فعلمت أن كواكب السماء اقرب لي من ذلك!! رجعت للسيارة وحميت الشمس حتى صار الجو خانقا .. في الضحى توجهت للعسكر مرة أخرى وكانت الوجوه جديدة فقد تغير فريق العمل.. ولم يكن الجو مشجعا وعلامات الإعياء بادية عليهم.. اقتربت منهم فلما انتصفت الطريق عدت أدراجي!! حيرة وحياء من ذل سؤالهم.. وما عساني سأقول لهم : أعطني بالله عشرة ريالات ؟؟ أو أنني محتاج أو جائع ؟؟ كيف سيكون وجهي حينما يسحب ذلك المتعجرف من جيبه عشرة ريالات فيلقيها في يدي فوالله لباطن الأرض خير من ظاهرها .. توجهت للمسجد وتوضأت وبقيت في ركنه ورفعت رأسي للسماء ودعوت الله بالفرج .. وصليت الظهر مع الجماعة ثم عزمت على العودة لمكة وقلت وليكن ما يكن!! جلست على المقعد وذكرت الله تعالى .. أدرت السيارة فعملت .. وانطلقت بها وسرت بها سيرا خفيفا.. وبقيت أسبح الله تعالى .. وطلبت من المولى سبحانه اللطف .. قطعت ربع المسافة ونصفها وفي كل مرة أقول هاهي ستتوقف..!! ولكنها لم تخذلني.. في الطريق .. تذكرت احد زملاء الدراسة في عنيزة وهو مقيم في مكة .. وما أكثر من اعرفهم في مكة من المشائخ والعلماء وطلبة العلم ولكن كوني اسألهم في مثل هذا الحال وفي مثل هذه القضية فهذا حرج لا يقدره سوى من يفهم واقع الحال..والله المستعان.. الذي حصل يا إخوتي الكرام أنني بفضل المولى سبحانه وصلت لمكة!! ولم يكن لي هم سوى أن أصل لمكان صاحبي ذاك.. توجهت من فوري فوجدته واقفا أمام محله فشده لرؤيتي فهو من سنوات لم يرني!! فلما رآني ابتسم لي ابتسامة أنستني كل الهم الذي كنت فيه .. سحبته من محله وطرت به لمحطة الوقود وقلت له :أملأ لي السيارة بالوقود وكنت عليه جريئا !! فاخرج بوكه فنثر كنانته جزاه الله خيرا ولم يسألني وملئها فودعته وقال لي انتظر !! أين ستذهب.. ما هي قصتك يا رجل تغد معي!! قلت له : قصتي طويلة سأحكيها لك لاحقا .. فغادرته وهو حائر !! وعدت له بعد أيام بوجه غير وجهي فحكيت له القصة فغص بالضحك حتى سقط على وجهه.. وصلت لأولادي عصر ذلك اليوم .. وكانوا في غاية القلق ومع ذلك حتى هذا اليوم لم ارو لهم ما حصل فليقرؤها هنا .. وليت شيخنا كان حيا فيقرأها رحمة الله عليه يتبع إن شاء الله.. الحلقة الخامسة والستون نعود لحكايتنا .. سمعت عن شاب مصاب بمرض عضال .. وذلك قبل ذهابي للقصيم ومعرفتي بشيخنا رحمة الله عليه.. وقالوا لي أنه منذ سنوات يعيش وحيدا فريدا في مستشفى القوات المسلحة في الطائف.. وحثني أصحابي على زيارته حتى قال لي أحدهم : والله إن رؤية هذا الشاب سترفع همتك وستزيد إيمانك!! طمعت بذلك ومن ذا لا يريد زيادة إيمانه ورفع همته؟؟ تحدثت مع احد جيراننا في الحي في الطائف عن ذلك الشاب .. فرق له وقال سوف أرافقك .. وذهبنا بعد أيام للمستشفى المذكور.. وصلنا للاستقبال.. فسألنا عن الشاب.. قلت لهم اسمه فواز العسيري).. فقال : لعلك تقصد فوزي العسيري!! فقلت : نعم هو .. فابتسم في وجهي وقال ..ستجده في غرفته أو سيكون الآن في الحديقة يتنزه !! ثم ناولني بطاقة الزيارة وأعطاني رقم غرفته .. صعدت للغرفة وكنت أتعجب في نفسي لماذا ابتسم الرجل من سؤالي!! لما وصلت الغرفة وجدتها خالية سوى من ممرضة ترتب السرير .. قلت لها : وين فوزي ؟؟ قالت : سيأتي بعد قليل هو يتنزه في الخارج.. قلت لها : ممكن نجلس؟؟ قالت : نعم .. جلست أنا وصاحبي وقلبت نظري في غرفة فوزي.. لم تكن غرفة مريض !! كأنني في غرفتي في عنيزة بعد سنوات!! رفوف كتب آلاف الأشرطة .. مجلات إسلامية كل شيء يدل على العلم .. قال لي صاحبي: هل أنت متأكد أن هذا صاحبك؟؟ قطع علينا صوت عربية تقترب من الغرفة .. فكان نظرنا على الداخل.. قالت الممرضة وابتسمت ابتسامة عريضة هذا فوزي وصل.. دعوني اصف لكم فوزي.. مقعد على العربية جسمه كأنه عمرة ست سنوات أو عشر!! ورأسه مكتمل النمو يزيد على العشرين سنة!! وجهه كأنه كوكب دري.. جميل وأنت تعجز أن تقول انه جميل.. ابتسم في وجهنا ابتسامة اعجز عن وصفها .. رقيقة عذبة و جميلة .. كان يلبس ثوبا ازرق وعلى رأسه طاقية بيضاء ناصعة البياض نبتت على وجهه لحية صفراء جميلة .. ووجهه مستدير وصاف كالعسل.. لما رأيناه قمنا له .. فسلم علينا فدنوت منه لأصافحه.. فأرخى رأسه حياء لأنه يعجز عن مصافحتي فربت على يده وقبلت جبينه.. وفعل صاحبي مثل ما فعلت.. عرفناه بأنفسنا فرحب بنا وشكرنا على زيارته .. وقال : أنا افرح بزيارة الناس لي .. كان يتكلم و كنت أفكر في كلام الفقهاء أن من أدب الزيارة للمريض عدم الإطالة عنده حتى لا تشق عليه ولكن فوزي هذا من طراز مختلف .. يأسرك بمنطقه وأدبه حتى لا تريد مغادرته والله .. لم نجرأ عن سؤاله عن مرضه وعن مدة بقائه وما لذي حدث له .. ولكنه بادرنا بذلك من خلال كلامه .. قال : مرضي غريب وسماه لنا وهو مرض يتوقف فيه نمو الجسم ماعدا الرأس والعقل .. حيث تبقى الأعضاء كما هي دون الرأس فينمو مع السنين.. وقال لنا : أنا منذ ست سنوات مقيم هنا !! وعائلتي في منطقة عسير ونظرا لحاجتي الماسة للمستشفى فقد أصريت على المكوث هنا حتى لا اشق عليهم بإحضاري دوما .. وكان هذا هو رأي الأطباء.. روى لنا تفاصيل حياته وبرنامجه وقراءته وانه حفظ جزءا كبيرا من القرءان وأنه يستمع للدروس والمحاضرات ويقرأ في الكتب .. وأنه لا يمل من القراءة ولا تضيع عليه دقيقة في فراغ.. وقال : أن الناس تزوره دوما وأغلبهم لا يعرفهم.. وأحيانا تتوقف الزيارات فتمر عليه الأسابيع ولا يرى أحدا .. ولم يتأفف من مرضه وحاله ولم يشك من صحته بل كان يحمد الله تعالى ويشكره على أن أبقى له عقله ليتمكن من الاستفادة والدراسة وطلب العلم.. كان فوزي يتحدث وكنت أتأمل وجهه وكلامه وعباراته وأقول في نفسي.. كم نحن محرومون؟؟ لله دره .. كم نحن ضعفاء أمام بهارج الحياة ومشاغلها .. كان صاحبي يستمع لفوزي فأرى في عينيه الدموع محتبسة مما يسمع .. خرجنا من عند فوزي ونحن واجمون .. أصر على مرافقتنا للخارج .. فخرج معنا حتى وصلنا للمصعد .. وكان الجميع بلا استثناء يسلم على فوزي من ممرضات وأطباء وعمال كلهم يعرفه ويضحك ويبش في وجهه .. ماهي أخبارك يا فوزي اليوم.. أهلا يا فوزي.. وكأنه ليس بمريض.. قال لنا ونحن نغادره .. لعلكم تزوروني مرة أخرى !! قلت له : بكل سرور والله .. فابتسم ابتسامة جميلة أسرت قلبي ولا أنساها ما حييت .. بقيت أنا وصاحبي نتحدث في الطريق عن ذلك الشاب فقال لي: لم أفرح بزيارة احد كما فرحت اليوم.. رجعت للبيت فحكيت للوالدة عما رأيت .. وحكيت لكل من اعرف ما رأيت .. لأساتذتي وأصحابي قلت لهم : أذهبوا وزورا هذا الرجل .. فوالله ليس من رأى كمن سمع.. لم أنقطع عن زيارة فوزي .. كنت كلما شعرت بضعف في همتي وحاجتي للأنيس ذهبت لزيارته بأي وسيلة ممكنة.. بالسيارة بالتاكسي مع زميل كيفما يتيسر لي.. في إحدى زياراتي له وقد أصبحت كالتلميذ له.. قال لي : تصدق يا مالك لي أمنية ؟؟ قلت وما هي ؟ قال : أحب رجلا حبا عظيما .. وليتني أستطيع رؤيته رؤيا العين .. قلت : ومن هو.. قال : الشيخ ابن عثيمين ..!! قلت له : يا فوزي هداك الله وكيف تريد أن نجر لك ابن عثيمين في المستشفى؟؟؟ دع أمنياتك معقولة يارجل!! وجم ثم ضحك وقال : على كل هذه أمنيتي.. ثم اخذ يحدثني بشغف عن الشيخ وعن سعة علمه ودروسه وانه يستمع لأشرطته يوميا وكأنه حاضر معه في الدرس وقال : هل رأيت الشيخ ؟؟ قلت نعم رأيته في دروس الحرم.. فقال لي : صفه لي يا مالك .. وصفت له الشيخ كما رأيته .. فقال : هنيئا لك هذه النعمة .. مرت الأيام والليالي وحدث لمالك ما حدث وطارت به الدنيا جنوبا وشمالا واستقر في القصيم وصار من سكان عنيزة وانقطعت عني أخبار فوزي مدة من الزمن وشغل مالك بنفسه وحياته الجديدة .. وفي تلك السنة أو التي تليها .. يقدر الله تعالى أن يحصل للشيخ عبد الله بن منيع عضو هيئة كبار العلماء حادث في مدينة الطائف حيث ارتطمت به سيارة وهو خارج من صلاة العصر.. فسقط الشيخ وكاد أن يهلك .. وكانت في تلك اللحظات سيارة إسعاف مرت بغير ميعاد فحملت الشيخ وهم لا يعرفونه إلى مستشفى الملك فيصل في الطائف.. فلما رأى الأطباء الشيخ وجدوا أن وسط جسمه وخاصة منطقة الحوض قد تكسرت وان حالته حرجة .. تسامع أبناء الشيخ بالحادث وتسامع المسئولون بالأمر.. فنقل على الفور إلى مستشفى القوات المسلحة في الهدى .. فأجريت له العمليات تلو العمليات وعانى من ذلك اشد المعاناة .. ومكث شهورا هناك حتى عافاه الله وهو الآن بحمد الله في نشاط وعافية سمع شيخنا بالحادث .. وكان ذلك قبل وصولنا للطائف.. وكان الشيخ ابن منيع زميل شيخنا في هيئة كبار العلماء وكانت علاقتهما وثيقة ولعلي في حلقات قادمة احكي مواقف جرت بينهما يصلح المقام لذكرها.. وصلنا للطائف بعد أسابيع .. وكان الحادث قد حصل في أول إجازة الصيف .. لم اسمع بخبر الحادث سوى من الشيخ حينما قال لي: غدا سنذهب لرؤية الشيخ ابن منيع في المستشفى.. قلت له : أي مستشفى ياشيخنا !! فأخرج ورقة من جيبه فقال:هذا اسمه وعنوانه ورقم غرفة الشيخ .. في اليوم التالي انطلقنا للمستشفى .. وكان شيخنا مرهقا بعد يوم عناء واجتماعات .. نام قليلا وأنا صامت .. والصمت يفتح باب التفكير والهواجس !! وأنا في صمتي ذاك تذكرت فوزي عسيري!! لا أدري والله كيف خطر على بالي .. بعد سنوات تذكرته .. تذكرت الزيارة الأولى ..وعشرات الزيارات التي تمت بيني وبينه.. نظرت لوجه الشيخ فكان نائما فلم أرد إزعاجه.. تنحنحت وما أخف نومه فاستيقظ.. قال : هل وصلنا ؟؟ قلت : تقريبا .. وما زلنا في منتصف الطريق ولكنني فرحت باستيقاظه !! فتوسط في جلسته ومسح وجهه وتمطى قليلا .. ثم أخذ يتحدث معي.. انتظرته حتى ينهي حديثه ثم بادرته بقصة فوزي.. لم يعر الموضوع كثيرا في البداية نظرا لأن هموم المسلمين كثيرة والشيخ يسمع يوميا آلاف القصص الشبيهة فكان يدعو له بالعافية .. غيرت أسلوبي وطرحت الموضوع بصيغة جديدة .. فأنصت الشيخ وأخذ يتعجب من كلامي عن ذلك الشاب.. وعلو همته وجده رغم حاله الغريبة .. فزاد اهتمام شيخنا به .. حتى قال لي : لم لا نحضره عنيزة ليدرس عندنا !! أسوة بسامي العقيل!! وهو احد طلبة الشيخ المجدين وسيأتي ذكره لاحقا عن شاء الله.. قلت له يا شيخنا : الرجل وضعه مختلف تماما .. قلت له : حتى أن الرجل له أمنية في الحياة كم مرة سمعتها يتمناها.. قال : وهي؟؟ قلت : أن يراك!! فقال الشيخ: وأين هو ؟ قلت له : هو مقيم في المستشفى دائما .. فسكت الشيخ ثم قال : ومتى أجد الوقت لزيارته أنت تعرف أشغالي.. قلت : هو الآن في نفس المستشفى الذي نقصده.. فقال: خلاص رتب لي بعد زيارة الشيخ عبد الله .. طرت فرحا بهذا الخبر وانتشيت وقلت في نفسي .. يا فوزي لعل مناك سيتحقق وأنت غافل لا تدري.. وصلنا للمستشفى وتوجهنا لغرفة الشيخ عبد الله .. فوجدناه على حال جيدة وهو ممدد على سريره وعنده جمع من الزوار ومنهم التاجر المعروف عبد العزيز الجميح .. قبل شيخنا رأس الشيخ ابن منيع فأمسك الشيخ ابن منيع رأس شيخنا فقبله .. وتركتهما في حالهما وانطلقت ابحث عن فوزي.. لا الوي على شيء سألت عنه فقيل لي موجود!! ففرحت فقلبت المستشفى رأسا على عقب.. ووجهت له نداء بالسماعات حتى بلغوه .. فوجدته وبالكاد عرفني فقد تغيرت ملامحي وسمنت قليلا .. فقال لي اينك..؟؟ فقلت له : دعك من خبري الان .. ألزم غرفتك سآتي لك بشيء بعد قليل.. وخرجت من عنده وتوجهت لغرفة الشيخ ابن منيع .. فوجدت شيخنا واقفا يريد المغادرة .. والناس تصافحه .. نظر شيخنا في وجهي واخرج ساعته من جيبه ونظر فيها كأنه ينتظر موعدا.. فتجاهلت ذلك وقلت له : الرجل في انتظاركم.. قال : هل وجدته ؟؟ قلت : نعم.. ما شاء الله عليك جزاك الله خير.. دخلت على فوزي فوجدته على سريره فدخل الشيخ وسلم عليه .. فلما وقعت عين فوزي على الشيخ كادت عينه تخرج من رأسه .. لا تسألوني إخوتي عن مشاعره .. لا أستطيع وصفها والله .. قلت له: هذه أمنيتك يا فوزي تحققت .. ابن عثيمين بلحمه ودمه بين يديك!! اقترب شيخنا منه وجلس على سريره .. ودنا من رأسه ومسح عليه ودعا له .. وقال له وهو مبتسم : كيف حالك يافوزي؟؟ لقد حدثني عنك مالك .. بقي فوزي صامتا لا يدري ما يقول.. ينظر للشيخ وينظر في وجهي.. كأنه يقول : هل هذا هو!! والشيخ صامت ويبتسم من مشاعر فوزي المتضاربة.. هززت رأسي لفوزي حتى يتكلم .. فقال : هذه اسعد لحظة في حياتي والله أن تزورني ياشيخنا في هذه المكان .. كنت أراك في التلفزيون والجرائد وأتمنى أن ألقاك.. وكنت أدع الله أن يحقق لي ذلك .. ولكنني توقعت أن يحصل لي ذلك بأن أزورك أنا ولقد رجوت الناس أن أزور درسك في الحرم أو في دروسك في المحاضرات فلم يتحصل لي ذلك.. قال له شيخنا : ها انذا أمامك وجزى الله الابن مالك على أن دعاني لزيارتك.. دار بينهما حديث وبقيت استمتع بهذه اللحظات دون أن أتكلم بحرف واحد.. وأقول في نفسي : دع فوزي يستمتع فربما لن يتمكن من تكرار ذلك أبدا.. مكث الشيخ عنده لعشر دقائق ثم طلب منه الأذن فخرجنا .. وودعت فوزي ومنذ ذلك التاريخ انقطعت أخباره عني للأسف فاللهم إن كان حيا فوفقه وارض عنه واجمعنا به على خير.. وإن كان ميتا فاغفر له وادخله فردوسك الأعلى واجمعه بشيخنا في جنات النعيم.. يتبع إ ن شاء الله .. الحلقة السادسة والستون انتهى برنامج شيخنا في الطائف .. وعدنا لعنيزة .. وكما العادة لم يتغير من برنامجي المعتاد شيء فقد كنت طوال فترة بقائي هناك أستزيد بفضل المولى سبحانه من علم شيخنا كما هو حال الزملاء جميعا.. غير أن الله خصني بفضل الله بشيخنا فكان يزيدني عناية ويرفع همتي ويتابعني في تفاصيل الأمور ومجملها، فلله الحمد سبحانه على فضله ومنته.. التحق بحلقة شيخنا أحد أقاربي وهو ابن عمتي أحمد .. وسكن عندي في غرفتي مدة . ثم انتقل لرفيق له في ذات السكن.. وأقبل على العلم وفقه الله وحصل خيرا كثيرا وتعرفت في تلك المدة عن طريق أحمد بعدد لا بأس له من الطلبة .. وكلهم من خيرة الطلبة جدا واجتهادا .. وكانت أعمارنا متقاربة .. ويجمع بيننا حب العلم والحرص عليه .. ومنهم الأخ سعود الحربي ..وهو من أهل جده .. توثقت علاقتنا نحن الثلاثة حتى جاءت لنا فكرة السكنى سويا خارج سكن الطلاب!!! لم يكن شيخنا رغم مشاغله العظيمة لتخفى عليه هواجسي .. فهو يدركها من فلتات لساني وارتباكي.. ولم يكن ابغض شيء لديه عندي من ذلك!! فكان يقول لي دوما : الثبات الثبات يابني !! عليك بالاستقرار على رأي واحد إن بورك لك فيه فالزمه ولا تحيد عنه.. قال لي مرة أحد كبار طلبته : والله ما خالفت شيخنا في أمر رآه إلا ندمت عليه ولا سمعت توصيته ولزمتها إلا ووجدت التوفيق حليفي.. هذا ماقاله الأخ عن نفسه وواقع حاله .. كان شيخنا يراني غضا قليل الخبرة ضعيف وما زلت في أول الطريق .. وهذا هو الواقع لا شك!! ولذلك كان القرار في مثل هذه الأمور راجعا إليه هو الذي يحكم فيه بما يتناسب مع وضعي.. حينما فاتحته في الموضوع ولمحت له فيه .. رفض واستهجن وغضب.. وقال : ألحين توك واصل تدرس وقلنا فلان ماشي ومجتهد وتريد تطلع !! خلك في العلم ولا يشغلك عنه شيء.. غيرت الموضوع وتناسيت القصة .. ومرت شهور بعد ذلك .. وأنا بحمد لله في خير حال ونسينا موضوع الخروج من السكن.. إلى أن جاء موقف لا أنساه وفتح الموضوع من جديد.. ولكن قبل ذلك سأحكي قصة .. في إحدى الاجتماعات الشهرية مع الشيخ .. اقترح أحد الطلاب أن نعد رحلة شهرية لطلاب السكن .. لمدة يوم واحد للاستجمام .. وأيده جميع الطلبة وفرحوا بهذا الاقتراح .. وافق شيخنا على ذلك.. بل قال : سأكون رفيقكم في رحلتكم..!! وافق ذلك هوى في النفوس وشعرنا بنشوة عجيبة أن يرافقنا هذا الحبر رغم أشغاله العظيمة.. فجزاه الله عنا خير الجزاء.. في اليوم الموعود وكان يوم خميس.. رتب المشرفون ذلك البرنامج وحدد الموقع .. وكان ذلك لاستراحة التاجر المعروف الهويش.. والواقعة على طريق المذنب على ما أعتقد !! شمال عنيزة.. بخصوص تنقلات الشيخ في عنيزة ففي الغالب ليس لي بها علاقة.. ولكنني طلبت منه ذلك وقلت له : أنا تحت تصرفك شيخنا .. غير أن الوضع في عنيزة يختلف .. فأبناؤه موجودون وهم تحت تصرف والدهم فحاجته لي غير واردة .. قال لي شيخنا قبل موعد الرحلة بأيام : نسق مع شخص حتى يوصلنا للاستراحة.. نسقت مع صديقنا القديم الأخ محمد زين العابدين.. انطلق الطلبة باكرا في الصباح .. أما شيخنا فلم يتحصل له سوى أن يحضر بعد صلاة الظهر.. مكثت أنا في غرفتي حتى أرافق شيخنا.. استغرب الطلبة من عدم حضوري .. وقال لي بعضهم معاتبا : تواضع يارجل !! ابتسمت في وجه معاتبي ولم اجبه.. بعد الصلاة توجهنا مع شيخنا والأخ محمد للاستراحة المذكورة.. قال الشيخ : ايش البرنامج ..؟؟ قال له محمد : هناك غداء ثم أنت تقرر ماذا يكون بعد ذلك .. وصلنا بعد حوالي عشرين دقيقة .. دخلنا من البوابة الرئيسية .. وصعدنا بالسيارة على طريق مرصوف للإيوان الكبير .. فلما علونا ظهرت لنا الاستراحة كاملة .. كان ترتيبها ومنظرها ساحرا .. أشجارها منسقه قد رصت على الطرق وانتشر ظلالها وتحيط بها الألوف من شجر النخيل .. وزاد المنظر جمالا تلك البساتين المحيطة الغاصة بكل ما يبهر .. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.. توقفنا أمام الإيوان وكان طلبة الشيخ في انتظاره.. نزل فاجتمعوا حوله وسلموا عليه ولا تسل عن فرحهم وابتهاجهم بوجود الشيخ معهم.. دخلنا للإيوان الفسيح .. فشممنا رائحة الطعام .. وجلس الشيخ وتحلق حوله طلبته .. ثم بدأ في الحديث معهم وقال : كيف كان يومكم ؟؟ فكان الحديث حديثا غير متكلف كما يتحدث الولد مع أبيه .. وهذا ما كان يريده شيخنا رحمه الله .. قدمت القهوة والعصيرات الباردة .. تسابق الطلبة في خدمة شيخهم والتحدث معه .. فكل يدلي بدلوه وكان الحديث عاما بكل تكلف ولا شطط وبأدب مع الشيخ.. من فوائد تلك الرحلات هو اكتشاف المواهب كما يقولون !! اكتشفنا أن بيننا طالبا مغمورا ولكنه موهوب !! موهوب في مجال الطرافة .. رغم جده واجتهاده في العلم.. في البداية استحى من شيخنا ولكن إصرار الطلبة عليه وكأنهم خبروه ذلك النهار كله أجبره على الحديث .. الأخ عبد الله باطرفي !! وهو من سكان جده واصله من بلاد اليمن.. كان جاري في الغرفة المجاورة في السكن .. ولكن الجو العلمي وانشغالنا بالطلب يقلل لقاءاتنا سوى في المطعم أو في الدرس .. فنادرا ما نتواصل!! استلم عبد الله الشيخ !! فكان يسمع تعليقاته من خلف الصفوف ولا يراه فيضحك الطلبة ويضحك شيخنا له ولا يراه!! وكان نظر شيخنا ضعيفا .. ولكنه يعرف هذا الصوت !! فنادى على هذا الطالب وقال : من هذا خلوه يتقدم عندي.. أذكر جيدا وكأنني أرى ذلك المنظر أمامي الساعة.. حينما وقف عبد الله من خلف الصفوف وتقدم خجلا حتى جلس بين يدي شيخنا .. فلما رآه الشيخ عرفه وقال له: إيه ياعبدالله ايش عندك ؟؟ أتحفنا عبد الله وأسرنا بسواليفه مع الشيخ حتى قدم طعام الغداء.. قدم الطعام والذي طبخه الطلبة مع العمال .. فكان جوا عائليا بين الطلبة وشيخهم.. نزع الشيخ بشته ورمى عمامته فوق رأسه .. وقام من بين الصفوف وتوجه للمغاسل .. ثم جلس بين الجميع وأكل معهم .. وكان عبد الله باطرفي يسأله في مسائل علمية فيقول له الشيخ : ياعبد الله أنت الآن تسألني وأنا أجيب أسألتك فتلتهم الطعام وأنا أجيبك !! فضحكنا على عبد الله لأن الشيخ ألجمه قليلا !! ولكن شيخنا كان يتحدث بكل بساطة فيضاحك هذا ويرد على كلام هذا ذكر أحدهم السباحة وقالوا المسبح .. فقال شيخنا : هل سبحتم ؟؟ قالوا : يوجد مسبح في الخارج .. قال الشيخ : كنا في أيام الطلب نخرج مع شيخنا ابن سعدي رحمه الله فنسبح في البرك والوديان .. فقال عبد الله : هذا في أيام الطلب!! فقال الشيخ : كأنك تقول أنني كبرت ولم اقدر على ذلك الآن!! فقال : ما أظنك تقدر يا شيخنا !! فلمعت في وجه الشيخ ابتسامة وقال : سنرى!! تغدينا ثم قدم الشاي .. وجلسنا حول الشيخ لننظر ما هو فاعل .. جاء عبد الله وكان الشيخ ينتظره .. وقال : هاه ياعبد الله فيك حيل.. وكان عبد الله رجلا سمينا ..ويسير بتثاقل.. قال : على أي شيء ؟؟ قال : السباحة !! قال : بالتحدي ياشيخ .. فقام الشيخ من فوره ..وتوجه لخارج الإيوان .. خرجنا معهم فلحقت بالشيخ ..وهمست في أذنه .. وقلت له : هل ستسبح بثوبك .. فقال لي : هل عندك ملابس سباحة ..؟؟؟ قلت : نعم سأحضرها من السيارة .. دخل الشيخ لغرفة التغيير وخلع ثيابه ولبس ذلك اللباس ولم يخلع فلينته .. خرج الشيخ بغير ما دخل .. دخل بثوبه وغترته .. وخرج حاسر الرأس لحيته بيضاء ناصعة ووجهه أبيض تلمع فيه وجهه ابتسامة أضاءت المكان.. لما رأى الطلبة الشيخ وخصوصا عبد الله .. اجتمعوا حول المسبح .. فقال شيخنا : طب ياعبد الله .. فقال : أنت أولا !! حتى إذا غرقت أنقذناك !! فضحكنا .. فقفز شيخنا في الماء وسبح وكان عمره حينها حوالي الأربعة وستون سنة.. ثم لحقه عبد الله .. ونزلت أنا وغيرنا .. سبح الشيخ مع تلاميذه ودار في المسبح .. وتوسط الماء ووقف فيه بحيث يثبت في وسط الماء ولا يتحرك وقال : هكذا كنا نفعل مع شيخنا .. حاولت أنا ولكنني لم اقدر .. أما عبد الله المطرفي فاكتشفنا انه لا يسبح !! استمتعنا في تلك الرحلة مع شيخنا وتواضعه وسماحته رحمه الله .. لقد كانت تلك الرحلة مؤثرة في نفوس الطلبة مع شيخهم .. فقد عمقت الصلة وقوت الرابطة وزادت المحبة .. فجزاه الله عنا خير الجزاء.. استأذن الشيخ وخرجت معه برفقة محمد وكان العصر قريبا .. فقال الشيخ في طريقنا : أريد أن أقيل ولو عشر دقائق قبل العصر .. فعرضت عليه أن يأتي غرفتي المتواضعة في السكن!! فقال : لا بأس.. توجهنا للسكن وكان شبه فارغ.. وصعدنا لغرفتي .. والحمد لله أنها كانت مرتبة ونظيفة!! وضعت له الفراش فنام حتى أذن العصر .. حينما سمع النداء استيقظ .. وتوضئ في مواضئ السكن .. ثم دخل الغرفة وتسنن أربع ركعات .. ثم جلس ينتظر موعد الإقامة .. قلب نظره في غرفتي فرآها ضيقة جدا !! وقال : ما شاء الله عليك هذا وأنت الحالك!! حيث تكومت الكتب في الرفوف وغصت فوضعتها في أطراف الغرفة بطريقة مبعثرة ولا يمكن الاستفادة منها إلا بصعوبة .. هذا غير كتب الأخ محبوب.. فقال شيخنا : تبي نغير لك غرفة أوسع ؟؟ قلت له : الغرف كلها متقاربة .. قال : صحيح حنا يوم بنينا السكن ما كنا نتوقع هذا الإقبال من الطلبة .. ولكن سنجد حل لك إن شاء الله .. يتبع إن شاء الله ..
    7 "
ADs

قم بتسجيل دخولك للمنتدي او

الانضمام لمبتعث

Search Engine Optimization by vBSEO ©2011, Crawlability, Inc.