الجزء الثاني
عدت للجهاز .. أفضل استخدام جهاز العائلة هنا في حجرة المعيشة فجرا ..صوت جميل يخترق أذناي ..أدمنت هذا الصوت ..إنه صوت الوالدة تقرأ القرآن بعد الفجر..سأفتقد هذا الصوت في اليابان و هناك أيضا صوت مذياع والدي ..و صوت نشيد الشيخ مشاري في الكمبيوتر ..و نوح الحمام في النافذة ..اعتدت على هذا الخليط من الأصوات فجرا ..سأفتقدها ..مرت ربع ساعة ... نادتني الوالدة .."الفطور يا عمران" أجبتها بأني شبعان "افطروا أنتم بالعافية"..
كنت مشغولا بالمنتدى ففي هذا الوقت يدخل الأعضاء لتبادل التعليقات حول المواضيع في ساحة الحوار .. إنها ساعة الذروةrush hour" " ..نظرت لقائمة المتواجدين ..يا للحماس ..دخل العضو"المهند " ما جديده اليوم ..لديه أفكار خلاقة و أسلوب مميز في جذب الشباب ..موضوعه الأخير أعجب الفتيات و أغضبهن في نفس الوقت ..لكنهم يستحقون ذلك..فغرورهن و نرجسيتهن تجاوزت الحدود ..في الحقيقة أن الكل ذكورا و إناثا تشدهم مواضيعه التي تسلط الضوء نحو عيوب شباب مجتمعنا بذكاء و مرح تدفعنا للتفكير في التغيير الفعال ..هناك أيضا العضو "عقل جميل " إنه من أكثر الأعضاء الذين استمع بتبادل التعليقات معهم ...فهو الأكثر اختلافا معي ..فالحوار معه تمرين عقلي لكانا و رغم الاختلاف .. لكن يبقى هناك ما يجمعنا ..حب الدين و الوطن ..
كررت أمي النداء "الفطور يا عمران".. هذه المرة لم استطيع الرفض ..يبدو أنني سأقوم الكرسي (إن لم أكن التصقت به) أتوقع أن أجد الجذور نبتت تحتي.. أو بيني و بين مقعد الكمبيوتر المريح هذا ..
متى يخترعون وجبات تخرج من خلف الشاشة ..فقد سمعت عن توصل اليابانيين لإمكانية شم الروائح من الكمبيوتر ..و لا زلت انتظر خبرا عن إمكانية تناول وجبات رقمية افتراضية..
رائحة القهوة التي اخترقت أنفي ووصلت للدماغ..و رائحة الخبز الخارج توا من الفرن..تشدانني نحو السفرة .. أنغام الملعقة التي تتراقص داخل كوب الشاي لتذيب السكر ..تذيب قلبي شوقا لمشاركة الجميع أحاديث الفطور مع متابعة الرسوم المتحركة في القناة الأولى.. تعجبني طريقة أبي السحرية لندائنا للفطور بأنغام فنجان الشاي .. لا أقاومها ..توجهت نحو السفرة و بدأت عملية النهب السريع ..بدأت يدي تمتد هنا و هناك لتخطف من كل طبق لقمة ..و أمي تردد اجلس يا بني الله يهديك و كل بهدوء ستصاب بتلبك ..و أنا عقلي مشغول بالمنتدى ..التهمت أقصى ما قدرت عليه في خمس دقائق نسفت الأطباق..و عدت للجهاز..
يا للهول ..فعلها ذلك الشقي الصغير"مشاري" ..الرضاعة بجوار الجهاز و الحليب مسكوب على الطاولة ..ليت الأمر انتهى هنا ..
ما هذا ؟ أين حرف الضاد .. لا يمكنني الكتابة بدونه ..ماذا لو أردت كتابة عبارة "أنت أفضل الأعضاء " بحرف الدال بدلا من الضاد ..لا استطيع الكتابة بدون الضاد..نظرت نحو مشاري لم استطع اتخاذ أي موقف أمام ابتسامته البريئة..هذه المرة لم أجدها بريئة أبدا..المشكلة أنه لا يمكنني حتى التكشير في وجهه و إلا اتهمت بالعنف و الاستبداد..مع أن الجميع بالمنزل يمارسون الإرهاب نحوي..و أنا صابر..فكلها كم أسبوع و أتركهم لليابان حيث سأبدأ بتمرين شخصيتي القوية على الظهور و أتخلص من هذه الطيبة الزائدة التي لا تنفع في هذا الزمن.
في الحقيقة لولا وجود والدته معنا للقنته درسا لن ينساه و لكني في موقف ضعف الآن ..انتزعت حرف الضاد من بين أسنانه بعد أن نلت منه عضة أليمة ..لمن أشكو ظلمي.. لن يصدقني أحد ..يا إلهي ..متى أذهب لليابان و أتخلص من شقاوة هؤلاء الأطفال المزعجين.. كل خصوصياتي انتهكت و أغراضي دمرت على يد هؤلاء الأطفال و لا أحد يشعر بمعاناتي..الكل هنا يضطهدني .
بدأت عملية الإبحار الصباحية في الانترنت ..أقرأ الصحف ..أتابع الحوار مع الأعضاء في " مبتعث" ..أفحص الرسائل في بريدي..و لا انسي موقع وزارة التعليم العالي في انتظار آخر أخبار بعثات اليابان ..
والدي نام على صوت المذياع ..قمت لأغلق المذياع ..لا أعلم على محطة مفتوح بالضبط ..لا أسمع سوى الضجيج ..مددت يدي لأغلقه فإذا بوالدي يصيح .."ماذا تفعل" ..أجبته "أضبط لك المحطة فقط"..
سبحان الله ..أنا متأكد أنه كان نائم كما أن أصوات المذياع غير مفهومة ..يتركون الصوت مرتفع عشقا للضجيج فقط ..و يغضبون عندما لا أجلس في هذه الأجواء العجيبة..
والدتي و أختي ذهبتا لتواصلا أحاديثهما بعيدا عني ..عندي إحساس أنهما تتآمران لتزويجي قبل البعثة ..يريدان تزويجي بأي طريقة حتى لا أعود لهم بزوجة يابانية ..بالنسبة لي لا أفكر باليابانيات و لكنى أحاول استفزاز أختي أحيانا حتى تأخذ أمر زواجي بجدية..و لكن لا أريد أن يتم اختيار العروسة كيفما اتفق فهذا ارتباط أبدي و ليس بسهولة"سلق البيض"..رغم أني بدأت أقلق من عبارة أختي التي ترددها باستمرار "المتشرط يقع في أسوأ الحظوظ دائما".
واصلت التصفح في الانترنت ..الوقت يمضي سريعا ..أخشى على نفسي من الإدمان ..فقد بدأ الآخرون يصفونني بالانطواء و الانعزالية ..و أنا أكابر و أنكر ذلك.. فلدي علاقات اجتماعية افتراضية مع أصدقائي هنا خلف الشاشة ..أصدقاء رقمين.. عبارة عن مجموعة من الأصفار و الآحاد..و صديقتي الالكترونية "ليزا" تلك الشخصية الكرتونية التي تتنطط على سطح مكتبي برشاقة و أجد لديها إجابة على أي سؤال .. رغم أنني بدأت أمل إجاباتها ..هكذا هي جميع البرامج من هذا النوع ..تبهرنا في البداية ثم نملها.. فلا ذكاء يحاكي الذكاء البشري..سبحان الخالق..
عموما لا مشكلة ..اليوم جمعة و لا بأس بالمزيد من الساعات على الشبكة العنكبوتية ..
الساعة تشير إلى العاشرة الآن ..أشعر بالنعاس..سأعود للفراش ..مررت على غرفة والدتي و تظاهرت بأني أبحث عن عطر" الليمون" في تسريحتها ..علها تفاتحني في موضوع زواجي ..و لكن لم تفعل ..قلت لأختي "أنا ذاهب لأنام ..تركت عيالك لوحدهم و الوالد نائم"
قذفت أختي سؤالا كالقنبلة "ألم تذهب إلى العمل بعد ".. أختي هذه دمها خفيف و تحب المزح ..هذه المرة شعرت أنها" تصرفني " بمزحة ثقيلة.. أجبتها.. " أتريدنني أن أعمل في يوم الجمعة أيضا" ردت علي " يوم الجمعة !! اليوم سبت و أنا هنا اليوم لأن عندي موعد في المستشفى المجاور لمنزلكم..
June 9th, 2007, 09:22 AM
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته..هذه قصة خيالية كتبتها من الفضاوة..
و حتى هذه اللحظة مترددة انزلها ولا لأ ..
يلا ..اكتبها و الله يعين ..لا تنسوا ..القصة خيالية ..
الله أكبر الله أكبر ..أشهد أن لا إله إلا الله.. أشهد أن محمدا رسول الله ..حي على الصلاة ..حي على الفلاح ..الله أكبر الله أكبر ..لا إله إلا الله"
"الحق و العزة لله" ..عبارة خرجت من قلبي قبل لساني ..إنه أذان الفجر ..ما أعذب صوتك يا شيخ محمد ..مؤذن مسجد حارتنا ..اعتدت على سماع هذا الصوت العذب الدافئ يخترق سكون آخر الليل ..هذا الصوت الذي كنت انتظره ليوقف سيل الهواجس و الأفكار التي تتضارب في رأسي طول الليل ..أرق و قلق ..و لا يشاركني هذه الأفكار إلا الوسادة التي أكاد أسمع صوتها تردد "يكفي..اصمت يا عمران أريد أن أنام" ..كلما تذكرت اقتراب موعد ابتعاثي لليابان يضيق صدري ..فعلى أي صوت سأستيقظ لصلاة الفجر هناك في اليابان ..
أشعر بكسل شديد ..لا أستطيع رفع رأسي من الوسادة التي تشده كالمغناطيس ..اللحاف يحضنني بحنان ..المكيف يمرر نسماته الباردة على قدماي الخارجتان من اللحاف.. ثلاثتهم تآمروا علي.. الوسادة و اللحاف و المكيف في إغراء شديد لمواصلة النوم ..
دخلت والدتي و أطفأت هذا المكيف اللعين الذي أثقل رأسي بأنفاسه الباردة..و نادت "الصلاة يا عمران"..رميت اللحاف و نهضت بسرعة ..قبل أن يتحطم باب الغرفة من ضربات والدتي عليه.. توقظني و كأنها توقظ أطرشا..لو فعلتها باليابان ربما تعرضت البلاد لزلزال..و رغم ذلك فإن دفء صوتها ينسيني إزعاج تلك الطرقات العنيفة ..
لم أشبع من النوم و لكني وعدت نفسي بأن أواصل النوم حتى الظهر بعد عودتي من المسجد..و أنني لن استيقظ حتى لو تعرض المنزل لهجوم إرهابي ..فبي جوع شديد للموت ..أقصد للنوم ..
أوه ..الحمام مشغول ..أتمنى أن لا يكون أخي الصغير نائم بالحمام كالعادة اقتربت من الباب ..سمعت صوت فرشاة الأسنان الكهربائية..إنه عمر.. كم يغيظني هذا العمر..من الأفضل أن يذهب لمعرض" التلميع الساطع" لتلميع السيارات عله يجد حلا لمشكلة اهتمامه الزائد بأسنانه.. لن ينتهي قبل ربع ساعة ..متى أتزوج و استقل بحياتي و أتخلص من هؤلاء الإخوة المزعجين..كل شيء بالدور ..حتى الحمام .. و الأولوية لمن يسبق بدون أي اعتبار لكوني أكبرهم..
ذهبت لحمام الضيوف ..الجو اليوم في غاية البرودة.. الماء بارد جدا..رائحة الصابون قوية و رائعة ..لا أعلم لماذا هي بهذه الروعة في الفجر .. هل لأن حاسة الشم تتنبه عند الاستيقاظ..أم هو الصابون يتفاعل مع نسيم آخر الليل ..هل السر في أنفي أم في الصابون ..هل الأشياء في هذه الحياة جميلة فعلا أم هي تبدو جميلة لأننا نريدها كذلك ..
يذكرني الوضوء في هذه الأجواء الباردة فجرا بالأيام التي نقضيها في الطائف في الإجازات ..أجواء سياحية منعشة ..
أقيمت الصلاة و أنا لا زلت بالمنزل استمتع بالأجواء الفندقية ..يا للخزي.. ما موقفي الآن أمام "الأمم المتحدة" و من يخلصني من تعليقات إخوتي الصغار اللذين يتصيدون أخطائي..تسللت بهدوء من الباب الخلفي و اغلقت الباب بحرص حتى لا يصدر أي صوت ..التفت للخلف فإذا بعمر خلفي يفاجئني بابتسامة خبيثة ..رددت بابتسامة صفراء فأنا أفهم سر هذه الابتسامة يا عمر .
صلينا..و عدت من الصلاة ..تطربني تسابيح العصافير ..بعضها يسبح ..و بعضها انتهى من التسبيح و بدأ يتغزل في محبوبته و بعضها يئن من آلام الفراق..و بعض الحمام يعزف على أوتار الوحدة و الغربة بنياح يقطع القلب..
يا ترى هل أصوات عصافير اليابان مثل عصافير حارتنا ..
طبعا طار النوم من عيني ..و تخليت عن وعودي للوسادة و اللحاف بعودة سريعة..رن هاتفي النقال..إنه الوالد..
" بالله يا عمران مر في طريقك على محل الفول و جيب لنا بريالين فول و ريالين تميس, أختك جاية تفطر معنا اليوم"
في محل الفول تواصلت الأفكار ..هل توجد محلات فول و تميس باليابان ..هل يشربون الشاي مع الحليب المركز هل يوجد لبن زبادي هل عندهم حليب خلفات ..تمر ..هيل....أوه ..ما هذه الأفكار الساذجة ..هل أنا ذاهب لآكل ما اشتهي أم لأدرس..
كم يشغلنا اشباع شهواتنا عن اشباع عقولنا ..
قابلت ابن جيراننا في البقالة يطلب من البائع بكت "مريت" ..ما هذا القرف ..سجائر في هذا الفجر ..يظن أن التدخين رمزا للرجولة..تذكرت أختي عندما تقول لزوجها عندما كان يدخن (و قد كاد أن يخسرها بسبب هذه العادة المقرفة) " أنتم الرجال من أكبر أساب التلوث بالعالم ..تثقبون الأوزون بدخان السجائر ..و ثقبون قلوب النساء بالكذب .. أتظنون أن هذه هي الرجولة؟!"
السجائر..أعتقد أن هذا الشيء الوحيد الذي تجده في كل المحلات في العالم أما الأشياء الجميلة كالفول و الخبز التركي و اللبن الزبادي و القشطة و الرمان و البطيخ ..و القلوب الطيبة الوفية..
هل سأجدها في اليابان؟ .
عدت إلى المنزل استقبلني ابن أختي الصغير ذو السنتين ..مشاري..ما أجمل الأطفال رؤيتهم و ملاعبتهم تعيدنا لعالم الطفولة ..أمامهم تسقط كل الأقنعة و يظهر الأطفال بداخلنا الذين خنقناهم بالغطرسة و الغرور أو ربما خنقتهم الهموم ..
لا أستطيع حتى التفكير في فراقهم طيلة سنوات دراستي ..تداعت إلى ذهني عبارة لأحد المبتعثين عندما شاهد الأطفال في أحد الاحتفالات التي أقامتها الملحقية في بلد الاغتراب فردد "أوووووووه ..أطفال.. و سعوديين ..و بجامعتي "
هل سيعذبني الشوق لهذه الدرجة مثلك يا ""toad3هناك في اليابان ..
العبارة السابقة للمبتعث toad3"" أحد أعضاء منتداي المفضل على الانترنت "مبتعث".. ذكرتني بالمنتدى ..رميت كيس الفطور في الصالة و توجهت فورا نحو الكمبيوتر ..جلست على المقعد المريح و مددت ساقاي على رف طاولة الكمبيوتر السفلي ..فتحت جهازي العجوز ..كم هو بطيء لدرجة ترفع الضغط ..كلما طلبت من والدي تغيره ردد "قديمك نديمكم لو الجديد أغناك"..
صوت أحمد "ميدو" ذو الستة أشهر في الصالة ..نظرت نحو الصالة فإذا بهذا للصغير يهجم حبوا نحو كيس الفطور ..يا للهول ..ضربة واحدة بيد هذا الإرهابي الصغير على الكيس و تنتشر أشلاء الفول في أنحاء الصالة ..صحت"لاااااا "..أرجووك ليس الآن ..لست على استعداد للخروج من المنزل من أجل كيس فول بريالين ..قفزت نحوه مسرعا و حملته بعيدا.. أطلق ضحكة بريئة يظن أنني ألاعبه و لا يدري أنني كنت أحمي السجادة من دمار محقق في حال قام هذا الشقي بتفجير كيس الفول..